هل أنـتَ بخير حقًّـا؟ أنـتَ الذي تبدو معتادًا على مثل هذه الأمور.
أكثر من أيّ شيءٍ، هل قلبـكَ الذي تحمّلتَ فيه كلّ هذا الوقت بخير؟ تحتَ ذلكَ الوجه الخالي من التعبير، كم من الوقت قضيتَ في سحـق ذاتـكَ و قمعها؟
ربّما كنتَ تتحمّل الكثير من أجلي، أليس كذلك؟
تداعت أفكار عديدة في ذهني.
إذا كنتُ أنا مَـنْ يقيّـدكَ…..
كانت تلكَ اللحظة التي أغلقت فيها روديلا فمها بإحكام، مشدودة الشّفتين.
سـأل آيفرت:
“إذًا، هل ستذهبين؟”
شعرت روديلا و كـأن قلبها قد سقط فجأةً عند سماع هذا السؤال.
من الواضح أنها فرصة جيدة، و إذا ذهبت سأكون في أمـان، إنّـه عرض لا يحمـل أي ضرر.
ومع ذلك، كان هناك شيء يزعجها.
كأن هناك شوكة عالقـة في حلقها، شيءٌ ما يخـزها في مكانٍ ما.
كلّما فكرتُ بـكَ.
نعم، كلّما فكرتُ بـكَ، كنتَ أنـتَ الشّيء الذي يعيقني دونَ أن أعرف السّبـب.
كـأن شيئًا يعترض خطواتي عند كل خطوة، يجعلني أتـردد.
لكن قبلَ ذلك، إذا كنتُ أنا مَـنْ يقمعـكَ و يسحقـكَ….
“إنها فرصة جيدة، لذا سأذهب.”
عندما فكرتُ بهذه الطريقة، انفتح فمي الذي كان عاجزًا عن الكلام.
“كـم مدّة الرحلة؟”
“من سنتين إلى ثلاث سنوات تقريبًا.”
أخفت روديلا تعقيدات قلبها و تظاهرت بالارتياح و هي تقول:
“ستكون هذا أوّل مرة أبتعد فيها عنـكَ لفترةٍ طويلة. على عكس شخصٍ آخر، لن أتسبّب في أي مشاكل، فلا داعي للقلق.”
لا تعـذّب نفسـكَ بالقلـق علـيّ.
سنتان إلى ثلاث سنوات ستكون كافية.
حتى يتمكن آيفرت و رويدين، اللذان بدآ للتو في التحرك، من قمع الفصيل الأرستقراطي و تهدئته.
و حتّـى يتمكّن من بناء أساس يسمح لـه بالتحرك بحرية.
عندما أعود، ربّما يستطيع آيفرت أن يبتسم بسهولة أكبر.
ليسَ بتلكَ النظرة المكبوتة التي يظهرها الآن.
“سأعـود.”
مع هذه الفكرة، استقـر قرار روديلا أخيرًا.
ابتسمت و هي تحاول تجاهل الاضطراب في قلبها.
بالنّسبة لآيفرت، كانت تلكَ لحظة وصول نهاية الانتظار الطويل.
* * *
كنـتُ أعلـم.
أعلـم أن الوزن الذي تمثلينه أنتِ بالنّسبة لـي، و الوزن الذي أمثّلـه أنا بالنّسبة لـكِ، مختلفان تمامًا.
في داخلي، أنـتِ مركز العالم الذي لا يمكنني الاستغناء عنه، لكن بالنّسبة لـكِ، أنا لستُ كذلك.
و مع ذلك، حتى لو كنـتِ أنُتِ كلّ شيءٍ بالنّسبة لي، و كنتُ أنا مجرّد جزءٍ بالنّسبة لـكِ ، فلا بـأس .
كنتُ أتمنى فقط أن أكون جـزءًا لا غنى عنه بالنّسبة لكِ ، حتّى لو كان ذلكَ مجرّد جزء صغير.
كنتُ أتمنّى لو أنّـكِ تشعرين بالفراغ إذا غبـتُ عنكِ ، و لو قليلاً.
كانت هناك لحظات فكّـرتُ فيها بأفكارٍ سيئة.
كنتُ أتمنى لو أنّـكِ تعانين أيضًا عندما أغيب.
يُقـال أنّ الحب هو أن تتمنى السّعادة للشّخص الآخر، لكن إذا كان هذا التّشـوه نوعًا من الحب، فليكـن كذلك.
لذا، أحـبّ آيفرت روديلا.
لكن يبـدو أن روديلا… لم تكن كذلك.
كنـتُ أعلم، كنـتُ أعلم و مع ذلك…..
أغمض آيفرت عينيه.
“يقولون أن هناك اتحادًا لممالك صغيرة ضعيفة عبر البحر. لا تبدو كمملكة واحدة، بل كأنها عدة إمارات اِتّـحدت لتشكل دولة واحدة، أليس كذلك؟”
كانت روديلا تتحدث بوجهٍ متورّد بالحماس.
“سمعتُ أن هناك قارة يكون فيها الشتاء فقط طوال العام. هل تصدق ذلك؟ كيف يعيشُ الناس هناك؟”
مـدّت يدها لتوضح.
“عادةً ما يخزّنـون الحبوب عندما تكون وفيرة لاستخدامها في الشتاء، أليس كذلك؟ لكن إذا كان الشتاء هو الوحيد الموجود، فكيف يفعلون ذلك؟”
بـرقت عيناها بالفضول.
“هل يعتمدون على التّجارة؟ لكن ألن يكون الاعتماد الكبير على التجارة خطـرًا؟”
كانت تتحدث عن الأشياء التي ستراها إذا ذهبت في رحلة خارجية.
الأشياء التي ستراها لوحدها من دونـي.
أشياء لم تُـرَ من قبل في الإمبراطورية.
كانت تلك الأفكار تتدفّق إليها بلا توقف.
“عندما أذهب إلى هناك…”
كانت روديلا تتحدّث بحماس واضح.
في العادة، كنتُ سأحتفظ بكلّ كلمةٍ تقولها في ذهني، حريصًا على عدم تفويت أيّ اهتمام صغير منها.
كان يجب أن أفعل ذلكَ الآن أيضًا، و كنـتُ أريد ذلك.
لكن أفكارًا أخرى كانت تتسلّل إلى ذهني.
أنتِ المتحمّسة بشكلٍ خاص….في حياتكِ…
ألـم أكن موجودًا منذُ البداية، أليس كذلك؟
لم يكن لي مكانٌ على الإطلاق.
كـان مكاني شيئًا يمكن ملؤه بأيّ شيءٍ آخر بسهولة.
أغمض عينيه.
إن مغادرتـكِ لي لا تعني شيئًا بالنّسبة لـكِ، أليس كذلك؟
“أنتَ تابع لفرقة الفرسان، لذا لا يمكنكَ السفر خارج البلاد كثيرًا، أليس كذلك؟”
استمرّت روديلا في الحديث بصوتها المرح. ح
حاولَ ألا يترك كلماتها تمـرّ دون انتباه.
كان يجب أن يكون صديقًـا لها. حتّى لو كان مجرّد صديق، أراد أن يبقـى كذلك.
حتّى لو كان ذلكَ بشكلٍ بائس، حـاولَ أن يتصرّف كالمعتاد.
“يقولون إن هناك أشياء مثيرة للاهتمام عبر البحر، خاصة الأسلحة. إذا كنتَ بحاجةٍ إلى شيء، يمكنكَ إرسال رسالة.”
مالت روديلا برأسها و هي تقول:
“لكن استلام الرسائل قد يستغرق بعض الوقت. سيتعيّن عليها أن تمـرّ عبر مكان مثل وزارة الخارجية الإمبراطورية…”
كانت بالفعل تخطّط لإرسال هدايا من هناك.
“على أي حال، هل تحتاج إلى شيء؟”
سألت روديلا.
أراد آيفرت أن يجيب بطبيعية.
“أنـا…”
لكن بدا أن كلمات أخرى ستخرج من فمه.
على الرّغمِ من علمـه أنّـه لا يستطيع قـول ذلك.
على الرّغمِ من علمـه أنّـه لا يستطيع أن يطلب منها البقاء بجانبـه و تعريضها للخطر.
على الرّغمِ من علمه أن كل ما تقوله صحيح، و أن إبعادها هو الصواب إذا تجاهل مشاعره.
“لا حاجة لي بشيء.”
قالها بلهجة قاطعة.
“لا أحتـاج إلى شيءٍ سـواكِ.”
كان ذلكَ أقرب إلى منع الكلمات الحقيقية التي كادت تخرج من فمه.
“حقًّـا؟”
مالت رأسها نحوه، فـقال آيفرت:
“كل ما عليـكِ هو العودة.”
“بالطبع سأعـود.”
كان تعبيرها و كأنها تقول: “ما الذي تسأل عنه؟”
نعم، ستعـودين إلى الإمبراطورية.
لكن لم أقصـد ذلـك…
كنتُ أعنـي أن تعـودي إلى جانبـي.
