****
منذُ أن دخلَ آيفرت إلى الغرفة و حتّى الآن، لم يستطع رفع عينيه عن روديلا.
كان ينتبه إلى كلّ حركةٍ تقوم بها، إلى أين توجه نظراتها، وفي أيّ لحظة تستنشق و تزفر.
كان يراقبها بعنايةٍ فائقة.
للوهلة الأولى، بـدت بخير. لكن آيفرت يعرف أنها شخصٌ حسّاس أكثر مما تبدو عليه.
كان يعلم أنها مثل اللؤلؤة، تبدو قاسية من الخارج، لكن إذا انكسرت تلكَ القشرة، فإن داخلها الرقيق يسهل جرحـه.
لذلك، حـاولَ التّحدث بحذر.
لكن يبدو أنها كانت تعرف كلّ شيء بالفعل.
“الجزيرة، لقد تعاملت معها.”
“أعلـم.”
ردّت بهذه البساطة.
ربّما زارتها رئيسة الوزراء.
أغلـقَ آيفرت فمه بقوة في خطٍّ مستقيم.
إلى أيّ مـدى أخبرتها؟
كانت هذه هي اللّحظة التي كان يخشاها أكثر من أي شيء آخر.
ما الذي تعرفينه، يا روديلا؟
تدفّقت أفكار لا حصر لها في ذهن آيفرت.
هل يجب أن أخبرها أنني ذهبت للتعامل مع ماليك بران لكنه كان ميّتًـا بالفعل؟
هل يجبُ أن أبدأ بإخباركِ إنه تجـرّأ على إرسال قتلة إليكِ، حتّـى ربّمـا….
هل ستنظرين إلي بأقل قدر من الخوف؟
أخيرًا، فتحَ آيفرت فمه.
“و ماليك بران مـات.”
ربّما بسببِ التصريح المفاجئ، اتّسعت عينا روديلا.
“لماذا؟”
“كان ميتًا عندما وصلت.”
نظرت روديلا إليه بهدوء.
شعرَ آيفرت أنه يعرف ما الذي تفكّـر فيه.
تريدين أن تسألي لماذا ذهبت إليه، أليس كذلك؟
ربّما تعرفين أيضًا أنني لم أذهب بنوايا حسنة.
“… هل كان له علاقة بهذا الحادث؟”
كما توقّـع، طرحت سؤالاً حذرًا.
هل كان مرتبطًا بقضية الطائفة المزيّفة؟
هل كان لديّ سبب مشروع للذهاب إليه؟
تحتَ افتراض أنني عقلاني للغاية، تحاولين دائمًا إعطائي مبـرّرًا.
لذلك، في عينيكِ، و أمامكِ، كنتُ دائمًا صديقًا عقلانيًا و جيّـدًا.
لكن، هل سيكون الأمر كذلك هذه المرة أيضًا؟
“لا، لقد استهدفـكِ من قبل.”
أخيرًا، تحدّثَ آيفرت بصدق. فتحت روديلا فمها قليلاً.
“لذلك أردت تحذيره. ليعرف ماذا سيحدث إذا لمسـكِ. لكن…”
ضيّقَ آيفرت عينيه.
“تحركات فصيل النبلاء أصبحت مختلفة عن المعتاد.”
لم يكن يتوقع أن يقضوا عليه مباشرةً.
بل على العكس، لقد تخلّصوا من ورقة ماليك بران لضبط الأمور داخليًا.
بدت روديلا و كأن لديها الكثير من الأسئلة. لكن بعد صمتٍ قصير، سألت:
“مثل ما فعلته رويدن؟”
إذن، تعرفين عن وضع رويدن أيضًا.
أغلقَ آيفرت عينيه ببطء ثم فتحهما.
“نعم.”
ما الذي كنتُ أخفيه عنكِ، و إلى أي مدى تعرفين؟
وهل ستتقبّلينني حتى لو عرفتِ؟
لقد حـانَ وقت الحكم.
****
لم يبدُ آيفرت، الذي يومئ برأسه دونَ تردّد عند الحديث عن رويدن، و كأنّـه ينوي إخفاء شيء.
إذن، لماذا أخفـى الأمر حتّى الآن؟
نظرت روديلا إليه بهدوء.
