لم تتغيّر ملكيّة إمبراطوريّة هارنيس خلالَ حرب الوحوش الطّويلة.
كان ذلك بفضلِ ذكاء الإمبراطور الحاليّ وحنكته وحكمته.
لو لم تكن فترة حكمهِ في خضمّ حرب الوحوش، بل في عصرٍ سلميّ، لما ترك أيّ مجالٍ للنّبلاء الذين يتفاخرون بانتمائهم إلى فصيلهم.
من الخارج، بدا كحاكمٍ عادلٍ يبتسم للنّبلاء والعامّة على حدٍّ سواء.
لكنّه في الدّاخل كان يشحذ سكّينًا ليوجهه نحو فصيل النّبلاء في أيّ لحظة.
“يا للأسف… يا للأسف.”
لذلكَ كان الأمر أكثر إثارةً للأسى.
في الظّلال، كان هناكَ مَن ساعدوه، أو بالأحرى كانوا يساعدونه: عائلة رويدن.
ومن جهة أخرى، رئيسة الوزراء أميريس، التي تستخدم عقلها الاستثنائيّ بمنتهى العدالة.
لو استُخدمت قوّة الاثنين بالكامل، لكان بإمكانهم التّخلّص من كارتل النّبلاء المزعج منذُ زمن.
لكن، لسوءِ الحظّ، توفّي دوق رويدن السّابق خلال حرب الوحوش بسببِ “ذلك الحادث”، ممّا جعل العلاقة مع رئيس عائلة رويدن الحاليّ، آيفرت رويدن، غامضة.
كما أصيبتْ صحّة أميريس بضررٍ كبير.
بسببِ تحمّلها عبء إدارة شؤون الإمبراطوريّة تقريبًا بمفردها بينما كان الإمبراطور يتصارع مع النّبلاء.
كم مِنَ الوقت يمكنها الصّمود؟
سنتان؟ سنة واحدة؟
وقفَ الإمبراطور عند النّافذة ينظرُ إلى المشهد الملوّن بغروب الشّمس، وكان وجهه مغطّى بالقلق.
لكن، كان هناكَ خبرٌ واحدٌ سارّ على الأقل…
“روديلا، أليس كذلك؟”
ظهرتْ ابتسامة خفيفة على شفتي الإمبراطور.
كانت تتبع رئيسة الوزراء أميريس وتعلن أنّها ستصبح رئيسة وزراء بقدراتها وحدها، دونَ مساعدة أحد.
“لقد وجدتِ حقًّا أفضل المواهب، يا أميريس.”
عندما قالَ ذلك، تنهّدت أميريس وأجابت:
“إلى درجةٍ تؤلم القلب.”
حاولتْ أميريس منذُ دخول روديلا إلى قسم الشّؤون العامّة أن تُهيّئ لها أساسًا لتنطلقَ منه.
لكنّ الإمبراطور لم يكن يريد رئيسة وزراءٍ من هذا النّوع.
كان يريدها شخصًا لا عيبَ فيه، لا يمكن للكارتل إسقاطه مهما حاولوا.
ولحسنِ الحظّ أو لسوءه، كانَ حلم روديلا سيفريك يتماشى مع حلمِ الإمبراطور.
لذلك، تخلّت أميريس عن كلّ ما كانتْ تخطّط للقيام به.
وهكذا، بدأت روديلا سيفريك رحلتها بمفردها في قسم الشّؤون العامّة المليء بالأعداء، ونتيجةً لذلك…
“سأبدأ تقريرَ أداء فرقة الفرسان الزّرق.”
كانَ تقرير أدائها هذه المرّة مرضيًا للغاية.
لم تكنْ لها علاقة طيّبة مع فصيل النّبلاء.
لو أمكنَ رفعها إلى منصب رئيسة الوزراء،
فسيكونُ للإمبراطوريّة مستقبل.
ما إن تبلّرت هذه الفكرة في ذهنه، بدأ الإمبراطور في وضعِ خطّة.
وكان اليوم هو اليومُ الأوّل للكشف عنها.
“جلالتك، قائد فرقة الفرسان الحمر وقائد فرقة الفرسان الزّرق يطلبانَ الالتقاء بكَ.”
“دعهما يدخلان.”
أدارَ الإمبراطور ظهره عن مشهد الغروب واستدار.
كان التّوقيت مثاليًّا.
بعد أن أكمل أفكاره، نظرَ إلى قائدي الفرقتين وهما يدخلان قاعة الاستقبال.
“نحيّي جلالتك.”
―شق!
ركعا على ركبة واحدة وأدوا تحيّة الفرسان، فـفتحَ الإمبراطور فمه.
كان ذلكَ إعلانًا لحربٍ صامتة.
“يبدو أنّ التنافس بين فرقتي الإمبراطوريّة وتراكم المشاعر بينهما يسبّبان خسارةً للإمبراطوريّة.”
عندَ هذا الكلام، توقّف قائدا الفرقتين للحظة.
“إذا كنتم حريصين على تحديد الأعلى والأدنى، فلمَ لا تخوضان تنافسًا ودّيًّا؟”
“ماذا تعني، جلالتك…؟”
تنافسٌ ودّيّ؟
بينما كانت أنظار قائدي الفرقتين تتشابك بحدّة،
ابتسمَ الإمبراطور.
“أتوقّع الكثير من التقرير الدّوريّ القادم. أليس هذا فرصةً لإظهار أيّ فرقة هي الأفضل بوضوح؟ خاصّةً مع دخول مسؤولي الشّؤون العامّة الجدد.”
