قادها الفارس الذي رافقها حتّى وصلت فينيا إلى منزل زعيم القرية.
و حين فتحت الباب و دخلت، رأت رجلًا ضخمًا يتأمل أوراقًا كُتب عليها أسماء و أرقام باهتمام بالغ. و خلفه، كانت الغرفة مكتظّةً بأهل القرية الذين لم يُصابوا بعد، و يبدو أنهم استخدموا منزل الزعيم كمأوى مؤقت.
“القائد!”
“هولتن؟ ما الذي أتى بك إلى هنا…”
رفع الرجل الضخم رأسه. بشرته المليئة بالندوب، إلى جانب هيئته القوية، منحتاه مظهرًا شرسًا.
لكن في اللحظة التالية، قفز الرجل الذي بدا و كأنه قادر على إسقاط دب بيديه العاريتين من مكانه بوجهٍ مذهول، و أدى التحية باحترام.
“إنهُ لشرفٌ لي أن ألتقي بمجد تيسيبانيا. أنا بيردو ماكّان، قائد فرقة فرسان الفجر.”
“آه، نعم، أذكر أنني رأيتك في حفل الزفاف.”
“بلى، لقد رافقتُ قائد فرقة الفجر للقائكم آنذاك.”
“يكفي هذا من المجاملات. أودّ سماع تفاصيل الوضع. هل هناك وباء ينتشر؟”
“نعم، جلالتك. من فضلك، تفضّلي من هذه الجهة.”
قادها نحو الطاولة. و كانت الأوراق المكدّسة عليها دليلًا واضحًا على كمّ الجهد الذي بذله لحلّ هذه المشكلة في وقتٍ قصير.
و على عكس ما سمعته، بدا أن الوفيات قد بدأت بالفعل في القرية. لقد عزلوا المرضى على عجل، لكن العدوى كانت قوية للغاية بحيث لم تنجح أي وسيلة علاج بشكلٍ فعّال.
“هل يوجد طبيب مقيم في هذه القرية؟”
“لا، لقد أرسلنا أحدهم إلى أقرب قرية فيها طبيب، لكنها تبعد مسيرة يوم كامل دون توقف. و ما يقلقنا الآن هم المرضى في حالات حرجة.”
نقرت فينيا بأطراف أصابعها على الأوراق.
ما العمل؟ بعد أن قيّمت الوضع، وجدت أنه لا يختلف كثيرًا عمّا رأته في التكرارات السابقة. إذا استمر الأمر بهذا الشكل، فخلال أسبوع سيموت نصف سكان هاكشيا و القرية المجاورة أوركان بسبب هذا الوباء.
فكّرت في الخيارين : أن تنتظر وقوع عدد من الوفيات قبل التدخّل لحل الأزمة بشكلٍ دراماتيكي، أو أن تتدخل من البداية. كانت توازن مئات الأرواح في كفّتي الميزان، تنقل الثقل من جهة إلى أخرى.
ثم، و بعد أن فكّرت في مدى صبر تيسيبانيا المتبقي على “سيف تاتار غير الضروري”، وصلت أخيرًا إلى قرار.
‘عليّ أن أُنهي هذا بسرعة.’
لكن بما أنه لن يكون منطقيًا أن تصل الإمبراطورة فجأة و تجد الحل فورًا، فهي بحاجة إلى ظرف يُمكّنها من “اكتشاف” الحل دون إثارة الشكوك.
‘و لكن… يبدو أن الأمور قد تعثّرت منذ البداية.’
بسبب محادثتها معَ القائد بيردو، بدأت نظرات القرويين تتغير، و أصبحت مشوبة بالقلق حين علموا أنها الإمبراطورة.
لقد قيل إن القرية انقسمت بسبب الحرب.
و رغم أنهم صغّروا عدد السكان لتقليل عدد المجنّدين، إلا أن شخصًا ما كانَ لا بُدَّ أن يذهب، و ليس الجميع حالفهم الحظ في العودة. لم يكن من الغريب أن يشعر القرويون، الذين فقدوا أحباءهم، بالقلق تجاه إمبراطورة من فيشنو.
