عندما فتحتُ عينيَّ دونَ وعي و حاولتُ استعادة رباطة جأشي.
رأيتُ أناسًا يؤدّون التحيّة بنفس الوضعيّة تمامًا.
سواء كانوا تجّارًا، أو بملابس العامّة، أو يرتدون زيّ القتلة المغطّى بالسواد، أو حتّى أشخاصًا يبدو عليهم النبل بوضوح، لم يكن ذلك يهمّ.
كانت تلكَ التحيّة، حيث يضربون صدورهم مرّتين و يضعون قبضة إحدى يديهم على الصدر بينما يحنون رؤوسهم، مميّزة للغاية، فبقيت محفورةً في ذاكرتي بوضوح.
كلّما فقدتُ الوعي ثمّ استعدته، كنتُ أراها من زوايا مختلفة، فلم يكن بإمكاني إلّا أن ألاحظها.
“لحسن الحظّ أنّنا وصلنا بسرعة، لكنّ سيّد الأسرة…”
كان هناك رجل ينادي آيفرت بأسلوب خفيف نسبيًّا.
“أخيرًا أرى وجهها….لكن كيف كونها مستلقية هكذا..؟”
سمعتُ أيضًا صوتًا يقول كلامًا غير مترابط.
كانت الذكريات تتدفّق في ذهني المضطرب كما لو أنّ عشرات الأختام تُطبع فيه، ثمّ تتلاشى فجأة.
فتحت روديلا عينيها المشتّتتين.
شعرت و كأنّ عددًا هائلًا من الذكريات تتبخّر في لحظة، مثل قلعة رمليّة تجرفها الأمواج.
“آه، لقد استيقظتِ؟”
“أين أنـا؟”
حاولت روديلا التّمسك بأفكارها المعقّدة و فتحت فمها لتتحدّث.
“هنا مستشفى العاصمة ليناريس.”
شعرتُ و كأنّني أعيش تجربة ديجافو.
كأنّني أجريتُ حوارًا مشابهًا في ذلك اليوم.
كان السقف و الديكورات المحيطة، التي أراها للمرّة الأولى منذُ فترة، تنضح بجمال مقيّد.
“…..!”
فجأة، تذكّرتُ أجواء أسرة رويدن.
‘كيف لم أنتبه لذلك من قبل؟ هذا المكان يشبه رويدن إلى حـدٍّ كبير. ‘
“ما هو العام الحالي؟ هل تتذكّرين الموسم؟”
أجابت روديلا على الأسئلة التي كانت تصلها وسط ارتباكها، و شعرت تدريجيًّا بأنّ وعيها يصبح أكثر وضوحًا.
وفي خضمّ ذلك، أدركت شيئًا جديدًا.
كان الطّبيب الذي يفحص حالتها ينضح بأجواء مميّزة لخدم النبلاء، و هي أجواء لم تشعر بها في المستشفى الإمبراطوري.
تذكّرت روديلا زيارتها للسيّدة رويدن في المرّة السابقة في هذا المستشفى.
حتّى الأطبّاء آنذاك كانوا يتعاملون مع سيّدة رويدن بتوقير.
بعد أن أجبتُ على أسئلة متنوّعة، بدا أنّ الطبيب قد اقتنع بعدم وجود مشكلة، فقال:
“توقّف النزيف مبكرًا، لكنّكِ لم تستيقظي لفترةٍ طويلة، فكان هناك قلق كبير.”
مالت روديلا برأسها قليلًا.
“فترة طويلة؟”
هل كنتُ مستلقيةً لهذه المدّة؟
بفضل الذكريات التي كانت تتخلّلها بين الحين والآخر، شعرت و كأنّها كانت تنام و تستيقظ لساعات قليلة فقط.
“نعم، لقد استيقظتِ كان بعد حوالي ثلاثة أيّام.”
صدمتني كلمات الطبيب الذي كان يشرح الأمور.
ماذا؟ ثلاثة أيّام؟
“لذا، يُرجى تجنّب الحركة المفرطة…”
“لحظة، انتظر.”
ثلاثة أيّام دونَ أن أستيقظ؟
اتسعت عينا روديلا.
دون وعي، حاولت رفع جسدها بسرعة، لكنّها انهارت مجدّدًا بسببِ الألم الحادّ الذي شعرت به في جسدها.
“آه!”
“جسمكِ تعرّض لصدمةٍ كبيرة، لذا إذا تحرّكتِ بسرعة، ستشعرين بالألم.”
قال الطبيب وهو يساعدها على الاستلقاء ببطء.
“كان النزيف شديدًا، و كان سيّد الأسرة قلقًا جدًّا.”
“ماذا…”
شعرت روديلا بشيء غريب في تلك الكلمات.
كلمة “سيّد الأسرة” التي قيلت بأسلوب بدا طبيعيًّا جدًّا بدت و كأنّها تشير إلى آيفرت.
لكنّ قول “سيّد الأسرة” في مستشفى ليناريس الخاصّ كان أمرًا غريبًا.
لو كان هذا المكان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بإحدى العائلات النبيلة، لما استخدمه النبلاء.
بالطبع، كانت تلكَ الوضعيّة المفرطة في الأدب غريبة أيضًا، لكنّ هذا الأمر بدا و كأنّه يثبّت الشكوك أكثر.
أخيرًا، سألت روديلا:
“هل هناك علاقة بين هذا المستشفى و عائلة رويدن؟”
أجاب الطبيب دونَ تردّد:
“هذا المستشفى ملك لـرويدن.”
كانت عبارة غريبة. بدت مختلفة بشكلٍ دقيق عن القول إنّه ملك لعـائلة رويدن.
