صُدمت يورين. هل سبق أن أُهينت بهذا الشكل المباشر في حياتها؟
‘مُرتاحة؟ لأن وجهي لا يناسب ذوق أخي؟’
حتّى أولئك الذين همسوا عن نسبها لم يتجرأوا على التحدث بهذه الصراحة.
‘امرأة في منصب إمبراطورة الإمبراطورية، يفترض بها التحلي بالكرامة دائمًا، تُهين الآخرين بهذا الأسلوب الفظ!’
بينما كانت تحدق في ظهر من تفوهت بتلك الكلمات و استدارت مبتعدة، قبضت يورين يديها المرتجفتين بقوة، يملؤها الإذلال. إن كانَ في هذا العالم أناس أشرار، فهل سيبدون مثل تلك المرأة؟
امرأة من بلد عدو، لا تنتمي إلى أي مكان. بدافع من التعاطف، كانت يورين قد أظهرت لها اللباقة، بل و راودتها فكرة مساعدتها في العودة إلى بلدها إذا رغبت، من خلال التعاون معَ شقيقها.
لكن، ما الجدوى من كل ذلك إذا كانَ الطرف الآخر يتصرف بهذا الشكل قبل أن تُبنى بينهما أي علاقة حقيقية؟
في يوم واحد فقط، ترسخ حُكم يورين على فينيا في قلبها. امرأة شيطانية. كما يشاع، كانت خبيثة، و من المؤكد أنها ستُشكل عائقًا في مستقبل تاتار.
راحت يورين تنقر أظافرها بتوتر. لا بد أن والدتها الآن قد علمت بأنها تلاعبت بالدعوة التي أُرسلت باسم العائلة للمجيء إلى هنا. ربما لن يُسمح لها بمغادرة القصر لفترة بعد عودتها.
“لا، إن لم يكن الآن…”
من خلال تواصلها سرًا معَ كاهن كان قد ساعدها سابقًا، حصلت على معلومة تُفيد بأن سيفيتيانا محفوظة سرًا في المعبد.
سيفيتيانا… ما هي مرّة أخرى؟
جوهرة خُلقت من قِبل الإله. كنزٌ مقدس قادر على تحقيق معجزة واحدة.
“لو حصلتُ عليها فحسب، لاستطعت أن أكون معَ تاتار. مهما كانَ العائق الذي يفصل بيننا…!”
استدارت يورين بوجهٍ يملؤه التصميم الصلب.
كانَ هناك من يُراقب خُطاها المتسارعة و هي تغادر – إنها فينيا، على ظهر الحصان الذي جلبه لها نائب القائد. حدقت في ظهر يورين للحظة، ثم حولت بصرها بعيدًا.
“يا لها من هوسٍ لافت.”
“عفوًا؟”
“لا شيء. لننطلق.”
أمسكت فينيا باللجام و هزته بقوة، فانطلق الحصان للأمام.
نسيمٌ بارد داعب وجنتيها.
رغم أنها تعمدت استفزاز يورين لدفعها بعيدًا، إلا أن ذلك الهوس كانَ دومًا مذهلًا، مهما تكررت رؤيته. ما الذي يدفعها للحركة بكل هذا اليأس؟ ذكريات الماضي معَ تاتار؟ أم ربما المستقبل الذي تخيلته برفقته ذات يوم؟
“كم هو مؤسف.”
خصوصًا حين يكون الطرف المُعنى بالأمر لا يُلقي لها بالًا حتى.
و معَ لحظة تعاطف عابرة، مسحت فينيا صورة يورين من ذهنها. فهناك ما هو أكثر أهمية بكثير من القلق بشأن تفاهات كهذه.
—
غادرت الإمبراطورة.
فور تلقيه الخبر، وضع تاتار الأوراق التي كانَ يعالجها جانبًا و نهض من مقعده.
اخذَ السيف الطويل المعلّق على الجدار. لم يكن زينة فحسب، بل كانَ سيفًا حقيقيًا قادرًا على قطع عنقين بضربة واحدة.
“يبدو أن عليّ التعامل أولًا معَ أكثر الأمور إزعاجًا مما تركته الإمبراطورة خلفها.”
رغم تحرك الإمبراطور المفاجئ متجاهلًا الجدول الزمني، لم يجرؤ أي من الحاشية التي تبعته على سؤاله عن وجهته، فقد شهد القصر الإمبراطوري مؤخرًا حمام دم لا يتوقف.
و بعد وقت قصير، وصل تاتار إلى الغرفة التي يقيم فيها والده، الإمبراطور السابق، و أصدر أمره :
“افتحوا الباب.”
ارتبك الفرسان الذين كانوا يحرسون الباب و تبادلوا النظرات بقلق.
حتّى بالنسبة لإمبراطور، فإن المجيء دون سابق إنذار كانَ يُعد تصرفًا غير لائق. فهذه لم تكن غرفة أي نبيل عادي، بل غرفة نوم الإمبراطور السابق الذي حكم الإمبراطورية لسنوات طويلة.
وقعت أنظار الفرسان على خصر تاتار.
