كان “دوها” جالسًا باستقامة على صهوة جواده، ولم ينبس بكلمة وهو ينظر إلى “إي سو”.
ومع توتر جسدها بالكامل، بدأت تتراجع خطوة إلى الوراء دون أن تشعر.
تلك القبلة الحارّة التي تبادلاها بدت وكأنها من حياة سابقة بعيدة، بل باتت تشك ما إن كانت قد حدثت فعلاً.
كل ما كانت تتذكره هو وجه “دوها” الملطخ بالدماء وهو يبتسم. صحيح أنه بدا الآن أشبه بالبشر،
لكن سواء كان مغطى بالدماء أم لا، فإنه يظل مخيفًا بنفس القدر.
“يجب أن أهرب… عليّ أن أهرب بسرعة…”
لكن “إي سو” لم تستطع أن تحرك خطوة واحدة. لم تستطع التغلب على خوفها، وأغمضت عينيها بقوة.
لكنها، وعلى عكس ما توقعت، لم يحدث شيء، حتى بعد مرور وقت.
فتحت عينيها بشجاعة أخيرًا، لتفاجأ بأن “دوها” لا يزال يحدق بها بصمت. توقعت منه سخرية، لكن نظرته لم تكن سوى هادئة وباردة.
استمر الصمت بينهما. وكلما طال ذلك الهدوء، ازدادت صعوبة تحمله على “إيسو”. شعرت بحرارة تغمر عينيها، فرفعت رأسها بقوة محاولة حبس دموعها.
“أتراني مثير للشفقة؟ هربتُ بكل قوتي، لأجد نفسي في هذا الوضع البائس…”
“……”
“لم لا تقول شيئًا؟ هل الأمر تافه إلى حد أنك لا تجد له حتى قيمة للكلام؟”
صرخت “إي سو” بنبرة حادة، لا تزال خائفة، لكنها أحست فجأة بشجاعة غريبة، ربما لأنها أيقنت أنها لن تفلت من مصيرها.
حتى الموت على يد “دوها” لم يعد يبدو أمرًا سيئًا. لم يعد لديها ما تربط نفسها به في هذه الحياة.
فليكن. إن أراد قتلي، فليمضِ بذلك. لقد خانني من كنت أعتبرهم عائلتي، حتى من اعتبرته أخًا لي باعني. فما فائدة الاستمرار في العيش؟
تنفست “إي سو” بحدة، وكأنها تودع آخر ما تبقى من تردد بداخلها. لكن حتى بعد أن بلغت حدود صبرها، لم يتكلم “دوها” بكلمة.
وحين تحدث أخيرًا، جاءت كلماته غير متوقعة على الإطلاق.
“إن كنتَ ترغب في الانتقام، فافعله. سأنتظر.”
“ماذا؟”
هل يعني أنه سيؤجل قتلها حتى تنفذ انتقامها؟ يا له من جميل كبير.
حدقت “إي سو” فيه للحظة، ثم تنهدت وهزت رأسها.
“لا داعي لذلك.”
“ماذا؟”
“صحيح أنني قبل لحظات كنت على وشك أن أندفع دون تفكير. لكن الآن… لا.”
“لا؟”
“كما تعلم، أنا وحدي، وهؤلاء اللقطاء أكثر من عشرة. ولا أملك حتى سلاحًا حقيقيًا. في داخلي، أرغب بتمزيقهم جميعًا وضربهم حتى العجز. لكنني وحدي. الوضع ضدي تمامًا.”
“……”
“إن اندفعت إليهم دون تفكير، سأنتهي أنا من يتعرض للضرب المبرح، وربما يُغرز خنجر في صدري ويُرمى بجسدي تحت الجسر. .
ربما تظن أن الموت الآن أو لاحقًا لا فرق بينهما، لكنني أرفض أن أموت ميتة تافهة. إن أردت الانتقام، فليكن بدقة وبخطة محكمة.”
كلامها كان باردًا إلى حدّ يصعب تصديقه، وكأنها لم تكن قبل قليل ترتجف غضبًا. نظر إليها “دوها” بنظرة حادة، ثم سأل:
“وماذا لو قتلتكَ هنا والآن؟”
“ماذا؟”
“لن تستطيع الانتقام، ألن تندم؟”
“بالطبع سأندم. لأنني سأموت دون أن ألمس شعرة ممن خانوني وباعوني. لكن، حتى ذلك، يبقى أفضل من أن أُذبح كالكلاب على يد أولئك الأنذال.”
رغم فظاعة كلماتها، لم يظهر على “دوها” أي انفعال. كان سيفه الطويل يلمع في يده بشكل مرعب.