عـضّ آيفرت على شفته الدّاخلية.
في النهاية، لم يستطع قول تلكَ الكلمات.
لأنه لم يكن الشّخص الذي يستطيع إزعاج حبيبته المتحمسة، أو بالأحرى، الشّخص الذي يجب أن يراها الآن مجرّد صديقة.
بعد ذلك، استمرّت روديلا في الحديث بحماس لفترةٍ طويلة.
“بالمناسبة، هل أنتَ بخير مع واجباتكَ المسائية؟ ألا يجب أن تذهـب؟”
كيف يمكنني المغادرة و أنا أراكِ متحمّسة هكذا؟
لم ينهض آيفرت من مكانه إلا بعد أن قالت ذلك.
شعـرَ و كأن أشواكًا صغيرة تنغرس في جسده. لم يعد يعرف إن كان الألم في جسـده، أم في قلبـه، أم في ذهنـه.
“أنا بخير، لكن أنـتِ ، يجب أن ترتاحي.”
“صحيح…”
نظرت روديلا إليه وهو ينهض.
“تحدثتُ كثيـرًا حتى تأخر الوقت. لكنني حقًا أردتُ أن أتحدث.”
ابتسمت له و قالت:
“شكرًا لأنّـكَ أنقذتنـي.”
لا تبتسمي هكذا بِـحبّ.
أغمضَ آيفرت عينيـه.
“سأتعافى بسرعة و أذهب!”
قالت ذلك و هي تلوّح بيدها.
أغلـقَ آيفرت باب الغرفة خلفه.
― طق.
على عكسِ الغرفة المشرقة، كان الممر مضاءً بضوء خافت فقط.
تنفّس آيفرت نفسًا قصيرًا.
في الحقيقة، أريـد أن أتوسّل إليـكِ، روديلا.
ماذا ستقولين لو توسّلتُ إليكِ لكـي آتي معـكِ الرحلة الخارجية؟
هذه مجرّد خيالات مستحيلة.
فكرة التّخلـي عن الأسـاس الذي يجبُ أن أبنيـه لحمايتـكِ عند عودتـكِ، و التّشبث بـكِ بدلاً من ذلك…..
ومع ذلك، لا أستطيع أن أترككِ تذهبين وحـدكِ، فماذا أفعل؟
أنـتِ ، على عكسي، ستكونين بخير خلال الرحلة، حتّى بدوني.
ربّما ستتجوّلين متحمّسة للأشياء الجديدة دونَ أن تشعـري بأيّ فراغ.
نعـم، ستكونين بخيـر .
لكن أنا لسـتُ كذلك.
“……”
غـادرَ آيفرت من أمام الغرفة.
على الرّغمِ من علمه أنّهـا لن تلاحـظ، إلا أنه لم يرد أن يتـرك حتّى ظلًا صغيرًا في الضّوء المنبعث من الغرفة.
كان يعرف سبب قرار الوزيرة أميريس بإرسال روديلا إلى الخارج.
مجرّد كشف جزء من قوات رويدن جعـلَ تحرّكات الفصيل الأرستقراطي تتغيّـر.
أدركَ الأرستقراطيون، الذين كانوا يعتقدون أنهم يمكن أن يتفوّقـوا بالقوة العسكرية، أن الورقة المخفية للإمبراطور كانت أكبر مما توقّعوا.
إذا استمـرّ الوضع هكذا، فسيكون هناك حرب شاملة.
و في هذه الحالة، ستكون روديلا، التي من المرجح أن تصبح رئيسة الوزراء القادمة لفصيل الإمبراطور ، في خطـر.
إذا بدأ فصيل الإمبراطور بقيادة رويدن في حماية روديلا بشكلٍ مكثّـف، فقد يتغيّر الوضع، لكنها ستصبح حينها رئيسة وزراء ناقصة.
بالنّسبة للأرستقراطيين المحايدين، ستبدو روديلا مجرّد رئيسة وزراء تسلّقت المناصب بفضلِ نفوذ فصيل الإمبراطور، دونَ كفاءة حقيقيّة.
وهذا ليـس ما تريـده هي.
لذا، كـان هناك حـلّ واحـدٌ فقط.
إبعادهـا عن ساحة المعركة تمامًا.
“…….”
عـضّ آيفرت شفتـه.
هذه هي الطّريقة التي تتيح لكِ الحصول على كل ما تريدينه.
“أعلـم، أنـا أيـضًا.”
أعلـم ، لكـن….
التعليقات لهذا الفصل " 87"