تتشابه الأجواء في الحفلات أينما كانت.
لم تكن روديلا تشعر بالتوتر في الحفلات مؤخرًا، فقد مـرّ وقتٌ طويل منذُ أن أدّت رقصة الظهور الأول لها، وكان ذلكَ أمرًا طبيعيًا.
لكن اليوم كان مختلفًا.
“آه، نعم… لقد مـرّ وقتٌ منذُ أن التقينا.”
شعرت بأن ابتسامتها المرفوعة بشكلٍ مصطنع كانت واضحةً حتى لنفسها.
كانت روديلا متوتّرة تمامًا لدرجة أنها لم تستطع إدراك كيفَ كانت الحفلة تسير.
كأنها تعود إلى يوم ظهورها الأول في المجتمع الراقي.
لكن الفرق عن ذلكَ اليوم هو أن ما جعلها متوترة حينها كان الحفل نفسه، أما اليوم…..
كان الرجل الواقف بجانبها، آيفرت، هو سبب كل هذا التّوتر.
كان دائمًا مريحًا بالنّسبةِ لها، لكن اليوم، لسببٍ ما، بدا و كأنه مصدر كل توترها.
شفتاه المطبقتان بخفة، و صوته المنخفض الذي يحملُ نبرةَ استياء.
“آمل ألا تنتشر مثل هذه الشائعات بعد الآن.”
“سأحرصُ على نشر أن علاقتكما ودية للغاية.”
رأت النبلاء يومئون برؤوسهم، و ابتسمَ آيفرت متابعًا إيّاهم.
بدا أن الأجواء تسترخي، و شعرَ الحاضرون بالراحة، لكن روديلا كانت مختلفة.
أنتَ لا تبتسم هكذا.
كانت تلكَ الابتسامة أكثرَ رسمية و تصنّعًا مما اعتادت رؤيته منه.
لم تستطع روديلا إبعاد عينيها عن وجه آيفرت.
أنتَ… لا ترفع زوايا فمكَ عمدًا، بل يحمر وجهك! و تبتسم بلطف مثل تفاحة ناضجة.
هكذا كانت تفكّر وهي تنظر إليه.
كانت تعلم أنّه ينظر إليها بنفسِ النظرات المعتادة، و يرافقها كما يفعل دائمًا، و يبطئ خطواته السريعة بأرجله الطّويلة لتتماشى معها عندما يكون بجانبها.
على الرّغمِ من أنها تعلم أنه هو نفسه كالعادة، إلا أنها شعرت فجأةً باختلافِ طريقته في التّعامل معها مقارنةً بالآخرين.
كان وجهه يترسّخ في رؤيتها بشكلٍ متزايد.
“الآن، بعد رؤيتكما عن قرب، أدركت أنها شائعات سخيفة.”
اقتربَ نبلاء يبدون من الفصيل المحايد لتحيّتهما.
رأتهم يتبادلون التحيات مع آيفرت، لكن على الرّغمِ من قربهم و حديثهم، لم تستطع استيعاب محادثتهم.
كل ما كانت تراه هو وجهَ آيفرت.
استعادت وعيها فقط عندما أمسكَ آيفرت بأطراف أصابعها برفق و رفعَ يدها.
“…!”
نظرت روبيلا إليه، عائدةً من أفكارها المتشتتة.
“أنا أعتني بها لدرجةِ أنّني لا أستطيع لمسها بتهوّر.”
تردّدَ صوته المنخفض في قاعة الحفل الهادئة.
“مَنٔ الذي نشرَ مثل هذه الشائعات السخيفة؟”
كان صوته واضحًا يخترق أذنيها.
هل كان صوته دائمًا بهذا الوقار؟
كلماته التي كانت أحيانًا خفيفة و متدفقة، بدت الآن…
هل يعرف حالتها الغارقة في الذّهول؟
سألها آيفرت:
“هل يمكنني معانقتكِ؟”
ماذا؟ أنتَ؟
يمكنكَ معانقتي مباشرةً.
لكن، فجأة؟
“بالطّبع.”
أجابت، لكنها شعرت بالحيرة.
في العادة، هل يحتاج زوجان مخطوبان منذُ سنوات إلى طلب إذن كهذا؟
سمعت همهمات الناس حولها:
“يا لهما من ثنائيّ عاطفيّ”
لكن علاقتها بآيفرت كانت مختلفة.
في اللحظة التي بدأت أفكارها تتشابك فيها…
بوف.
توقّفت روديلا لحظة عندما عانقها آيفرت.
كان ذلكَ نوعًا من التّواصل الجسدي المعتاد بينهما.
لكن المشكلة هي أنه نادرًا ما كان يبدأ هو بالعناق.
عادةً، كانت هي مَنٔ تعانقه أو تتعلّق به.
كان دائمًا يمتنع عن معانقتها، كما لو كانت تمثالًا زجاجيًا، و عندما كانت تعانقه، كان يبدو محرجًا و لكنه يستمتع بذلك.
“احذري، قد تتأذين، روديلا.”
كان دائمًا قلقًا من أن يؤذيها، كأنه لا يثق بنفسه.
لكن اليوم كان مختلفًا.
عندما أدركت ذلك، شعرت روديلا بإحساسٍ غريب أكثر.
التّواصل الجسديّ الذي كانَ يُفترض أن يكون عاديًا شعرت به كأنه يدغدغها.