لكن فينيا لم تُعر تلك النظرات أي اهتمام، و أكملت قراءة الأوراق التي نظّمها بيردو.
و بحسّ دقيق، أشار بيردو للقرويين بالصعود إلى الطابق العلوي، ثم انحنى قليلًا و هو يقول:
“أعتذر إن شعرتِ بعدم الراحة، جلالتك. لقد كانت هذه القرية من أكثر الأماكن تضررًا بسبب الحرب، و لهذا يضمرون كرهًا عميقًا تجاه فيشنو.”
“لا بأس. أما أنت، إن كنت غير مرتاح، فـربما من الأفضل أن تغيّر مكانك.”
“لست متأكدًا مما تعنين…”
وضعت فينيا الأوراق و نظرت إليه.
لم يكن هناك موضعٌ واحد خالٍ من الندوب في يديه المكشوفتين، و عنقه، و وجهه. و بشكل خاص، كانَ الجرح الطولي الممتد وسط عنقه يوحي بأنه كانَ على وشك الموت في وقتٍ ما من حياته.
“كانت الحدود واحدة من أعنف ساحات المعارك. أعلم أن تيسيبانيا تكبّدت أضرارًا جسيمة، تمامًا كما حصل مع فيشنو. لا بد أن عددًا لا يُحصى من الفرسان قد لقوا حتفهم، خصوصًا فرسان الفجر.”
“…”
لم يردّ بيردو، لكن صمته كانَ بمثابة تأكيد.
حتّى الآن، في حجرته الخاصة، كانت لَوحات الأسماء التي تحمل أسماء فرسان فرقة الفجر الذين لقوا حتفهم في الحرب معلقة على أحد الجدران. لا يزال العديد من الفرسان يعانون من آثار الحرب، و قد كانت فرقة فرسان الفجر، التي دافعت عن الحدود، من بين الأكثر تضررًا.
“لن أنكر ذلك. غير أن جلالتكِ تمثلين أيضًا النهاية الحقيقية لتلك الحرب الرهيبة. بين الاستمرار في الحرب بدافع الانتقام، و قبول الهدنة و دفن أحبابنا، لا شك أن أيّ شخص سيختار الثانية.”
لكن، ليس هذا هو الحال دائمًا.
سواء اندلعت الحرب مجددًا أم لا، فقد كانَ هناك دائمًا من يحاول الاغتيال بدافع الانتقام في كل تكرار زمني. حتّى قائد فرسان الإمبراطورية، بيردو، الذي يقف أمامها الآن، كانَ أحيانًا يدعم المتمردين.
“في الوقت الراهن، أنا أخدم كقائد لفرسان الإمبراطورية، و أتبع جلالتكِ التي تقود تيسيبانيا. أرجو ألا تشكي في ولائي.”
أومأت فينيا بخفة. كانَ ذلك أفضل تعبير يُمكن أن تبديه تجاه شخص لم يعش تجارب التكرار الزمني.
“وفقًا للتقرير، العدوى تنتقل عبر التلامس، لكن نسبة انتقالها تبلغ النصف فقط. هل تم الاشتباه بأي مصدر محتمل للعدوى؟”
“نبحث في كل الاحتمالات، لكننا لم نتوصل إلى سبب دقيق حتّى الآن.”
“هممم.”
رغم أنها كانت تعرف السبب و الحل مسبقًا بفضل التكرارات المتعددة، إلا أنها كانت تتساءل كيف تمكّنت يورين من اكتشاف مصدر العدوى و حل المشكلة.
كانت تظن أن أحدهم لا بُدَّ أنه ساعدها، لكن من المستحيل التأكد دون العودة إلى تكرار سابق.
“أودّ إلقاء نظرة على القرية.”
“أرجوكِ أعيدي النظر، جلالتك. من الخطر أن تتجولي بنفسك.”