خرج زفير ثقيل من بين شفتي “إي سو”، التي بدا وكأنها تخلّت عن كل شيء. صحيح أن الموت بهذه الطريقة مؤسف،
لكنها لم تكن تفكر في التوسل من أجل حياتها. إن قرر قتلها، فلن تطلب الرحمة.
كل ما عليها هو ألّا تنسى. وإن لم يكن الانتقام في هذه الحياة، فليكن في الحياة القادمة.
أغمضت عينيها بشدة، منتظرة سقوط السيف.
لكن “دوها” قال بهدوء:
“هناك طريقة أخرى.”
“ماذا؟”
“طريقة لا تحتاج فيها إلى الموت، ويمكنك بها الانتقام أيضًا، وبشكل جيد جدًا.”
“ما هي؟”
“ذلك الانتقام… سأقوم به نيابة عنك.”
ينتقم بدلًا عني؟ ويُبقي على حياتي؟
في البداية، لم تستوعب المعنى، ثم تغير بريق عينيها فجأة، أصبح حادًا كالإبرة.
“ماذا تريد مقابل ذلك؟”
“……ماذا؟”
“لا شيء مجاني في هذا العالم. لا يمكن أن يكون القائد الأعلى شخصًا عطوفًا إلى هذه الدرجة. “
“ما الذي تريده مقابل الانتقام بالنيابة عني؟”
سؤالها كان حادًا وهجوميًا، لكن “دوها” ضحك بسخرية، ثم قال دون تردد:
“أنتَ.”
“ماذا؟”
“أريدكَ.”
“……”
“من هذه اللحظة، اتبعني. وسأنتقم لك.”
مد يده إليها بهدوء.
لكن “إيسو” لم تتمكن من إمساكها على الفور، بل ترددت.
“يريدني؟ ما الذي يعنيه بذلك؟ هل يمكن أن تكون الشائعات عن أخذه لأطفال صغار حقيقية؟ لكن أنا…”
“هل تمانع؟ إن كنتَ ترفض، فلن أُجبرك.”
“لا، ليس رفضًا… فقط…”
في عيني “دوها” ومضة قاتلة، وعندها أدركت “إي سو” الحقيقة: قال إنه لن يُجبرها، لكن في الواقع، إن رفضت، لن يبقى لها سوى الموت.
“نعم، حسنًا، لا بأس. فقط… لدي سؤال واحد قبل أن أجيب.”
أسرعت “إيسو” بالكلام، لكنها لم تعرف كيف تطرح السؤال، وفكرة ذلك وحدها كانت محبطة.
ترددت للحظة، ثم فتحت فمها ببطء.
“القائد الأعلى… هل تفضّل الأولاد؟ أقصد، هل تحبّ الفتيان؟”
لم تستطع أن تسأله مباشرةً إن كان “يميل إلى الذكور”، لذا اختارت التعبير الأخف الممكن. لكن حتى بهذه الطريقة،
بدا أن “دوها” تلقّى صدمة لا بأس بها.
“ماذا؟”
نظرًا لأنه نادرًا ما يُظهر الارتباك، كان رد فعله مفاجئًا.
انحنت “إي سو” برأسها بشدة. ورغم أن قبلة “دوها” لها جعلت هذا الاحتمال ضعيفًا، إلا أنه من الأفضل التأكد.
رأت كيف شدّ “دوها” قبضته على لجام الحصان. للحظة، عاد إلى ذهنها صورته وهو مغطى بالدماء.
ماذا لو فهم السؤال خطأ، وقرر قطع رأسها فورًا؟
“…لم يحدث ذلك قط.”
جاء الرد بعد وقت طويل، وقصيرًا بقدر ما كان حادًا.
ظلت “إي سو” منكمشة، تنتظر مزيدًا من الكلام، لكن “دوها” لم يضف شيئًا آخر.
حلّ صمت طويل. نظرت “إيسو” إليه، ثم ابتسمت بخجل وحرج.
“أنا أيضًا كذلك.”
“……”
“وستظل كذلك… دائمًا، صحيح؟”
رغم أن الجو كان يوحي بضرورة التزام الصمت، لم تنسَ “إي سو” أن تنتزع تأكيدًا. فهذا أمر لا يمكن أن يُترك دون حسم.
حين رمقت “دوها” بنظرة حادة تنتظر الإجابة، بدا الغضب يتسلل إلى وجهه.
“……نعم.”
“حسنًا، إذن سأتبعك، أيها القائد الأعلى.”
أومأت “إيسو” بحزم. بعد أن حصلت على هذا التأكيد الوحيد الذي كان يقيّدها، لم يعد هناك سبب للتردد.
قبول عرض “دوها” كان مغامرة، لكنه رهان يستحق المحاولة. طالما لم تتحدث عمّا حدث في دار الضيافة، يمكنها النجاة بجانبه،
والانتقام، بل وتحقيق النجاح أيضًا. بعد أن رتبت كل حساباتها، ترددت قليلًا ثم قالت:
“وبالمناسبة، لا أريد الانتقام بعد الآن.”
