داخل العربة التي تسير بسلاسة، أغمضت فينيا عينيها المتعبتين.
و معَ امتلاء رؤيتها بالظلام، لم تلبث صورة بالاك أن أخذت مكانها في ذهنها.
نظراته التي لم تستطِع أن تنفصل عنها، قبضته المشدودة، و أُذناه اللتين احمرتّ أطرافهما، و صدره الذي كان يرتفع و يهبط بشدة…
قد يكون تاجرًا ماهرًا في المعاملات، لكنهُ كانَ أخرقًا في إخفاء مشاعره، في الماضي و الآن.
“هذهِ مشكلة.”
على الرغم من أن علاقتها مع بالاك كانت ضرورية، فإن التورط المُبالغ فيه سيشغلها عن متابعة الأدلة التي تركتها سيفيتانا.
حرية بالاك، التي تشبه البحر، كانت توفر لها فترة راحة قصيرة من دورة التناسخ الخانقة. لكن ذلك كان فقط لفترة زمنية.
لم تكُن تستطيعُ تحمُّل استفزاز تاتار، الذي كانَ بالفعل على حافة الانهيار. فإن سقط، سقطت معه. لقد خُتِمَ مصيرهما مُنذُ اللحظة التي تمسَّكا فيها ببعضهما البعض، محاصرين في هذهِ الدائرة اللانهائية، مُتشبثين بالحياة.
كانت علاقتهما أثقل من أن تُسمَّى حُبًا، و أشدُ يأسًا من أن تُدعى خلاصًا. إلى متى سيظلان عالقين في هذا الزمن البائس، يجرُّ كُل منهما الآخر نحوَ الهاوية؟
انعكست أشعة القمر في عينيها الزرقاوتين، لتزدادَ عتمتهما.
“ليسَ من الجيد أن أكونَ عاطفية هكذا.”
كانت هذه اللحظة المثالية لظهور الوحدة التي كبحتها طويلًا، مُهددة بدفعها نحوَ الجنون. انحنت شفتيها القرمزيتان بتهكم، و شعرت بأنفاسها تختنق في صدرها.
لقد سئمت من كل شيء.
رفعت يدها إلى عنقها و أحكمت قبضتها حوله.
حتّى مع ارتدائها القفازات، لم تتردد في إيذاء نفسها، تاركةً أثرًا أحمرًا طويلًا على بشرتها البيضاء.
كانت بحاجة إلى تاتار. إلى دليلٍ يؤكد أنها ليست وحيدة في هذا الزمن، و أنَّ كُل تلكَ الأمور لم تكُن مُجرّد أوهام. كانَ هوَ رفيقها الوحيد، و الشاهد على معاناتها.
عندما توقفت العربة، أفلتت فينيا يدها من عنقها على عجل، و نهضت بسرعة لتُمسك بمقبض الباب.
“آه…!”
ترنحت إلى الأمام حينَ فُتِحَ الباب فجأة دونَ سابق إنذار. أغمضت عينيها بقوة، لكن سرعان ما أحاطَ بِها دفءٌ مألوف، يلِفُ جسدها في احتضانٍ محكم.
“فينيا… “
ذاكَ الصوت العميق، الذي ترددَ في أذنها، هدّأ نبضاتها المتسارعة و تنفسها المضطرب على الفور.
رفعت رأسها ببطء، و انعكسَ وجهها القلق في عينيه المظللتين بضوء القمر.
لكن نظراتهُ سُرعانَ ما سقطت على العلامة الحمراء التي وسمت عنقها الأبيض.
لإخفاء تعبيره المشوّه بالغضب، لفَّ تاتار يدهُ حولَ رأسها، و ضغطها برفق إلى صدره.
“شـشـ…”
كانت يده تربت على ظهرها بثبات، كما لو كانَ يواسي طفلًا. تنهدت فينيا بهدوء و أسندت جبهتها إلى صدره.
“أنا مُتعبة.”
