كانَ هناك، بالطّبع، ساحرٌ في عربتهم، لكن هذا السّاحر كان مميّزًا بعضَ الشيء.
“عندما بدأتُ بصنعٌ هذه الأصفاد…”
ساحرٌ ثرثارٌ جدًّا… بل، كانَ هو من صنع الأصفاد السّحريّة المُحسّنة في الفرع بنفسه.
لقد تطوّعَ للذّهاب إلى جانب آيفرت في مهمّةٍ خطرة، راغبًا في رؤية فعاليّة إبداعه بعينيه.
بالنّظرِ إلى أنّ الآخرين كانوا يتجنّبون بشدّة المهام التي تشمل آيفرت، الملقّب بـ”الكارثة المتجوّلة”، كان هذا أمرًا استثنائيًا.
يمكنُ القول إنّه مثالٌ لتغلّب الفضول وروح البحث على تهديد الحياة.
وكانَ هو…
“بالنّسبة لهذه الأصفاد، بمجرّد ربطها، تصبح شفّافة…”
ساحرًا…
“… بفضلِ تقنيات سحريّة متطوّرة، إنّها حقًّا مذهلة…”
ثرثارًا…
“…مختلفةٌ تمامًا عن الأصفاد العاديّة…”
جدًّا…
“…لذا، لن يتمكّن صاحب الوجوه الألف من فتحها أبدًا!”
… جدًّا.
لم يكن آيفرت يهتمُّ برفع حاجبيه أو عدمه، فكان السّاحر منهمكًا في التّباهي بإبداعه.
لكن، على عكس آيفرت، كانت روديلا تستمع جيّدًا لكلامه.
كان ذلكَ منطقيًا، فمنذُ أن انضمّت إلى قسم الشؤون الإدارية، كانَ من الشّائع أن يمسك بها شخصٌ ما لأكثرَ من ساعة ليشتكي و يطالبها بالاستماع إلى مشاكله.
“أحضروا شخصًا أعلى منكِ! لا يمكن التّفاهم معكِ!”
كانت هذه الجملة تتكرّر، وكانت النتيجة عادةً شيئًا سخيفًا مثل: “عائلتي لا تملكُ المال، ألا يمكن للحكومة إقراضنا شيئًا؟”
إذا استمعت بإحدى أذنيها وأخرجت الكلام من الأخرى، كانوا يصرخون فورًا:
“هل تتجاهلينني الآن؟! أتعرفينَ مَن أنا؟!”
وإذا رفضت طلبهم، كانوا يردّون:
“هل تتجاهلين عائلتي؟! أتعرفينَ مَنْ أنا؟!”
…ثم يبدأون بالتّعريف عن أنفسهم تلقائيًا.
بما أنّها تعاملت مع عددٍ لا بأس به من هؤلاء المتعطّشين للتعريف بأنفسهم بلا داعٍ، كانت ثرثرة هذا السّاحر شيئًا يمكنها تحمّله.
بل إنّها بدت لها كشرحٍ مناسبٍ لمنتجٍ ما.
“يبدو أنّها مختلفة فعلاً عن الأصفاد العاديّة. تصبح شفّافة بمجرّد ارتدائها؟”
الطّريقة لإرضاء مَن يتحدّثون بلا توقّف هي إظهار أنّكَ تستمع و طرح أسئلةٍ متابعة.
وكان السّاحر راضيًا جدًّا عن ردّها.
“تومض بضوءٍ لتُظهر أنّها أُغلقت بشكلٍ صحيح، ثم تصبح شفّافة… كح، وبذلك، حتّى أمهر السحرة لن يتمكّنوا من فهم تدفّق القوّة السحريّة بسهولة…”
لاحظت روديلا، وهو يتمتم، أنّه من النوع الذي يمتلك القدرة لكنّه ضعيف في الشّرح.
لا بأس. يمكنني إدارة هذا الأمر من الآن فصاعدًا.
أليسَ جزءًا من عمل مسؤول الشؤون الإدارية خلق بيئةٍ تُمكّن أعضاء الفرقة من إظهار قدراتهم الكاملة؟
“فهمت. في المستقبل، قدّم مثلَ هذه الأشياء لي أوّلاً. أنا مهتمّة جدًّا.”
لمعت عينا السّاحر عند سماعِ ذلك.
“حقًّا؟”
كانَ وجهه يقول إنّه وجدَ أخيرًا شخصًا يستمع إليه.
“أعضاء الفرقة، بمجرّد أن أبدأ الشرح، يبدأون جميعًا…”
بدأ السّاحر يمسح دموعه، وكأنّ لديه الكثير ليقوله.
نظر آيفرت إلى روديلا.
“هذا الرّجل، عندما يبدأ بالكلام، يستمرّ لثلاثين دقيقة دونَ توقّف.”
كانَ تعبيره يقول إنّه نفد صبره. لكن وجه روديلا أشرق بحماسٍ صادق.
“ثلاثون دقيقة؟ هذا مقبول!”
بالمقارنة مع النّبلاء الذين يغضبون لأكثرَ من ساعة، هذا ملاك!
“…أنتِ… كما توقّعت.”