“…..؟”
بينما كانت الأسئلة تتزايد في ذهن روديلا، انحنى الطبيب وقال:
“لقد أمـرَ السيّد بضرورة ضمان عدم شعور السًيدة روديلا سيفريك بأيّ إزعاج.”
كانت حركات الطبيب المنسحب بأدب شديد حذرة للغاية، كما لو كان يحيّي إمبراطورًا.
―طقطقة.
عندما أغلق الباب، بقيت روديلا وحدها في الغرفة الواسعة.
“….؟”
رمشت روديلا بعينيها ببطء.
كانت تعتقد أنّ رويدن عائلة نبيلة ذات تاريخ عريق.
لكن قوّتها كانت في أوجها في عهد سيّد الأسرة السابق.
بعد أن اعتزلت سيّدة رويدن الحياة الاجتماعيّة، لم يكن هناك ما يُذكر من حيث النفوذ.
حتّى آيفرت، بعد أن أصبح سيّد الأسرة، كان يركّز على شؤون الفرسان أكثر من تعزيز مكانة العائلة….
“..…”
أم أنّ هذا ليس صحيحًا؟
تذكّرت روديلا فجأةً اليوم الذي ذهبت فيه مع آيفرت لتقديم تقريرٍ دوري.
تلكَ التحيّات العديدة التي كانت تُوجَّـه إليه.
رغمَ أنّ سيّدة رويدن اعتزلت الحياة الاجتماعيّة منذُ زمن، هل يمكن أن تكون شبكة علاقاتها قد امتدّت إلى آيفرت؟
روديلا، التي رأت أسفل هرم العائلات النبيلة من خلال عملها في قسم الشؤون العامّة، كانت تعلم جيّـدًا.
النبلاء لا يحافظون على علاقات لا تجلب منفعة لعائلاتهم.
حتّى لو كانت هناك علاقة وثيقة مع سيّدة رويدن، فإنّه بدون فائدة اجتماعيّة، لن يكون هناك مَنٔ يحرص على التقرّب من آيفرت بشكلٍ واضح.
إذن، هل مارس آيفرت نشاطًا اجتماعيًّا؟
لم يكن الأمر كذلك على الإطلاق.
بينما كانت الأسئلة تُولد المزيد من الأسئلة في ذهنها.
―طقطق.
سُمع صوت طرق خفيف.
“روديلا، هل أنتِ ترتاحين؟”
كان صوت الوزيرة.
اتّسعت عينا روديلا.
“لا!”
حتّى رئيسة الوزراء جاءت؟
حسنًا، إذا كنتُ مستلقيةً لثلاثة أيّام، فمن الطبيعي أن يأتي الجميع.
‘شعرتُ بحرارة في وجهي عندما تخيّلتُ نفسي مستلقيةً بشكل فوضوي.’
حاولتُ تحريك يدي لتهوية وجهي، لكنّ جسدي لم يطعني، ممّا أكّد أنّني كنتُ بالفعل مستلقيةً لأيّام.
“هل أزعجتُ راحتكِ؟”
أطلّت الوزيرة من فتحة الباب قليلًا.
هـزّت روديلا رأسها بسرعة.
“مستحيل!”
* * *
“هل أنـتِ بخير؟ كان هناك الكثير من الأشخاص القلقين عليكِ.”
عندما رأتها عن قرب، بدت الوزيرة أميريس متعبة.
بمساعدتها، جلست روديلا و نظرت إليها بقلق.
لم تكن أميريس من النوع الذي يعيش حياة مريحة أصـلًا، لكنّها بدت أكثر إرهاقًا ممّا كانت عليه عندما كانت روديلا في قسم الشؤون العامّة.
بالطبع، لم تكن روديلا، التي استيقظت للتوّ، في وضع يسمح لها بالقلق على الآخرين.
“أعتقد ذلك، كنتُ مستلقية لثلاثة أيّام…..”
تمتمت روديلا و هي تضغط على يدها التي لم تكن قويّة بما يكفي.
لقد تعرّضتُ لإصابات كبيرة و صغيرة من قبل، لكنّ هذه المرّة كانت الأولى من نوعها.
حتّى في يوم تخرّجي من الأكاديميّة، عندما وقع حادث العربة الكبير، لم أبقَ مستلقيةً سوى يوم واحد.
نظرت إليها رئيسة الوزراء بابتسامة حزينة وهي غارقة في أفكارها.
“يبدو أنّني أرسلتكِ إلى مكانٍ صعب.”
هـزّت روديلا رأسها بسرعة مصدومة من الكلمات التي بدت مليئة بالمرارة.
“لا، ليس الأمر كذلك.”
حرّكت يدها برفق، لأنّ جسدها لم يكن في حالة تسمح بالحركة الشديدة.
أمسكت الوزيرة يدها وأغمضت عينيها ببطء ثمّ فتحتهما.
“حسنًا، إذا فكّرنا في الأمر بدقّة، هذه الحادثة لم تحدث بسببِ عمل الفرسان.”
ثمّ ضيّقت عينيها.
كانت هناك ابتسامة بدت و كأنّها تشعر بالاستياء.
“هل تعلمين؟”
“نعم؟”
“في الأصل، إذا أُصيـبَ شخص أثناء العمل العام، يُنقل إلى المستشفى الوطني. لكن آيفرت أصـرّ على إحضاركِ إلى ليناريس.”
واصلت أميريس الحديث بابتسامـةٍ خفيفة.
“لقد هـدّد بتدمير المستشفى الوطني إذا لم يُسمح له بإحضاركِ إلى ليناريس.”
“ماذا؟”
فتحت روديلا فمها مصدومة.
ما الذي يفعله هذا الرجل؟
التعليقات لهذا الفصل " 81"