“ألم أقُل لكِ أن تتركي الأمر لي؟”
“هل ستطلبُ من أحدٍ أن يثق بقط ليرعى سمكة؟”
“إن كانَ بالاك أوتار هوَ السمكة، فسيكونُ من السهل ابتلاعها.”
تبادل الكلمات بينهما كانَ عفويًا، ما جعلَ أنفاسها تهدأ تدريجيًا. و في الوقت نفسه، غرقت الذكريات القديمة عن بالاك التي كانت تعصف بذهنها إلى أعماق عقلها.
أمالَ تاتار رأسهُ قليلًا، و التقت عيناه العميقتان بعينيها.
“إذن، كيفَ كانت مقابلتكِ الأولى معَ بالاك أوتار؟ أم يجِبُ أن أقول الرابعة؟”
“لم تختلف عن السابق.”
“إذن، ينوي مجددًا أن يتبعَ الإمبراطورة كـكلبٍ يهز ذيله لسيدته.”
“لا تقتله. ما زلتُ بحاجة إليه.”
أمسكَ تاتار بيدها اليمنى، و ألصقَ شفتيه بها. سرت قشعريرة خفيفة عبرَ القفاز الرقيق إلى راحتها الناعمة، مما جعلَ أصابعها ترتجف.
انعكست في عينيه ابتسامة رضا عندَ رؤيته لردة فعلها.
“كما توقعت، كانَ من الجيد أنني لم أتبعكِ.”
و في اللحظة التي تحركت فيها شفتيه، سحبت فينيا يدها بسرعة.
“لا تكوني باردة هكذا. لقد اشتقتُ إليكِ كثيرًا في ذلكَ المكان البارد و القاحل.”
كانَ مقصدهُ واضحًا و هوَ يلامس أذنها برقة. و إدراكًا منها لما قد تؤول إليه الليلة إن لم توقفه الآن، استدارت فجأة و ابتعدت.
تعقّبها ضحك خافت و هيَ تمضي.
—
“هل سمعتم جميعًا آخر الإشاعات؟”
“أيُّ إشاعات؟”
“عن العائلة الملكية، تعلمون… ذلكَ الأمر…”
خفضت السيدة بونوا صوتها بعد أن ألقت نظرة حذرة حولها.
“يقولون إن جلالتها الإمبراطورة لا تهتمُ بشؤون الحكم إطلاقًا.”
في حفل الشاي الذي استضافتهُ سيدات النُبلاء، أثير الموضوع الأكثر سخونة في الآونة الأخيرة.
كانَ الفضول بشأن كيفية تأقلم إمبراطورة من أمة معادية سابقة، بعدَ مئة عام من الحروب الضارية، طبيعيًا. لكن أن تكون أول شائعة متداولة بهذا الشكل، كانَ أمرًا غير متوقع.
أضافت سيدة نبيلة تجلس بالقرب منهن المزيد من الوقود إلى النيران بحذر.
“لا يبدو أنها مُجرّد شائعة عابرة. زوجي، الذي يعمل في الإدارة، ذكرَ شيئًا مُشابهًا. قالَ إن جلالة الإمبراطور هوَ من يتولى جميع المهام الموكلة إلى قصر الإمبراطورة…”
تعالت أصوات حادة من جميع الاتجاهات.
لكن في تلكَ اللحظة، أسكت صوت دوقة كاستالو، مضيفة حفل الشاي، الطاولة الصاخبة.
“يجب أن نكون دائمًا حذرين عند الحديث عن العائلة المالكة. لنختر موضوعًا آخر لمحادثتنا.”
عند كلمات دوقة كاستالو، أغلقت النبيلات أفواههن بسرعة و تبادلن النظرات الحذرة.
كانت الدوقة تمتلِكُ أعلى سلطة في الدوائر الاجتماعية للإمبراطورية حتّى وصول الإمبراطورة الجديدة. و لم يكُن ذلكَ لمُجرّد كونها سيدة أحد دوقيتي الإمبراطورية الوحيدتين، بل بسبب الشائعات المستمرة التي أحاطت بها.
كانَ هُناكَ تكهنات بأنها رُبما كانت عشيقة الإمبراطور الراحل.