دون أن ترد عليه، أخرجت فينيا منديلًا من صدرها، غطّت به وجهها، و فتحت الباب لتخرج. أسرع بيردو يلحق بها.
“سنُلقي نظرة سريعة فقط على الخارج. أرجوكِ لا تلمسي أي شيء… جلالتك!”
صاح بيردو بذهول حين رآها تلمس جدار أحد المنازل بيدها المرتدية للقفاز.
من دون أن تبدي أي رد، نفضت فينيا التراب عن قفازها، ثُمَّ توجّهت إلى منزلٍ آخر قريب، تفعل الشيء نفسه، فالتصق الطين الرطب بأطراف قفازها من جديد.
“سأصدر أمرًا للسحرة بإعداد دائرة سحرية للعودة الفورية إلى القصر.”
“لا تُعقّد الأمور، يا سيدي. لقد استنزفوا طاقتهم بالفعل بسبب عدد الأشخاص الكبير. سيحتاجون إلى نصف يوم على الأقل من الراحة قبل أن نتمكن من العودة.”
أشارت فينيا إلى عدة منازل.
“ذلك المنزل، و ذاك، و هذا هنا. هل تعرف من يسكن هذه البيوت؟”
“نعم، جميعهم موجودون الآن في العزل، معَ باقي المرضى، في مخزن القرية المُحول.”
“رغم أن الأعراض ظهرت في الوقت نفسه، لا بُدَّ أن هناك من أُصيب أولًا. وهؤلاء جميعًا هم سكّان البيوت التي أشرتُ إليها.”
“كيف عرفتِ ذلك، جلالتكِ…”
“أين مكان العزل؟”
“من الجهة تلك. لكن سيكون من الأفضل ألا تقتربي-“
لكن فينيا تجاهلت كلامه تمامًا، و سارت باتجاه المخزن الخشبي. و ما إن اقتربت يدها من مقبض الباب، حتّى اندفع أحدهم من الداخل و قفز نحوها.
“-آه!”
أسرع بيردو و سحب الطفل الذي قفز في أحضان فينيا، فسقط الى الخلف و تدحرج على الأرض.
“هل أنت بخير؟”
“نعم.”
كانَ صبيًا يبدو في السابعة من عمره.
و رغم أنه خرج للتو من المكان الذي يُحتجز فيه المرضى، إلا أن وجهه لم يحمل أي علامات مرض. و ما إن رفع رأسه قليلًا، حتّى ظهر خلفه أطفال آخرون بوجوه مذهولة. كانوا نحيفين بعض الشيء، لكن لا يبدو عليهم المرض.
و من وجوههم المرتبكة و طريقة نظرهم إلى رد فعل بيردو، بدا أنهم قد ضُبِطوا متسللين.
“هؤلاء الأطفال أُصيبَت عائلاتهم بالكامل بالمرض. لم تظهر عليهم الأعراض بعد، لكن بالنظر إلى الوضع، فـمسألة الوقت فقط لا غير، لذا وُضعوا في الحجر معَ ذويهم.”
“نحن… نحن آسفون، سيدي القائد…”
تحت وطأة نظرة بيردو الصارمة، انكمشَ الأطفال في أماكنهم، لكنهم لم يكونوا وحدهم الذين أصيبوا بالخوف.
فقد نهض عدد من القرويين الممددين على الأسرة داخل المبنى على عجل عند سماع الضجة. بدَوا و كأنهم يرغبون في الركض فورًا لانتشال الأطفال، لكن ضعف أجسادهم لم يسمح لهم سوى بالخبط بأقدامهم بقلق.
وقفَ بيردو أمام الباب بوجه جامد، يحول بينهم و بين الخروج.
“أغلقوا الباب و عودوا إلى الداخل! بسرعة! جلالتكِ، علينا المغادرة فورًا. سأقوم أولًا بتأمين ملابس جديدة لكِ.”