“ماذا؟”
“لا حاجة لأن تنتقم نيابة عني.”
ضاقت عينا “دوها” بدهشة غير متوقعة.
“ألا ترغب بالانتقام؟”
“بل أرغب. لكن الرغبة وحدها لا تعني أنني أريد ذلك الآن. ولا أريد أن يتم ذلك على يد شخص آخر.”
حدق “دوها” بها بنظرة جامدة، بينما اقتربت “إيسو” خطوة منه، تتحدى خوفها.
“بدلاً من الانتقام، ساعدني في استعادة الفضة.”
“الفضة؟”
نظر إليها “دوها” باستغراب، غير مستوعب ما تعنيه. ضحكت “إيسو” بخفة.
“القطع الفضية التي حصل عليها الزعيم من تايسو، جزء منها يخصني. كنت أظن أن للبقية حقًا فيها،
لكن واضح أنهم لا يستحقون شيئًا. إن ساعدتني في استعادة حصتي، فسأتبعك بكل سرور.”
الانتقام يمكن تأجيله والقيام به لاحقًا، لكنها لا تملك فرصة ثانية لاستعادة مالها. في عالم لا يمكن التنبؤ به،
من الأفضل أن يكون لديها على الأقل بعض الثروة في يدها.
استعادة الفضة أسهل من تنفيذ انتقام كامل، لذا افترضت أن “دوها” لن يرفض. وبعد أن حدق فيها لفترة،
أومأ برأسه موافقًا دون تردد كبير.
“حسنًا. لكن قبل أن تتم الصفقة، عليّ أن أسألك عن أمر مهم.”
“نعم؟”
“أنا لي إسم: لي دوها.”
“ما اسمك انت؟”
تجمدت “إي سو” للحظة. الآن فقط أدركت أن “دوها” لم يسألها عن اسمها ولو مرة واحدة. لم يكن يرى حاجة لذلك.
في نظره، لم تكن أبدًا “إنسانة” تستحق أن يُعرف اسمها.
والآن، وقد أصبح لها قيمة بنظره، لم تعلم إن كان عليها أن تفرح أم تغضب. تحت وطأة نظرته التي بدت وكأنها تطلب إجابة،
فتحت فمها أخيرًا.
“إي سو. عندما كنت في الخامسة أو السادسة، عُثر عليّ قرب نهر إيسو، أسفل جبل الثلج. من وجدني أخذني إلى مدينة أوجو. لذا اسمي إي سو، ولا أملك لقبًا.”
“عمرك؟”
“سبعة عشر، ربما ثمانية عشر… أو حتى ستة عشر، لا أعلم بدقة.”
في مملكة “داميانغ”، من لا يملك لقبًا يُعد من الطبقة الأدنى، لا حتى من العوام، بل من العبيد.
رفعت “إيسو” رأسها بقوة، محاولة ألا تُظهر ضعفًا. لكن على عكس ما توقعت، لم يبدُ على “دوها” أي ازدراء أو احتقار.
بل، على العكس، نظر إليها مطولًا وكأنه متردد، ثم سأل بفضول غريب:
“لكن… هل لديك إخوة من دمك؟”
“ماذا؟ لا، لا أعتقد. على حد علمي، لا.”
“حقًا؟”
ضاق بصر “دوها” كما لو أنه تذكّر شيئًا. تجمدت “إيسو” في مكانها.
هل شك في شيء؟ هل لاحظ شيئًا؟
“غريب… تلك العينان… لماذا أشعر أنني رأيتهما من قبل؟”
“في أوجوسونغ، هناك الكثير من الأشخاص بعيون كهذه. ربما شاهدتها كثيرًا من قبل، لذا تظنها مألوفة.”
ردّت “إي سو” بصوت ثابت قدر الإمكان. لم يكن قولها خاطئًا تمامًا، إذ كانت المدينة تضم العديد من الناس ذوي الدماء المختلطة.
لكن لم تستطع منع ارتجاف شفتيها.
لم ينفِ “دوها” كلامها ولم يؤكده، بل سأل مجددًا:
“ش
ائعة؟ هل هذا صحيح فعلًا؟”
“ماذا؟ نعم، بالطبع. هناك كثيرون هنا يملكون عينين مثلي تمامًا.”
“حقًا؟”
في نبرة “دوها” كان هناك شكّ خفي. في رأس “إي سو”، مرت ذكرى ما قاله عن “أونهاي” ذات مرة.
بدأت ترتجف من رأسها حتى أخمص قدميها، وكأن لحظة انكشاف الحقيقة اقتربت.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات