أومأت إي-سو برأسها بصعوبة. لو قالت إنها ليست خائفة لكانت كاذبة، لكن لم يكن أمامها الآن طريق آخر.
فالانتقام من الزعيم كانت أمنية طالما حلمت بها، وهي مستعدة لأن تضحي بحياتها من أجل تحقيقها مهما كلفها الأمر.
تردّد دوها لحظة، ثم أطلق تنهيدة عميقة وهزّ رأسه.
«حسنًا، لو كنتُ أنوي التراجع بعد أن أعطيتك الفرصة، لما كنتُ فتحت الموضوع من الأساس.»
كان في صوته رنين بارد يخنق أنفاس من يسمعه.
كبتت إيسو رغبتها الجارفة في أن تصرخ «كفى!» وضغطت على قبضتيها بقوة.
فجأة، انفرجت ملامح وجه دوها الذي كان ينظر إليها، وتفتّحت على شفتيه ابتسامة مشرقة جدًا.
«أنا فضولي حقًا. هل ستتمكّنين فعلاً من التخلي عن ذلك الرجل تمامًا إذا نجحتِ في الانتقام منه؟»
ماذا؟ نظرت إيسو إلى دوها بدهشة واستغراب. هي والزعيم انفصلا منذ زمن بعيد جدًا، ولم يبقَ بينهما سوى رواسب مريرة يصعب محوها.
فما معنى هذا السؤال الغريب: «هل ستتخلين عنه حقًا»؟
«ارجعي وفكّري جيدًا في معنى كلامي. أنا لا أعتقد أن فتاة بذكائك لن تفهمه.»
استدار دون تردد. وتحت هذا الأمر الصامت بمغادرة المكان، تراجعت إيسو ببطء إلى الوراء وخرجت من الكهف.
كانت ملامح وجهها وهي تعود إلى مكان إقامتها مليئة بالحيرة.
كلام دوها كان يبدو أحيانًا وكأنه على وشك أن يُفهم، وأحيانً أخرى يبدو بعيد المنال تمامًا.
بعد قليل، خرج دوها من الكهف هو الآخر وعاود إلى مكان الإقامة
وعندما اقترب دون تفكير من النافذة، انتفض مفاجأة.
فالفتاة التي ظن أنها دخلت الغرفة قبل، إيسو، كانت لا تزال في فناء المنزل أمام الباب.
رآها تدور حول نفسها كالمجنونة ثم تهوي جالسة على الأرض وتهز رأسها مرارًا، فاستنتج أن لقاءهما قد صدمها بشدة.
انعقدت شفتا دوها بابتسامة غريبة.
«لقد فعلتُ شيئًا لا داعي له.»
كانت رحمة لا تشبهه على الإطلاق.
وليست اليوم فقط، بل عندما يفكر في الأمر الآن، كل لحظة أعاد فيها لقاءها كانت خارجة عن طباعه المعتادة.
أن يغار من وجود جونهوي بجانبها فيثور غضبًا بدون سبب،
أن يطيل الكلام بلا داع، أن يكاد يقبّلها لحظة تأكد أن الذي هاجم الينبوع الحار هو إيسو…
كلها أمور لم يكن ليفعلها هو في الأحوال العادية أبدًا.
حتى قوله: «هل تخافين أن أقفز عليكِ؟»
حتى هو نفسه يغضب عندما يتذكر هذه الجملة.
لكان بالإمكان أن يثير غضبه. لكنه في تلك اللحظة لم يستطع كبح رغبته في استفزازها.
وعندما رأى وجه إيسو البارد يتحول إلى اللون الأحمر بسببه، كاد دوها أن يفقد عقله ويقبلها حقًا.
لا يريد الاعتراف، لكنه مضطر للاعتراف.
الذي أراد أن «يقفز» على الآخر» لم يكن هي، بل هو.
الشرارة الجمرة التي ظن أنها انطفأت تمامًا عادت إلى الحياة بقوة أكبر.
بل إن كلمة «عادت إلى الحياة» لا تكفي، لقد صارت أكثر كثافة وشراسة من السابق.