“نعتذر، جلالتكم. لا يُسمح بدخول هذه الغرفة بالسلاح.”
نقر تاتار بلسانه بانزعاج.
كانَ قد سمع ما قالته الإمبراطورة قبل مغادرتها، لذا لم يكن بإمكانه استخدام سيفه بتهوّر، لكن اتباع الإجراءات الرسمية كانَ مزعجًا، و لم يكن راغبًا في الذهاب و الإياب مرارًا من أجل أمر تافه كهذا.
فما العمل؟ و بينما كانَ تاتار ينقر بأصابعه على مؤخرة سيفه مترددًا، و قبل أن يُمسك بمقبضه.
بانغ!
“…ادخل.”
ظهر الإمبراطور السابق بنفسه، و قد فتح الباب الثقيل بيديه.
ماكسيول دي تيسيـبانيا. الرجل الذي خاض حربًا طاحنة ضد إمبراطورية فيشنو طوال عمره، ثم اضطر إلى التخلي عن سلطته و غضبه دفعةً واحدة عقب قراره إعلان الهدنة.
و رغم تقدمه في السن، فإن بنيته الجسدية كانت لا تزال مُهيبة، إذ لم تبهت آثار المعارك التي خاضها بسهولة.
و أمام والده، راح تاتار يتأمل للحظة كم من الزمن مرّ منذ آخر لقاء بينهما.
و ربما لأنه نادرًا ما قابله في مرات التراجع الخمس الأخيرة، فقد بدا اللقاء غريبًا، كما لو كانَ يواجه شخصًا مات منذ زمن بعيد. بل لعلّه بدا كذلك أكثر لأنّه قد أقام جنازته لأكثر من عشر مرّات.
تبع تاتار والده بنظره إلى داخل الغرفة، ثم وقعت عيناه على الجدار.
‘آه، صحيح. لقد نسيت هذا الأمر لوهلة.’
تذكّر الآن سبب عدم رغبته في المجيء إلى هذا المكان من البداية.
نظر تاتار باقتضاب إلى الإطار الموضوع على الرفّ القريب منه، ثم حوّل بصره إلى الإطارات المعلّقة على الجدران المحيطة.
صور لامرأة ذات شعر بُني داكن مشدود بإحكام دون خصلة واحدة خارجة عن موضعها، و عيون سوداء ذكية، تملأ المكان دون أن تترك مساحة فارغة. جميعها لذات الوجه، لنفس المرأة.
نصف تلك الصور رُسمت في حياتها، و النصف الآخر بعد موتها.
بورتريهات غُرِس فيها هوسٌ و حنينٌ جامح لشخصٍ لم يعد بالإمكان لقاؤه، و قد اجتمعت في مكانٍ واحد، حتّى بدا و كأن عشرات العيون تراقب الغرفة بصمت.
و معَ ذلك، لم تكن من بينها أي صورة للابن الذي وُلد من هذه المرأة العزيزة. فـحين يتعفن الحنين و يتحوّل إلى ركود، لن يتبقى مكانٌ حتّى للنظر حولك.
“أمّي كانت لتشعر بالاشمئزاز لو رأت هذا.”
“اذكر سبب مجيئك أولًا.”
قال الإمبراطور السابق، و كانَ يُحدّق في عيني المرأة المرسومة كما لو أنه يُحادثها، قبل أن يعبس قليلًا و يحوّل نظره إلى تاتار.
“لا تقُل لي إن أميرة فيشنو تُدبّر شيئًا ما؟”
“لرجُل لم يحضر زفافي لمجرد أن اسم ‘فيشنو’ يُثير قشعريرته، تبدو سريعًا في إطلاق الأحكام. و انتبه لألفاظك. هي ليست أميرة فيشنو، بل إمبراطورة تيسيـبانيا.”
“أنت…”
اقترب الإمبراطور السابق من تاتار و حدّق فيه بعينين ملبدتين بالغيم.
“لقد تغيّرت. هل السبب هو الأميرة؟”
“ليست أميرة، بل إمبراطورة. لا تجعلني أكرر نفسي.”
“أتظنني سأعترف بشخص من فيشنو كـعضو في تيسيـبانيا؟ تاتار، شعب فيشنو هم من قتلوا والدتك!”
“أمّي توفّيت لأنها كانت ضعيفة. هي من لم تتحمل خبر موت خالي و انهارت.”
ارتجف الإمبراطور السابق غضبًا حين سمع هذه الكلمات الباردة.
“ألستَ تدري لماذا مات خالك؟!”
“مات بسهمٍ في حربٍ معَ فيشنو. و ذلك أيضًا لأنه كانَ ضعيفًا.”
لم يستطع الإمبراطور السابق كبح غضبه أكثر، فرفع يده-
صفعة!
احمرَّ خدّ تاتار على الفور.
و السبب في عدم تجنّبه للصفعة، رغم أنهُ كانَ قادرًا تمامًا على ذلك، لم يكن احترامًا لأبيه، بل لأنه لم يشعر بأي ندم تجاه ما حدث.
مُجرّد إحساسٍ مزعج لا أكثر. فـقتل شخص عالق في الماضي لن يُنهي التكرار، و حتّى لو تكبّد عناء قتله، فـسيجده يتنفس من جديد بعد الموت و التراجع، فما الجدوى؟
اكتفى بإلقاء السيف الذي أحضره عند قدمي الإمبراطور السابق، ليُنهي المهمة التي طلبتها منه فينيا و يغادر.
“سأُحضر الرسّام الذي تولّى رسم صور الأم في طفولتها، لترسم ما تشاء كما ترغب. و سأرسل إليك أسبوعيًا عددًا من المحكوم عليهم بالإعدام من مواليد فيشنو. سأمنحك سلطة التصرّف بهم. وفي المقابل، لا تحضر اجتماعات مجلس الدولة في الوقت الحالي.”
“لم يمضِ شهران حتى على تخلِّيّ عن العرش! لولا الهدنة، لما كنت لتتجرأ على الجلوس على هذا العرش من الأساس!”
“هاه…”
تنهد تاتار و أمال رأسه إلى الخلف.
و الآن بعد أن فكّر بالأمر، فقد جلس على العرش مدةً تضاعف ما قضاه الإمبراطور السابق، إلا أن الشخص الوحيد الذي يعترف بذلك لم يكن موجودًا في القصر حاليًا.
و حين أنزل نظره مجددًا، حدّق تاتار بوجهٍ بارد إلى الإمبراطور السابق.
“أنا لست من تخلّى عن العرش لابنه خوفًا من انقلاب. فلا داعي لتتصرف و كأن لك حقًا في منصب لا يمكنك استعادته على أية حال.”
“كيف تجرؤ…! ما الذي قالته لك تلك الأميرة بحق السماء؟!”
“قلت لك، ليست أميرة، بل إمبراطورة. اصبّ غضبك الباقي على الهدايا التي سأرسلها، و سأنصرف الآن.”
أومأ برأسه قليلًا واستدار ليغادر.
دوّى صوتُ تحطُّمٍ خلفه، لكنه تجاهله تمامًا و خرج من الغرفة. ثم أمر الخدم الذين تبعوه :
“عيِّنوا أربعة من فرسان الفجر هنا لحراسة الباب. و أبلغوني بكل تحركات الإمبراطور السابق حتّى تصدر أوامر أخرى.”
“مفهوم.”
لم يتبقَّ الآن سوى إنهاء المهمة التي كانَ من المفترض أن تتولّاها فينيا منذ البداية.
و بفضل التجارب المتراكمة عبر التكرارات، فلن يستغرق إنهاء الأوراق البسيطة وقتًا طويلًا. أما الباقي، فـمُجرّد انتظارٍ صامت متظاهرًا بأنه شخص طبيعي حتّى تعود فينيا.
لكن، كم من الوقت مرّ على مغادرتها؟ و رغم قصر المدة، بدأ شعورٌ بالوهن يسحقه ببطء.
“كم هو مرهق…”
كأنه دَخَلَ إلى لوحة باهتة. لم يكن يملك العزيمة القوية التي دفعت فينيا إلى تتبع الأدلة التي تركتها سيفيتيانا.
لم تكن حالته الذهنية مستقرة بما يكفي لتحمّل اليأس الذي يتسلل بعد انهيار الأمل.
أنظر إلى هذا الآن … الممرّ الذي بدا عاديًا منذ لحظة، كانَ مغطّىً فجأةً بدمٍ أسودٍ كثيف. و ما إن رمش مرتين، حتّى عادَ إلى حالته الفارغة المعتادة و كأن شيئًا لم يحدث.
كوابيس الليل بدأت تزحف إلى نهاره. إنها شظايا من عقله المتهاوي، لا يستطيع الهرب منها إلا حين تكون فينيا بجانبه.
بدأ يحسب في ذهنه موعد عودتها. ما لم يحدث طارئ كبير، فسيستغرق القضاء على هذا الوباء حوالي ثلاثة أيام. و حتّى ذلكَ الحين، ستظل فينيا بعيدة عن القصر الإمبراطوري.
هنالك فرقٌ شاسع بين أن لا ترى شخصًا و أنت تعلم أنه قريب، و بين أن لا تراه لأنه بعيدٌ جدًا حتّى عن متناول يديك.
رغب في إعادتها فورًا، لكنه لم يستطع إنكار أن الحصول على لقب “زنبقة البركة” سيساعده في تعقّب أدلّة سيفيتيانا.
فقد عاش كـإمبراطورٍ طاغية في أحد التكرارات، و يعلم تمامًا كم يصبح التحكم بالسلطة أسهل كلما كانت سمعته أقوى.
و لكن، إن لم يستطع استرجاع فينيا … فـكم من الوقت سيبقى عاقلًا؟
و أثناء محاولته تقدير المدى الذي يمكنه فيه كبح نفسه عن “إراقة الدماء غير الضرورية” التي ذكرتها فينيا، اتّخذ قراره أخيرًا.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "15"