جلسَ الإمبراطور في مقعده بشكلٍ أكثر راحة وقال:
“بالطّبع، سأكافئ الفرقة التي تحقّق أداءً متميّزًا، وقائدها و نائبه، و…”
كلمات إعلان الحرب خرجت من فمه.
“―مسؤول الشّؤون العامّة أيضًا، سيحصل على مكافأة كبيرة، لذا ابذلوا قصارى جهدكم.”
“حسنًا، جلالتك.”
ظهرَ التوتّر على وجهي قائدي الفرقتين.
حتّى لاتيني، الذي كانَ يحاول تجاهل السّياسة، أدرك أنّ هذا سيكون بمثابةِ المواجهة الحاسمة لتحديدِ رئيس الوزراء القادم.
ساد الصّمت الثّقيل قاعة الاستقبال.
* * *
كان جدول أميريس، رئيسة الوزراء، مليئًا بالأعمال التي نادرًا ما تسمح لها برؤيةِ ضوء الشّمس.
كانت تستيقظ قبلَ شروق الشّمس، تتعامل مع الأعمال المزدحمة، وعندما تنظر إلى الخارج، قد ترى أحيانًا أطرافَ ضوء الشّمس في الصّيف فقط.
حتّى ذلك لم تتمكّن من رؤيته مؤخّرًا.
بينما كانت أميريس تنظر إلى الحبر الأسود، غرقت في أفكارها، متسائلة إن كان السّماء سوداءً في الأصل.
فُتحت النّافذة فجأةً.
بدلًا من الطّرق، فتحتْ النّافذة و أطلّ منها صديقها القديم، لاتيني موديلاك.
بضوءِ الغسق في ظهره، ابتسمَ صديقها القديم.
“هل يمكنني الدّخول؟”
أخذَ يسأل بعدَ أن دخلَ نصفه بالفعل.
ضحكت أميريس.
“ماذا لو قلتُ لا؟”
“سأغلق النّافذة و أغادر.”
هزّت أميريس رأسها عند كلامِ لاتيني.
“ادخل.”
ثمّ أبعدت عملها جانبًا وقالت:
“لمَ تأتي بهذه الطّريقة المميّزة كلّ يوم؟”
لكي لا أشعر بالملل؟
―نقرة.
أغلقَ لاتيني النّافذة وأجاب:
“لا يمكن أن يُكتشف أمرنا.”
من أجلِ كمال روديلا سيفريك.
حتّى لو كان قائد فرقة الفرسان الزّرق و رئيسة الوزراء صديقين، لم يكن بإمكانهما إقامة لقاءاتٍ خاصّة علنًا لهذا السّبب.
كانَ هناكَ دائمًا روديلا سيفريك، التي يجبُ أن تكون بلا عيوب.
إذا انتشرت شائعة أنّ رئيسة الوزراء و قائد فرقة الفرسان الزّرق يدعمان روديلا سيفريك سرًّا، فلن يُسرّ ذلك سيّدهم، ولا حتّى روديلا نفسها.
لذلك، منذُ أكثر من عشر سنوات، بدأت الشّائعات تقول أنّهما متباعدان.
كانا يلتقيان سرًّا، لكن…
شعرت أميريس بالأسفِ على ذلك. لكن من أجل الإمبراطوريّة، ومن أجل تلكَ الفتاة.
ابتسمت أميريس.
هل تعلم تلكَ الفتاة كم هي محبوبة من الكثيرين؟
“تعال إلى هنا.”
قادت أميريس لاتيني، الذي دخلَ مكتبها الخاص بالعمل بلا اكتراث، إلى مكانٍ آخر.
كان المكان غرفة سرّيّة خلف مكتبة، يجب إلغاء قفل جهاز للوصول إليها.
بدَا لاتيني متفاجئًا.
“هل كان هناكَ مكانٌ كهذا؟”
على الرّغم من زياراته المتكرّرة، كان هذا المكان جديدًا عليه.
نظرتْ إليه أميريس.
“ليس مكانًا يدخله أيّ أحد. خاصّةً من اليوم فصاعدًا.”
عند هذا الكلام، وضعَ لاتيني ذراعيه على صدره، فأضافت أميريس:
“بما أنّ ‘الحرب’ بدأت رسميًّا، يجب أن نكون أكثر حذرًا.”
مالت رأس لاتيني وقال:
“هل يُسمح لي بالدّخول إذن؟”
إذا كانت هذه الحرب هي معركة لمنصب رئيس الوزراء، فهذا يعني أنّ هذا المكان مخصّص للإمبراطور.
“أنتَ لست عدوًّا لي ولا لجلالته، أليس كذلك؟”
“آه.”
بالطّبع.
لم يكن لاتيني ينوي أن يكون عدوًّا، لكن هذا كان بمثابة طلبٍ لتأكيد ولائه.
حليفٌ كامل للإمبراطور و لرئيسة الوزراء.
ضحكَ لاتيني أخيرًا.
“لو جعلتُكِ عدوّة، لن يبقى لي أصدقاء.”
ثمّ أمسكَ يدها وهزّها بحماس.
“أنا حليفكِ تمامًا. هل هذا كافٍ؟”
“…..”
نظرتْ أميريس إلى يدها وهي تتأرجح بفعلِ مصافحته، ثمّ رفعت عينيها إليه.
جاءت ابتسامتها متأخّرة، وكأنّها مصطنعة.
“…إذن، كيفَ حال الأطفال؟”
كانت تتحدّث عن روديلا و آيفرت.
التعليقات لهذا الفصل " 53"