لم تكُن هذهِ مُجرّد أقاويل شائعة في الأسواق، بل كانت مدعومة بوقائع ملموسة.
في شبابها، تورطت في عدة فضائح معَ الإمبراطور الراحل، و بعد أن أصبحت سيدة عائلة كاستالو، ارتقت العائلة من مرتبة ماركيزية إلى دوقية دونَ تحقيق أي إنجازات بارزة.
أما الابنة الثانية، التي وُلدت من الدوق و الدوقة اللذين كانا معروفين بنفورهما الشديد من بعضهما، فقد كانت تُشبه الإمبراطور الراحل إلى حدٍ مُذهل، مما زادَ من تأجيج تلكَ الشائعات.
لاحظت النبيلات ذلك، فضحكن بتكلف و غيرن الموضوع بسرعة.
و بينما استمرت حفلة الشاي، اقتربَ شخصٌ من خلف دوقة كاستالو.
“أمي… “
ترددَ صوتٌ صافٍ في أرجاء الحديقة.
شعرٌ أزرق سماوي طويل ينسابُ بحرية، بشرةٌ ناصعة البياض، و عينان خضراوتين بلونٍ هادئ يحمل بريقًا خافتًا.
إنها الليدي يورين، ابنةُ دوقة كاستالو، و التي كانت الشائعات تدورُ حول كونها الابنة غير الشرعية للإمبراطور الراحل.
اتجهت أنظار النبيلات المليئة بالمودة نحوَ يورين، التي كانت تحملُ باقة من زهور الفريسيا البيضاء، تعكسُ براءتها الناعمة.
و رغم الشائعات العديدة التي أحاطت بها، إلا أنَّ مظهرها الرقيق، و أسلوبها المهذب، و مكانتها كأبنة دوق، كانت كافية لـكسب إعجاب السيدات النبيلات.
“كُنتُ أرغبُ في تزيين الطاولة بالزهور مُسبقًا، لكنني أعتذر على تأخري.”
سقطت نظرة دوقة كاستالو الباردة على يورين. توقفت الأخيرة للحظة تحتَ نظر والدتها، ثُمَّ سلمت باقة الزهور لخادمة بجانبها و انحنت برفق.
“لدي درسٌ قريب، لذلك سأُغادر الآن.”
ثُمَّ أدرات يورين ظهرها و اختفت، بينما تمَّ وضع الباقة التي جلبتها في مزهرية على الطاولة.
“الليدي يورين حقًا طيبةُ القلب.”
“و مُهذبة للغاية.”
“حتّى في ملابسها البسيطة، كانت جميلة جدًا لدرجة أنني لم أستطِع إبعادَ عيني عنها.”
على الرغم من المديح الذي وجهته النبيلات لابنتها، ظلت الدوقة صامتة، رافعةً كوب الشاي فقط.
بعد فترة، انتهت حفلة الشاي. و بعدَ وداع الضيوف، عادت الدوقة إلى القصر.
“أين يورين؟”
“في غرفتها.”
“أحضري الفستان الذي كانَ هُناك.”
أمرت الدوقة الخادمة بينما كانت في طريقها إلى غرفة يورين. عندما فتحت الباب، رفعت يورين، التي كانت تُطرز، عينيها.
فوجئت بزيارة والدتها المفاجئة، فوضعت الإطار الذي كانت تعمل عليه جانبًا و نهضت.
“أنتِ هُنا، أمي.”
“اجلسي.”
سادت بين الأم و ابنتها لحظة مِنَ الصمت المُحرج، بينما كانت يورين لا تستطيع أن ترفع عينيها عن وجه والدتها، بل أبقت رأسها منخفضًا.
سقطت نظرة الدوقة الجليدية على الإطار الصغير الموجود على الطاولة. كانَ الشعار الملكي المُطرز بالخيط الفضي على القماش الأبيض لا شك في غرضه.
عبست الدوقة قليلاً.
