مرّ عامٌ مزدحم.
و أطلّ العام الجديد.
أُعدِمَ أولئك الذين ألقَوا الإمبراطورية في الفوضى واحدًا تلو الآخر، متلاشين كالندى.
و بأمرٍ من الإمبراطور، كان على الإمبراطورية أن تنسى العام المظلم و تستقبل العام الجديد بفرح.
“لقد استُؤصِلَت الأجزاء الفاسدة، و لم يبقَ سوى النظيف. فكيف لا نفرح؟”
“ليحتفل الجميع بسعادة الإمبراطورية!”
كان الأمر كما قال الإمبراطور.
لكن، و رغمَ ذلك، تردّدت معظم العائلات النبيلة في إقامة احتفالات أو ولائم ضخمة بسببِ الأحداث الأخيرة.
لذا، قرّرَت عائلتا رويـدن و سيفريك أن تفتحا هذا الباب.
“العروس، السيّدة روديلا سيفريك، و العريس، الدوق آيفرت رويـدن، يدخلان!”
كان قاعة الزواج رائعة.
و كأنها تستعرض نفوذ عائلة رويـدن على الإمبراطورية بأسرها، لم تُزيَّن القاعة وفق تقاليد العاصمة وحدها.
فقد أُعدّت مختلف أنواع الأطعمة و الخدمات للضيوف القادمين من إقليم سيفريك و مناطق أخرى من الإمبراطورية.
هذه لم تكن تجهيزات موجودة أصلًا في قاعة الولائم الرئيسة لعائلة رويـدن.
بل أُنشئت سريعًا و بشكلٍ كامل مرافق لم تكن موجودة من قبل.
“لم أتوقّع أنهم سيهتمّون بأدقّ التفاصيل.”
على سبيل المثال، في شمال الإمبراطورية، و هي منطقة تحدّ العديد من الممالك، هناك عادةٌ تمنع إخفاء اليدين تحت مفارش المائدة الطويلة.
و ذلك بسببِ تكرار الهجمات المباغتة بأسلحة مخبّأة تحت القماش.
لذا صُنعت لهم طاولات خاصّة لتقليل انزعاج الضيوف.
بالإضافة إلى ذلك، جرت مرافقة الضيوف الذين دعتهم عائلة رويـدن ليس فقط بعربات، بل أيضًا بفرسان.
ومن بينهم، بالطبع، كانت رئيسة الوزراء أميريس و لاتيني، الذي سيُشرِف على مراسم الزواج اليوم.
“لقد تزوّجا أخيرًا.”
“يا إلهي، لقد استغرق الأمر وقتًا طويلًا. ألم تبلغ السيّدة سيفريك الخامسة والعشرين؟”
“لقد… تأجّل ذلك للأسف.”
كان الضيوف يتهامسون.
بالنسبة لأيّ ثنائيّ آخر، كان من المستحيل تجنّب الأحاديث الجانبيّة.
ففي مجتمع النبلاء، كانت الفكرة الشائعة تقول إنّ الأزواج الذين يتزوّجون بعد الخامسة والعشرين لديهما عيب ما.
لكن هذه المرّة كان الوضع مختلفًا.
أولًا، العروس هي روديلا سيفريك، التي أصبحت رئيسة الوزراء القادمة بفضل كفاءتها.
و العريس هو آيفرت رويـدن، الدّوق الوحيد في الإمبراطورية.
إن كان لديهما عيب… فمَن في الإمبراطورية يُمكن أن يُسمّى مثاليًّا؟
“صحيح، التفكير بأنّ تجاوز الخامسة والعشرين مشكلة هو تفكيرٌ قديم.”
“أجل. أليست هذه فكرة ابتدعها فصيل النبلاء؟”
“تمامًا. إنّها قصّة تخصّ مَـنْ يتزوّجون مبكرًا لرفع نفوذ عائلاتهم عبر زواجٍ سياسي، و ليس لها علاقة ببطليّ اليوم.”
كان زواج هذين الاثنين أشبه ببداية نهاية العادات البالية للمجتمع الراقي.
و بينما كان الناس يتحدّثون، توقّف الزوجان على المنصّة.