أشخاص رويدن المنتشرون في الإمبراطورية.
قالت رئيسة الوزراء إن رويدن متجذرة بعمق في الإمبراطورية.
كم من الأشياء كنتَ تخفيها؟
“كل ما تكرهينه، أكرهـه أنا أيضًا.”
كما قلتَ ذات مرّة، كل ما أكرهه تكرهه أنتَ أيضًا.
هل هذا هو السّبب في أنكَ أخفيتَ و قمعتَ كل شيء؟
كان لديها الكثير من الأسئلة التي أرادت طرحها.
عن هذا المستشفى، عن رويدن.
من خلال هذا الحوار، أدركت أن آيفرت لم يعد ينوي إخفاء شيء عن رويدن.
ومع ذلك، كان من الصّعب عليها السؤال.
مهما كان ما أخفـاه، فإن آيفرت لا يزال آيفرت بالنّسبة لهـا، إذن لمـاذا؟
لم تستطع روديلا العثور على مصدر هذا الاضطراب.
عند التّفكير جيّـدًا، كان دائمًا لديه قدرة استخباراتية مشبوهة.
على الرّغمِ من أنه لا يغادر مقر فرقة الفرسان الزّرق أكثر منها، و يبدو دائمًا بجانبها،
كانت عيناه تتفحّصان الإمبراطورية بأكملها، وليس العاصمة فقط.
كيف لم تلاحظ ذلك؟
فتحت روديلا فمها فجأة.
“هل تعلم أنني تلقّيـتُ عرضًا لجولة خارجية؟”
إلى أي مدى تعرف، يا آيفرت؟
كم من الأشياء اضطررتَ للتّظاهر بجهلها لتقمع نفسكَ و تخفيها عني؟
“مِن مَـنْ؟”
لكن آيفرت بدا وكأنه لا يعرف شيئًا عن هذا الأمر.
ثم، كما لو أنّه خمّـن الجواب، سأل:
“… هل اقترحت رئيسة الوزراء ذلك؟”
سأل مرّةً أخرى ثم تابـعَ مباشرةً:
“لم أكن أعلم، حتّى هذه اللحظة.”
عند هذه الكلمات، فتحت روديلا فمها.
“فقط شعرت أنكَ قد تعرف، فسألت.”
تقاطعت نظرات روديلا و آيفرت.
“كنت أعلم أن رويدن عائلة عظيمة، لكن في طريقي إلى هنا… رأيتّ أن هناك أشخاصًا يتبعونكَ أكثر مما كنتُ أتخيّـل.”
ليسَ فقط أن كل هؤلاء الأشخاص كانوا من رويدن، بل إن هذا المستشفى مملوك لرويدن أيضًا.
بينما كان عقل روديلا يصبح مشوشًا، تحدث آيفرت وهو ينظر في عينيها.
كما لو أنه لـن يتهرّب بعد الآن.
“نعم، هناك أكثر مما رأيـتِ حتّى.”
كما لو كـان الأمر لا يهم.
ثم سأل آيفرت:
“لكن، ما قصّة الجولة الخارجية هذه؟”
يبدو أنه لم يكن يعلم حقًا. نظرت إليه روديلا وقالت:
“قالت رئيسة الوزراء أنّ عاصفة دموية ستهبّ على الإمبراطوريّـة قريبًا.”
لذلك، يجبُ أن أتجنّب الأمر.
عندما رأت وجهه الذي لم يتغيّـر تعبيره، أدركت روديلا أنه كان يتوقّع ذلك.
“قالت أن فصيل النبلاء شعـرَ بالتهديد من حجم قوّات رويدن. لا أعرف لماذا، لكن هذا الحادث…”
نظرت روديلا إليه وقالت:
“يبدو أنه تـمّ تسجيله على أنني خاطرتُ بحياتي للقبضِ على الطائفة.”
ربّما قـام رويدن بنشر تلكَ الشائعة.
على الرّغمِ من أنها قالت أنها تكره الأشخاص الذين يتلاعبون من وراء الكواليس، كان من الغريب أنها تقبّلت هذه الحقيقة بهدوء.