بعد لحظاتٍ من الصّمت، أطلقَ آيفرت ضحكةً خافتة.
أومأ السّاحر بوجهٍ متأثّر.
“سأخبركِ بالتأكيد، نعم.”
ثم لمعتْ عيناه.
“مهما كان بارعًا في التحكّم بالقوّة السحريّة، هذه الأصفاد لها نمطٌ غير منتظم، فلن يتمكّن من فتحها!”
بينما كانَ يستعدّ لشرح معرفته السحريّة بالتفصيل، أوقفته روديلا بلطف.
“آسفة، لكنّني لا أعرف الكثير عن السحر، فقد يكون من الصّعب فهمه. هل يمكنكَ شرحه ببساطة؟”
“ببساطة، إنّه قفلٌ يتغيّر داخلهُ باستمرار، بحيث لا يمكن فتحه بأيّ مفتاح!”
كانَ الشّرح واضحًا ومباشرًا.
“آه.”
أُعجبَ آيفرت أيضًا بذلك، فاستمدَّ السّاحر الحماس و صاح:
“سنقبض عليه بهذه بالتأكيد و نسحق أنف فرقة الفرسان الحمر! السّحرة ليسوا مجرّد أشخاصٍ أثرياء!”
لمعت عينا الساحر، وكأنّ لديه ضغينةً ضدّ الفرسان الحمر بقدرِ ضغينته ضدّ الأثرياء.
“لقد صنعنا شيئًا رائعًا كهذا.”
التفتت روديلا إلى آيفرت.
“يمكنكَ النّجاح، أليس كذلك؟ ماذا عن تقليل التكسير إلى النصف؟”
ضحكَ آيفرت على كلامها.
“هل هذا ممكن؟”
لو جعلناه ممكنًا، أليس أفضل؟ ابتسمت روديلا ببراءة.
“إذا لم يكن ممكنًا، سأعلمكَ طريقة للتحكّمِ بالقوّة.”
هناكَ طرقٌ أخرى غير التدريب.
نظر آيفرت إليها.
“وما هي؟”
وعندما سمعَ كلامها التالي، فتحَ عينيه بدهشة.
* * *
وصلت العربة التي يستقلّانها إلى مدينةٍ قريبة من العاصمة، ضمنَ منطقة نفوذ فرقة الفرسان الحمر.
كان فرسانٌ آخرون يشكّلون دائرةً واسعةً لمحاصرة المدينة ويضيّقون الخناق تدريجيًا، بينما جاء آيفرت، الأعلى قوّةً قتاليّة، إلى هنا.
كان هذا آخر مكانٍ شوهد فيه صاحب الوجوه الألف.
تمّ القبض على ذيله بسببِ عادته الجريئة وغير الضروريّة في طلب أغلى الأطباق في كلّ مكان.
ربّما ظنّ أنّه لن يُكتشف بما أنّه يستطيع تغيير وجهه، لكنّه لم يتوقّع أن يتمكّن فريق البحث من تعقّب تدفّق قوّته السحريّة.
على أيّ حال، المجانين لا يكتفون بفعلٍ واحدٍ فقط.
شكّلت فرقة الفرسان الزّرق حصارًا واسعًا للاقتراب من المدينة دون أن تفوّت صاحب الوجوه الألف.
وبعد الاستفسار من فريقِ البحث، تأكّدوا أنّه لم يغادر المدينة بعد.
“المدينة مزدحمة جدًّا بالناس.”
على الرّغمِ من أنّها مدينةٌ صغيرة، فقد تجمّع فيها الكثير من الناس من القرى المجاورة لبيع بضائعهم، مما جعلها تبدو أكبر.
لكنّها، كما هي، قريبة من العاصمة.
إذا اندلعت معركةٌ هنا، ستكون الأضرار البشريّة والماديّة هائلة.
لذا، كانَ الحلّ واحدًا.
“نمسكُ به عندما يغادر.”
توصّلَ آيفرت و روديلا إلى هذا الاستنتاج في الوقت ذاته.
لم يستغرق الأمر سوى ساعاتٍ قليلة حتى انضمّ الفرسان الزّرق الآخرون سرًّا إلى الحرّاس عبر الباب الخلفيّ للمدينةُ بالتعاون معهم.
“فرقة الفرسان الزّرق؟ هل ستُلقون القبضَ على شخصٍ ما هنا؟”
“أين؟”
بدت مخاوفهم تركّز على الممتلكات أكثر من الناس، فقالت روديلا بوضوح:
“سنتحرك عندما يغادر المدينة. لكن إذا لاحظ خطّتنا، سيتعيّن علينا القتال داخل المدينة، أليس كذلك؟”
كان تأثير كلامها مذهلاً.
“سنضمن عدم اكتشافه لنا أبدًا.”
بدأ الحرّاس بالتحرّك بسريّة و حذرٍ وبشكلٍ طبيعيّ، بشكلٍ جعل حتّى أنفسهم يتفاجؤون بقدراتهم.
وهكذا، في غرفةٍ بأحد النزل، تجمّع حوالي عشرة من نخبة فرقة الفرسان الزرق.
شرحَ آيفرت الخطّة.
التعليقات لهذا الفصل " 23"