“أمرتُكِ بالبقاء في عزلة لمدة شهر، هل كانت كلماتي تبدو لكِ كأنها مزحة؟”
“كانَ يجِبُ عليَّ أن أفعلَ هذا عندما قلتِ أنكِ سترتدينَ هذا الفستان و تذهبينَ إلى القصر في ليلة زفاف جلالته.”
ألقت الدوقة مقصًا صغيرًا من على الطاولة نحوَ الفستان الذي كانت يورين تحمله.
“قُصّي الفستان بنفسك.”
“أمي!”
“لن تخرجي من هذهِ الغرفة حتّى تُدمّري هذا الفستان بيدك.”
“لا أستطيع، لا أستطيع فعل ذلك…”
بدأت الدموع تتساقط من عينيها الواسعتين، تغمر الفستان.
كانَ الفستان الذي اختارتهُ بعناية، و هيَ تطمحُ إليه طويلاً، فـكيفَ لها أن تُمزّقَ شيئًا ثمينًا كهذا بيديها؟
“أُعطيكِ الفرصة الأخيرة لتنهين هذا بنفسك، يورين.”
“هل تفهمين الآن؟” قالت الدوقة بصوتٍ قاسي، و هيَ تراقب ابنتها التي كانت ترتجف بينما تحتضنُ الفستان الأبيض. “هذه الهدية، و هذهِ الرسائل… كُلها حيل رخيصة. هل تعتقدين أنكِ ستخدعيني بهذه الطريقة؟”
يورين، التي كانت تكاد تحبس دموعها، لم تستطع رفع نظرها إلى وجه والدتها، و كانت تحاول إخفاءَ الحزن الذي ملأ قلبها.
“أمي، أنا فقط…”
قاطعَتها الدوقة بنظرة حادة، ثُمَّ قالت بصوتٍ بارد: “لا تظنين أنني سأغفرُ لكِ هذهِ الفوضى. ستظلينَ في عزلة كما أمرتُكِ، و لن يكونَ لكِ أي تدخل في الأمور الأخرى.”
كانَ الحزن و الغضب يتصارعان في قلب يورين، لكنها لم تجرؤ على قول شيء آخر. اكتفت بالبقاء على ركبتيها و هيَ تحتضن الفستان الأبيض، في حين كانت أنفاسها الثقيلة تملأ الغرفة بحجم الألم الذي كانت تشعر به.
تركت الدوقة الغرفة، و ظلت يورين وحيدة، مُمسكة بالمقص بكلتا يديها، و رأسها منحني. استمرت الدموع في التدفق من رموشها المرتجفة.
“تاتار، أخي تاتار …”
عانقت يورين الفستان، لا، حبها الثمين، و أخذت عهداً.
“انتظرني، أخي. أنا، يورين، سَأُنقِذُك لكي لا تضطرَ إلى التضحية بحياتك من أجلِ زواجٍ سياسيّ، تمامًا كما أنقذتني…”
لن تتخلى عن أي شيء كما هوَ. لا عن مكانها إلى جانبه حيثُ تنتمي، و لا عن مشاعرها.
“سـ – سيدتي! هل أنتي بخير؟”
أسرعت خادمتها الخاصة التي وصلت متأخرة، لتفحص حال يورين. نهضت يورين بتثاقل من مقعدها، و أدرات وجهها المُبلل بالدموع نحوَ الخادمة.
“احرقي الفستان.”
“و لكن، سيدتي، هذا هوَ الفستان الذي بذلتِ جهدًا كبيرًا للحصول عليه، مُتجنبةً عيون الدوقة…”
“استعدي للذهاب إلى المعبد فور أن تسمح لي والدتي.”
“المعبد الذي كُنتِ تزورينهُ دائمًا؟”
“لا.”
توجهت نظرة يورين نحوَ النافذة.
من بعيد، كانَ قصر تيسيبانيا يظهرُ بشكلٍ خافت. هُناك حيثُ الشخص الذي تحبه أكثر من أي شيء، المكان الذي يجب أن تعودَ إليه.
“سأذهبُ إلى المعبد حيثُ دُفنت سفيتيانا.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "11"