تحت الحجاب الأبيض الذي لفّ شعر روديلا بلطف، كان هناك إكسسوار فضّي يُثقلُه قليلًا و يلمع تحت الأضواء.
وأكمام بدلة آيفرت السوداء، التي ضمّت روديلا، بدت كأنها سماءٌ ليلية مرصّعة بالنجوم.
لم يكن الضيوف يعلمون، لكن هذا أيضًا كان من اختيار آيفرت.
بالطبع، اختارا فستان الزفاف معًا، لكن…
“إذًا، عليّ تجربة ما يقارب 37 فستانًا مشابهًا لهذا؟”
كانت روديلا قد اختارت فستانًا جميلا و يسهل التحرّك به، لكن واقع الاختيار كان صعبًا للغاية، فتركت القرار لآيفرت.
“اخترتُ ما يناسب ذوقي، لذا اختاري أنتِ الآن.”
إنه زفافٌ يحدث مرّة واحدة في العمر، والفستان سيبقى في الذاكرة.
“إن اخترتَه أنتَ ، فسيتوافق مع ذوقي أيضًا. أنتَ تعرفني أفضل ممّا أعرف نفسي.”
بعد سماع كلمات روديلا، أمضى آيفرت أيّامًا و ليالي يفكّر قبل أن يختار هذا الفستان.
من الحجاب الذي يلمع كالنجوم إلى أطراف الأكمام وحافة الحذاء، لم تكن هناك قطعة لم تحمل رأيه فيها.
والنتيجة كانت…
“رائع…!”
رضا روديلا التام.
بالنّسبة لها أيضًا، كان هذا اليوم الأفضل على الإطلاق.
“هناك مقولة في الإمبراطورية بأنّ طول كلمة المُشرف على الزواج يدلّ على مقدار ما سيقوله الزوجان لبعضهما.”
كان نظام الزواج الإمبراطوري مختلفًا قليلًا عن الممالك الأخرى.
فعلى خلاف الممالك التي يكون فيها دور المُشرِف هو الحدث الرئيسي، لم يكن حفل الزواج بحدّ ذاته هو الحدث الأهمّ في الإمبراطورية.
الحدث الحقيقيّ كان وليمة ما قبل الزواج التي تقيمها كلا العائلتين.
في تلكَ الوليمة، يُقدّم الضيوف التهاني و التمنّيات الصادقة.
ثمّ، في مراسم الزواج، تحت أنظار الجميع، يحصل الزوجان على نصائح مفيدة لحياتهما الزوجيّة و ينطلقان مباشرةً إلى شهر العسل.
و قد تغيّر هذا التقليد مع الوقت لتفادي انشغال الزوجين بالاختلاط في الولائم بعد الزواج.
“لذا، سأُوجِز. قيل لي إنّ عليّ تقديم نصائح تساعد في الحياة الزوجيّة حتى لا تظهر المشكلات…”
قال لاتيني بوجهٍ مهيب.
“لكنني لا أعلم الكثير عن هذه الأمور في الحقيقة، فأنا لستُ متزوّجًا بعد.”
انطلقت ضحكة خافتة بين الضيوف.
لكن تسرّبت أيضًا همسات خفيفة مع الضحك.
“ألم يقـل ‘بعد’؟”
“إذًا لديه خطط…؟”
لابدّ أن لاتيني قد سمع همسات الناس، لكنه تابع كلامه دونَ أن يُظهر أنه سمع شيئًا.
“لكن، على الأقل في فرسان الزّرق، أعدكما هنا الآن بأننا سنضمن أن يقضي الاثنان الكثير من الوقت معًا.”
“أووووه…!”
وقعت كلماته على الضيوف الذين همّوا بالتصفيق للزوجين.
“لذا، لا حاجة لأخذ إجازات أو استخدام هدايا أعياد الميلاد كذريعة لقضاء وقتٍ مع بعضكما البعض.”
“ليست ذريعة!”
“ليست ذريعة.”
احتجّا معًا، لكن كلماتهما ضاعت وسط ضحك الحاضرين.
أما سيسيليا، التي أدركت أنها تلك “الصديقة”، فكبحت ضحكتها بصعوبة.
“حسنًا، أتمنى لكما شهر عسلٍ آمنًا.”
صافح لاتيني الزوجين.