“لا داعي لذلك. بل على العكس، لقد وفّر علينا هذا الموقف عناءً كثيرًا.”
أشارت فينيا إلى بيردو كي يتنحّى، ثم ركعت أمام الطفل الساقط و نظرت في عينيه. من داخل المبنى، صاح رجل و امرأة يبدو أنهما والداه بدهشة :
“روندو! تعال فورًا! بسرعة!”
تردّد الطفل المرتبك بين نظرات بيردو الجادة و صيحات والديه، و امتلأت عيناه بالدموع.
“رو-روندو… أخي…”
بدأ الأطفال الآخرون في البكاء بأنوفهم الصغيرة، بينما نهض كل من استطاع من القرويين و راح يراقب المشهد بقلقٍ بالغ.
أما فينيا، فلم تُعر كل ذلك انتباهًا. احتضنت جسد الطفل الساقط و ساعدته على الوقوف.
“جلالتكِ!”
“اصمت، يا سيدي. أنتَ و تابِعُك متوتران أكثر من اللازم.”
نقرت بلسانها بخفة، ثم تلطّفت نظراتها و هيَ تنظر إلى الطفل.
“إذًا، يا روندو. هل أُصبت بأي أذى؟”
“أممم… لا…”
“هذا جيّد. إلى أين كنت ذاهبًا معَ أصدقائك؟ لا بأس، يمكنك أن تخبرني. سأحميك من القائد المخيف خلفي.”
“كنا… كنا ذاهبين لجلب الدواء…”
“دواء للوباء، تقصد؟”
“نعم! لم نُصب بالمرض لأننا تناولناه! هذا صحيح، أرجوكِ صدقينا!”
و انتهز باقي الأطفال الفرصة و هرعوا نحو روندو، يحيطون به و يؤكدون كلامه.
“صحيح! هناك دواء بالفعل!”
“أرجوكِ لا تُعاقبي روندو!”
تجمّد بيردو في مكانه، عاجزًا عن اتخاذ قرار، و قد ارتسمت على وجهه ملامح الحيرة. لم تُسجَّل أي حالة عدوى بسبب مخالطة الأطفال عديمي الأعراض حتّى الآن، لكن المسألة لم تكن عادية.
في الظروف الطبيعية، ما كانَ لهؤلاء الأطفال أن يجرؤوا حتّى على النظر في وجه شخصية مرموقة مثلها. و لو تسبّبوا في إصابتها بالمرض، فقد يُعاقَب الجميع، و رُبما تُمحى القرية بأكملها من الوجود.
و بينما ظلَّ واقفًا لا يدري ما يفعل، كانت فينيا تُنفض الغبار عن ثياب روندو بلُطف.
“حسنًا إذن، دعنا نذهب لرؤية هذا الدواء. أين هوَ؟”
“جلالتكِ، ذلك الذي يتحدثون عنه ليس سوى عشبة بريّة. جرّبناها بالفعل على بعض الفرسان، و لم تُظهر أي تأثير يُذكر.”
“قد أكتشف شيئًا لم تتمكنوا أنتم من ملاحظته. روندو، هل ستدلّني إلى المكان الذي كنت تنوي الذهاب إليه؟”
“أه، نـ – نعم!”
مدّت فينيا يدها نحو الطفل الذي أومأ برأسه بتردد. و لما نظر إلى يديه المتسختين في خجل، أمسكت بيده المغبرّة بيدها المرتدية للقفاز دون تردد، دلالة على أنها لا تبالي.
و قد اتخذ قراره أخيرًا، فـقاد روندو فينيا نحو المكان المنشود.
“ليس بعيدًا! إنه على التلّ خلف القرية!”
ابتسمت فينيا برقة و هيَ تنظر إلى يدها الممسكة بيد الطفل المتحمس. كانت ابتسامة صُممت خصيصًا كي يراها القرويون جميعًا.
و أخيرًا، ارتفعت ستارة الكوميديا. لقد حانَ وقت أداء دور “الزنبقة المباركة”.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "16"