حقًا لا يعرف لماذا تنشأ في قلبه مثل هذه المشاعر تجاه شخص كان من المفترض أن يقتله بدون تردد.
«هل أنا بدوري أصبحت مسحورًا بهذه الفتاة بعد الجنرال إي وهييون؟»
أغلق دوها النافذة بهدوء وهو يحدّق في وجه إيسو الواقفة في الفناء.
أن يشعر بهذا الاضطراب العاطفي تجاه مجرد فتاة عادية، هذا حقًا لا يشبهه أبدًا.
في تلك اللحظة، اقترب مدرب قصر بيونغ-وو وانحنى.
«سيدي الحديقة.»
كان جنديًا قديمًا تقاعد بسبب إصابة منذ زمن، لكنه كان ماهرًا إلى درجة أن تولى لفترة تدريب الإمبراطور على الفنون القتالية.
قال دوها دون أن يلتفت:
«هل انتهت الاستعدادات؟»
«نعم.»
«احرصوا ألا تخرج أي شائعات.»
«لا داعي للقلق. ألم نأخذ من المتدربين عند دخولهم القصر توقيعًا يقرّون فيه بأنهم لن يطالبوا بأي مسؤولية حتى لو فقدوا حياتهم أثناء التدريب؟ وعلاوة على ذلك، فإن معظمهم -باستثناء بضعة أشخاص- أيتام من عامة الشعب أو الطبقة الدنيا، فلن يجرؤ أحد على إثارة ضجة كبيرة.»
تذكّر دوها بعينين خاليتين من المشاعر عشرين طفلاً تم اختيارهم في المقابلة وسيموتون غدًا موتًا بشعًا ربما.
«هم أنفسهم لا يعلمون أن عدم اختيارهم كان نعمة كبرى.»
الأشخاص العاديون، حتى لو لم يصبحوا مساعدين، يُرسلون كجنود عند القادة في الأقاليم البعيدة أو كحراس في قصور أخرى إذا اجتازوا الدرجة المطلوبة،
أما العشرون الذين سيخضعون للمقابلة فمصيرهم مختلف.
عبس المدرب قليلاً وقال:
«رغم أننا نفعل هذا كل عام، إلا أنني لم أعتد عليه أبدًا.»
«يجب القيام به لمنع مذبحة أكبر.»
قال دوها ببرود قاطع. الذين يرسبون من العشرين يُقتلون فورًا.
هذه قاعدة قصر الإمبراطور منذ عهد الإمبراطور السابق، وذلك لمنع تسرب الجنود النخبة الذين طُردوا من الجيش الإمبراطوري إلى جهات أخرى واستغلالهم بشكل سيء.
في بداية إنشاء ساحة التدريب في القصر الإمبراطوري، كانوا يطلقون سراح جميع من رسبوا في المقابلة أحياء.
لكن قبل 12 عامًا، اكتُشف أن بين الخونة ثلاثة أو أربعة أشخاص كانوا قد وصلوا إلى مرحلة المقابلة في امتحان المساعد،
فعندئذٍ لم يكن أمام الإمبراطور السابق إلا أن يتخذ قرارًا حاسمًا.
«ليت عددًا أكبر من الأطفال يجتاز المقابلة.»
أومأ دوها برأسه بلامبالاة لكلام المدرب الذي كان صادقًا من قلبه.
وبعد أن خرج المدرب، فتح دوها النافذة مرة أخرى. لم يكن أحد في الفناء. يبدو أن إيسو عادت إلى غرفتها منذ زمن.
نظر دوها عدة مرات إلى الفناء المظلم بإحساس غامض بالأسف.
صوت الريح التي تهب حول القصر كان اليوم يبدو أكثر كآبة وحزنًا من المعتاد.
* * *
كان مكان إجراء المقابلة هو القاعة الكبرى التي يعاقب فيها المدربون الأطفال عادة.