و جاءت اللحظة الأخيرة، لحظة مغادرة العريس و العروس.
كان من المقرّر أن يغادرا القاعة و يستقلا عربة مُعدّة خصيصًا لوجهة شهر العسل.
“رحلة موفّقة!”
“سنعتني بفرقة الفرسان الزّرق!”
صفّق فرسان الزّرق الذين حضروا كضيوف و هتفوا للزوجين.
و بينما كان الناس يتهامسون أيضًا…
“إلى أين ستكون وجهتهما؟”
“يبدو أن هناك عدة عربات… هل سيذهبان بعيدًا؟”
تدخّل صوت وسط الهمسات.
“سمعت أنها مملكة شماليّة.”
“لا، سمعتُ أنها دولة ساحلية في الجنوب الغربي.”
“و هناك من قال إنهما سيعبران البحر إلى جزيرة…”
ألم تكن تلك كلّها اتجاهات مختلفة؟
نظر الفرسان إلى بعضهم متحيّرين.
و في تلكَ اللّحظة ، عند باب الخروج، التفت الزوجان نحو الحضور.
رأى آيفرت بوضوح ابتسامة روديلا تحت الحجاب.
كانت سعيدة… و يبدو أنها سمعت همسات الفرسان.
و بالفعل…
“هل يظنّون أننا سنزور كل تلك الأماكن؟”
رفعت روديلا قدميها لتهمس في أذن آيفرت ثم انفجرت ضاحكة.
“….!”
وما إن عادت لتقف بهدوء حتى أحاطها آيفرت بذراعه.
ثم…
“آه!”
“يا إلهي!”
رفع آيفرت روديلا بين ذراعيه، و وضع يده الأخرى خلف ركبتيها.
“شهر العسل سيكون طويلاً، فلا تتركوا الكثير من العمل لروديلا.”
انفجر الناس ضحكًا من جديد.
وسط صوت الضحكات الصاخب، استدار آيفرت.
― قبلة.
قبّـل جبهتها و توجّه بخطواتٍ واسعة خارج القاعة.
*****
“وااااو!”
“تهانينا على زواجكما!”
وسط هتافات الناس و زهورهم المتناثرة، صعدت روديلا و آيفرت إلى العربة حسب تقاليد الإمبراطورية.
“إنني متشوّقة للذهاب معًا.”
ابتسمت روديلا.
“بالطبع، علينا الذهاب سويًّا إلى شهر العسل.”
رفع آيفرت كتفيه.
“إنه شهر عسل… لكنه أيضًا جولة خارجية.”
صحيح. بينما كانت روديلا تفكّر أيّ وجهة تختار، سقط على مكتبها أمر جولة خارجيّة رسمية.
و كانت محتارة: هل تذهب للجولة أولًا أم تقضي شهر عسل قصيرًا ثم تنطلق للجولة؟
و كان آيفرت هو مَـنْ أعطاها الجواب.
“لمَ لا نذهب إليهما في الوقت نفسه؟”
“ماذا؟”
كانت الجولة الخارجية من مهام مكتب الشؤون العامة. و بشكلٍ طبيعي، لا يمكن لآيفرت، الذي لا ينتمي له، المشاركة.
لكنه حلّها بـ”حيلة”.
خرجت تلك الحيلة من فم آيفرت.
“هاه، عندما ينتهي الزواج لن أعود العريس بل فارس مرافقتها، أليس كذلك؟”
لقد أصبح آيفرت فارس الحماية الرسمي لروديلا في جولتها الملكية.
بالطبع، غيابه كنائب القائد كان عبئًا، لكن لاتيني و أميريس قرّرا مساعدتهما.
و قد قدّم الاثنان شهر العسل كهدية لهما.
“أنتَ العريس… و فارس الحماية أيضًا.”
لوّحت روديلا بيديها.
فنظر إليها آيفرت بنظرةٍ ماكرة.
“فارس الحماية لا يُفترض أن يستقلّ العربة نفسها مع مَـنْ يحرسها، سيّدتي.”
عندما بدا و كأنه سيقفز من العربة المتحرّكة، فزعت روديلا و أمسكت به.
“لا، لا تغادر. كن العريس. كن الزوج.”
ضحك آيفرت على كلماتها.