هل هذا لأنه اقتربَ منها أوّلاً، على غير عادته؟
تذكرت لحظة قبلَ دخول الحفلة.
“….”
الصّمت الطويل لعشر ثوانٍ. النّظرات المتبادلة.
شفتيه اللامعتين و عينيه الزرقاوين…
“هل يمكنني فعل المزيد هنا؟”
“ماذا؟”
ردت روديلا ببلاهة دونَ وعي.
همسَ آيفرت في أذنها:
“أو، هل يمكنني تقبيلكِ؟”
“ماذا؟”
توقّفت أفكارها المضطربة فجأةً.
ماذا قال؟
كان يجبُ أن تسأله إن كان قد فقدَ عقله، لكنها لم تستطع.
لم تخرج الكلمات من فمها.
شعور الرفض الذي كان يُفترض أن يظهر باسم “الصداقة” تأخّرَ لسببٍ ما.
“…هنا؟”
لهذا السّبب، خرجَ ردٌّ غريب منها.
لماذا أهتمّ بالمكان؟!
كانت هي بالتّأكيد المجنونة هنا.
بينما كانت تحاول فتحَ فمها في ارتباك، اقتربَ آيفرت.
هل هو حقّا سيفعلها…؟
هل هي لا تستطيع التّراجع، أم أنها لا تريد التراجع؟
في لحظةٍ كانت مشدودة بالتوتر…
تشوك.
لمست شفتاه جسر أنفها ثم ابتعدت.
شعرت بحرارةٍ ناعمة تدغدغ وجهها.
“إذا لم يكن هنا، فهل تريدينها في مكانٍ آخر.”
ضحكَ النّبلاء المحيطون بهم.
“يذكرني بأيام الحب.”
“يا لها من لحظاتٍ جميلة.”
في هذه الأجواء الدافئة، شعرت روديلا و كأن رأسها يدور.
إحساس الشفتين اللتين لمستهما بقيَ كصورةٍ متبقية على أنفها.
هل تجمّعت الدماء هناك، أم أنّ وجهها بأكمله كان يحترق، أم أن رأسها كان مشوشًا؟
لقد مررنا بهذا من قبل… أليس كذلك؟
كان يُفترض أن يكونَ كذلك.
عادةً، كانت تهتمّ بما إذا كان الناس يصدقون تمثيلهما، لكن اليوم…
اليوم…
“….”
جذبت عينا آيفرت الزرقاوان انتباهها أكثر.
بدا في عينيه المتعة، و الارتجاف، و ربّما حتى الإثارة.
لم تكن تعرف إن كانت تلكَ المشاعر هي ما تشعر به هي، أم ما يشعر به صاحب تلكَ العينين، آيفرت.
“أنا، آه، أمم، نعم.”
وجهها المحمر كشفَ مشاعرها و أخفاها في الوقت ذاته.
بينما كان الجميع يبتسمون، معتبرينها عروسًا خجولة، كانت روديلا تتخبّط خلفَ قناع التمثيل الضحل.
“….”
لم تكن تعرف ماذا تفعل. لذا، ألقت باللّوم على آيفرت في رأسها الفارغ.
…أنتَ تجعلني أفكّر بأفكارٍ غريبة.
في هذه اللّحظة، أشعرُ و كأنكَ حبيبـي.
تمثيلكَ يخدعني أنا أيضًا.
ماذا لو وقعتُ في الوهم حقًا؟
بينما كانت في حيرة، كانَ آيفرت يضحكُ مع الآخرين بوجهٍ هادئ.
نظرت روديلا إليه خلسةً و عضّتْ داخل فمها بقوّة.
* * *
انتهى الحفل الاجتماعي الذي أقامته عائلة رويدن لفرقة الفرسان الزّرق بنجاح.
أشادَ النّبلاء المحايدون بالحدث.
“لو كانت نصف الحفلات الأخرى بهذا الجوّ الرائع، لكنتُ شاركت.”
“كان هذا الحفل واحدًا من أفضل الحفلات التي رأيتها مؤخّرًا.”
وكان ذلكَ متوقعًا، لأن مركز الحفلات الاجتماعية كان يهيمن عليه الفصيل الأرستقراطي، مما جعلَ النبلاء المحايدين حذرين من المشاركة.
كانت هناك حالات يتمّ فيها استبعادهم علنًا، و كانت المناقشات السّياسية الحادّة شائعة.
“إذا أقمتم واحدًا آخر، سأحضر بكل سرور.”
رحّبوا بهذه الفرصة للتّجمع براحة.
في البداية، عندما استهدفت عائلة بران أورتين، كان هدفهم إظهار “كيف أن أعضاء فرقة الفرسان الزّرق سيصبحون معزولين و فاسدين.”
لكن الأمور سارت عكسَ توقعاتهم تمامًا.
بعد انتهاء الحفل، عمّت أجواء ودية فرقة الفرسان الزّرق .
كلمات لاتيني كانت ذروة هذه الأجواء.
“لقد انتهت تسوية هذا الربع، أيها السادة.”
وقفَ بوجهٍ واثق في ساحة التدريب، مخاطبًا الفرسان المجتمعين.
“كما وعدت، حانَ الوقت لمكافأة نتائج ‘التدابير الخاصة’ لفرقتنا.”
نظرَ الفرسان إلى بعضهم بعضًا.
“هل تقصد المكافآت بناءً على الأداء؟”
“هل ستُمنـحُ حقًّـا؟”
التعليقات لهذا الفصل " 70"