المقابلة ستُجرى على مجموعتين: عشرة أشخاص يوميًا على مدى يومين، وقد تقرر أن يكون الزعيم في اليوم الأول، وإيسو في اليوم الثاني.
عندما دخلت إيسو إلى الداخل، رأت خمسة مدربين من مختلف القصور جالسين على كراسيهم، ومعهم دوها.
كان جميع المدربين من الجنرالات الذين كانوا يومًا ما يحلّقون في ساحات القتال، لذا كانوا جميعًا ذوي ملامح حادة وهيبة مخيفة لا تُقاوَم.
ابتلعت إيسو ريقها بصعوبة، وقفت في المنتصف وانحنت برأسها قليلاً.
تذكّرت كلام دوها الذي قال إنه يتساءل حقًا ما إذا كانت ستتمكن من التخلي عن ذلك الرجل تمامًا إذا نجحت في الانتقام منه، فلم تستطع النوم طوال الليل.
كان رأسها لا يزال على وشك الانفجار، لكنها حاولت جاهدة ألا تفكر في شيء الآن.
ذلك الكلام يمكنها التفكير فيه بهدوء بعد انتهاء المقابلة.
بدأت الأسئلة البسيطة مثل «ماذا كنتِ تفعلين في الخارج؟» وغيرها، ثم توالت بعض الأسئلة العميقة المقتطعة من كتب فن الحرب.
كانت معظم الأسئلة من النوع الذي يصعب الحكم على إجابة واحدة بأنها الصحيحة بالضرورة.
بذلت إيسو كل ما تعلمّته من معارف، لكنها لم تكن متأكدة على الإطلاق ما إذا كانت إجاباتها صحيحة أو أعجبت لجنة المقابلة.
في تلك اللحظة، سأل مدرب قصر بيونغ-وو، الذي ظل صامتًا طوال المقابلة:
«هل ستطيعين أي أمر يصدره جلالة الإمبراطور مهما كان؟»
«نعم. جلالة الإمبراطور هو من منحني نعمة كبرى بأن سمح لي بتلقي التعليم في قصر الإمبراطور. سأتقدم دون تردد لفعل أي شيء يقع في وسعي.»
«حتى لو أمركِ بقتل منقذ حياتك؟»
«……»
«فكّري جيدًا قبل الإجابة. إذا كانت إجابتك كذبًا، فلن تنتهي المسألة بأذى يصيبكِ أنتِ فقط.»
«أنا صادقة تمامًا. سأفعل أي شيء يقع في وسعي.»
كانت إجابة نموذجية مليئة بالثقة، لكن أحدًا من أعضاء اللجنة لم يومئ برأسه ولو قليلاً.
نظرت إيسو إلى وجوههم الخالية من التعبير وهي في غاية التوتر تنتظر السؤال التالي، لكن أحدًا لم يعد يفتح فمه.
«هل انتهى الأمر؟ كنتُ أظن أن هناك شيئًا آخر…؟»
في اللحظة التي ملأت فيها الحيرة رأسها، عاد صوت مدرب قصر بيونغ-وو يُسمع من جديد:
«إذن، لندخل في صلب الموضوع. هذا هو الاختبار الأخير. اذهبي فورًا غربًا مسافة ثلاثين ليًا، ثم افردي الورقة، اطلعي على محتواها، ونفذي الأمر. عندما تخرجين، سيعطيك أحد المدربين الأغراض المطلوبة، فانطلقي حالاً.»
«حاضر!»
«احفظي هذا جيدًا: لا تتحدثي إلى أحد في طريقك، ولا تتكلمي عن الاختبار بأي شكل يجب أن تكوني أنتِ الوحيدة في العالم التي تعرف محتوى تلك الورقة.»
كلما استمعت كانت تشعر أن الأمر غير عادي على الإطلاق.
أومأت إيسو برأسها بهدوء ظاهري، لكن عقلها كان يدور بسرعة هائلة يزن كل الاحتمالات.
ظنت أن كل شيء انتهى، ثم يظهر فجأة اختبار آخر؟ لم تسمع قط أن هناك اختبارًا إضافيًا في مرحلة المقابلة.