كانت تقول أنّهـا تكره الأشخاص المتناقضين، لكن أمام آيفرت، أصبحت هي نفسها هذا الشخص، و كان من الغريب أن هذا بـدا مقبولًا بشكلٍ مدهش.
“لأن ذلكَ مفيد.”
لم يبدُ أن كلماته تُخفـي شيئًا.
هل أصبحتَ تشعر بالرّاحة لأنه يمكنكَ أخيرًا الكشف عن الأمور؟
صمتت روديلا للحظة ثم تابـع:
“لذا، يبدو أن جلالة الإمبراطور نظـرَ إليّ بعين الرضا. قالت إنه إذا استمـرّ الوضع هكذا، فلن يكون من الصّعب أن أصبح رئيسة الوزراء القادمة. لذا…”
عدّلت روديلا جلستها و تابعت:
“إذا رأيتُ الكثير من الحالات الأجنبية، فسيكون ذلك مفيدًا بالتّأكيد، و بما أن الإمبراطورية ستصبح خطرة…”
شعرت و كأن هناك حبّـات رمل في فمها، تُصدر صوتًا خشنًا.
مع هذا الفكرة، أنهت روديلا كلامها.
“للّجـوء إلى مكانٍ آمن، و للحصول على ميزة إضافية لا يستطيع رايان ديفيلت منافستها. هكذا سأصبح رئيسة الوزراء بالتّأكيد.”
لذا، تلقّيت هذا العرض.
أعلـم، أنا أيضًا.
أعلـم.
لكن، لسببٍ ما، لم تستطع قول الكلمات التالية.
سأذهـب.
تلكَ الكلمات البسيطة.
“الخارج.”
كان صوت آيفرت منخفضًا أكثر من المعتاد.
تعبيره يبدو غير مبـالٍ… لا.
يبدو متصلبًا. لا، ليس متصلبًا، بل تعبيره كأنّـه يتحمّـل شيئًا.
نعـم، تعبير يتحمّـل.
أدركت روديلا فجأة.
كان ذلكَ التّعبير الذي رأته دائمًا ليس تعبيرًا خاليًا، بل تعبيرًا و كأنّـه يتحمل شيئًا.
لماذا أدركت ذلكَ الآن فقـط؟
ذلك التّعبير الذي يظهر عندما لا تستطيع التّصرف كما تريـد، عندما تقمع نفسكَ.
لم تستطع روديلا رفـع عينيها عنه.
ماذا حدثَ للجزيرة الغربيّة؟
الطّائفة المزيفة، على الأرجـح، لم تنـجُ.
وعندما ذهبَ إلى ماليك بران، ربّما كان ينوي قتله.
ربّما، كما فعلت عندما أمسكتَ بصاحب الوجوه الألف، أو عندما تعاملتَ مع لصوص ميرپول.
كان لديكَ ذلك التّعبير البارد.
على عكسِ التّعبير الذي تُظهـره لـي.
بدوتَ دائمًا و كأنّـكَ تتحمّـل الكثير.
حتى عندما تعاملـتَ مع لصوص ميرپول و كسرتَ أطرافهم بلا مبالاة، كان لديكَ هذا التّعبير.
كما لو أنّـكَ كنتَ ستفعل أكثر لو لم أكـن هناك.
و عندما سقطتُ، ربّما هززتَ سيفـكَ.
جـوّك البارد، الذي شعرتُ أنه ينتمي إلى شخصٍ آخر.
ربّما كانت تلكَ مشاعـركَ المقموعة.
كنتُ أعلم دائمًا أنكَ تتحمّـل شيئًا.
كنتُ أعلم أنّـكَ لستَ مجرّد شخصٍ طيّـب، و أن هناك جانبًا باردًا آخر كامنًا بداخلكَ.
لكن بالنّسبة لي، كنتَ دائمًـا الصّديق المرح و الجيّـد.
ربّما نسيتُ ذلكَ دونَ وعـي.
أو ربّما تظاهرتُ بعدم المعرفة.
لأنني خفتُ من رؤية انفجـاركَ. لأنني خفتُ من رؤية الدّم الذي تحمله.
لكن، قبل كل شيء، شعـرتُ بالقلق أوّلاً.
التعليقات لهذا الفصل " 86"