هذا يعني إما أن الاختبار أُنشئ حديثًا فجأة، وإما أنه كان سرًا محكمًا إلى درجة مخيفة.
«حتى لو كان سرًا حقيقيًا، هل يمكن ألا يتسرب أي خبر على الإطلاق؟ إلا إذا كانوا يقتلون من يرسب كي يسكتوا إلى الأبد… هل حقًا لا يعود الفاشلون أحياء؟»
انتشرت قشعريرة في جسدها كله. كلما زادت التساؤلات، تتالت الأفكار المشؤومة.
عندما كانت على وشك الخروج، التقت عيناها مباشرة بعيني دوها. لكن كما توقعت، لم تجد في نظرته أي دليل أو تلميح.
خرجت إيسو وهي تضغط بقوة على قبضتيها.
«يا لي من أحمقة!»
حتى هي نفسها وجدت الأمر سخيفًا. أن تتوقع مساعدة من دوها بالذات، الذي يتمنى موتها بفارغ الصبر؟
حتى لو أرادت هي ذلك، هل كان ليقدم لها يد العون؟
«هذا اختبارك أنتِ. لا غير. لا تنتظري مساعدة من أحد وانتبهي جيدًا. حتى لو بذلتِ كل قوتك، فوزك على الزعيم نفسه أمرٌ غير مضمون!»
أرادت أن تفتح الورقة وتقرأ فورًا، لكنها صبرت وكبحت نفسها.
من الواضح أنهم يراقبونها من الخفاء ليتأكدوا أنها تتبع التعليمات، وهذا بحد ذاته جزء من الاختبار.
سارعت إيسو حتى ابتعدت ثلاثين ليًا، ثم أخرجت الورقة من كمها وقرأتها.
في تلك اللحظة عادت الحيرة لتملأ وجهها من جديد.
«ماذا؟ يطلبون مني القبض حيًا على لص هرب من عملية تطهير واختبأ في القرية السفلى وإحضاره إلى القصر؟ لو كان مجرمًا خطيرًا إلى هذا الحد، أليس من الأفضل قتله في مكانه؟ لماذا يريدون إحضاره حيًا؟»
ظنت أن مجرد معرفة محتوى الاختبار سيُنهي حيرتها، لكن العكس تمامًا: زادت التساؤلات فقط.
هل هذا «اللص» ليس لصًا حقيقيًا في الواقع؟
هزّت إيسو رأسها وهي تفرك شعرها، ثم قررت أن تنفذ الأمر أولاً وتفكر لاحقًا.
سارعت إلى القرية، وبعد قليل من السؤال هنا وهناك، تمكنت بسهولة من العثور على الخمارة التي يختبئ فيها اللص، بل ورأت شكله وهو مقرفص داخل الغرفة بسرعة مذهلة.
«الغرفة مظلمة جدًا فلم أتبين ملامح وجهه، لكن هؤلاء بالتأكيد ليسوا عائلته. إنهم يشهرون السكاكين ويهددونه كل لحظة.»
الآن عليها فقط أن تنتظر حتى يحل الظلام، ثم تقبض عليه وتأخذه إلى المبنى المنفصل، وتنتهي المهمة.
الرجل ضخم البنية، فقد تحدث بعض المتاعب، لكنها قادرة على إخضاعه بسهولة دون عناء كبير.
شعرت أن الاختبار السري في المقابلة كان سهلاً أكثر من اللازم، لكنها ارتاحت لأنها ستتمكن من إنهائه دون جهد يذكر.
بعد قليل، حالما أظلم الجو، توجهت إيسو بهدوء إلى الخمارة.
فتحت الباب بحذر، اقترب
ت من الرجل الضخم المقرفص على السرير، ودون تردد غرزت إبرة فضية في عنقه.
انتظرت لحظات حتى يسري مفعول الإبرة المخدرة، وعندما أضاء ضوء القمر الخافت على وجه الرجل، توقفت إيسو فجأة مذهولة.
التعليقات لهذا الفصل " 36"