“العريس لا يمكنه حمل السلاح لمدّة أسبوع، لكن سأحاول جاهدًا أن أكون فارس الحماية الخاص بكِ”
كان ذلك تقليدًا قديمًا، شبه منقرض، أكثر قدمًا من فكرة “العيب بعد الخامسة و العشرين”.
كان يمازحها بوضوح.
ضيّقت روديلا عينيها.
“إذن كن فارس الحماية.”
‘لا يمكنني تركه يعبث معي فقط.’
رفعت رأسها بتعالٍ.
إن كان فارس حماية، فعليه النزول من العربة.
رفع آيفرت حاجبًا.
و بينما كانت تعتقد أنها انتصرت، قال:
“قرأتُ في الروايات أنّ فارس الحماية و سيّدته يقعان في الحب…”
“…هل توجد كتب كهذه في تلكَ المكتبة؟”
أومأ آيفرت.
‘أمي، ماذا وضعتِ في المكتبة؟!’
“في تلكَ الروايات، يقترب فارس الحماية قليلًا. بالطبع، هذا يعتمد على رغبة السّيدة ، لكن…”
اقترب آيفرت بخبث من روديلا.
“كم سأقترب يا سيّدتي؟”
رمشت روديلا بعينيها.
لم يسبق أن كان لها فارس حماية، لذلك لم تعرف المسافة المناسبة.
كان الفرسان الزّرق يتبعونهما لكن من بعيد، أمّا هذه المرافقة القريبة فكانت جديدة…
و كانت مختلفة عن خادمها الشخصي رودين.
“هكذا؟”
أشار آيفرت و كأنه يُريدها أن تقرّر.
كان يجلس سابقًا مقابلها، لكنه أصبح الآن بجانبها.
لكن جسديهما لم يلمسا بعضهما.
“هل نُسافر و نحن على خذه المسافة؟”
عند كلامه، هزّت روديلا رأسها بخفّة.
“لا.”
“إذن أقرب قليلًا؟”
اقترب آيفرت بمسافة تسمح بتبادل حرارة الجسد بينهما.
“و ماذا عن هذا؟”
أنفاسه الدافئة و رائحته دغدغت روديلا.
فانفجرت ضاحكة.
“إن اقتربتَ أكثر من هذا، فأين ستنتهي؟”
“أتريدين أن تعرفي؟”
التقت نظراته بنظراتها فورًا.
كان سؤالًا شعرت أنه لا يجب أن تتساءل عنه… لكنها لم تستطع مقاومة الفضول.
و في النهاية، أومأت قليلًا.
“…..”
وفي اللّحظة التالية—
— طقطقة!
على الطريق المستويّ قرب العاصمة، حيث لا يوجد حجر واحد، اهتزّت العربة فجأة.
“….؟”
نظر الفرسان إلى العربة ذات الستائر المغلقة باستغراب.
و لأنها عربة العروسين، فقد أبقوا مسافة، لذلك لم يسمعوا ما يجري داخلها.
‘هل تحرّكت العربة حقًا؟ أم أنّه مجرّد وهم؟’
“هل كلّ شيء على ما يُرام؟”
سألوا بما أنه واجبهم.
— طرق، طرق.
جاء الردّ بأنّ كلّ شيء بخير.
و أعاد الفرسان نظرهم للأمام، معتقدين أنّ الزوجين يلهوان فقط.
— طقطقة!
اهتزّت العربة مجدّدًا.
و تكرّر هذا لمرّاتٍ عدّة.
و عندما توقّفت العربة لأخذ استراحة…
“هاه…”
ترجّلت روديلا من العربة و هي تقوم بتهوية وجهها بيدها، بينما كان لونها محمرّا امتدادا من العنق إلى الأذنين.
و حجابها كان قد تُرك داخل العربة.
“لماذا… هل يجب أن أحافظ على المسافة؟”
كانت روديلا تسير بسرعة بخجلٍ واضح كأنها تهرب، بينما كان آيفرت يتبعها بابتسامة لعوب.
لكن كلاهما بدا سعيدًا بالدرجة نفسها.
“هل… نتبعهما؟”
نظر الفرسان إلى بعضهم.
“وفقًا للقواعد… علينا ذلك.”
قال فارس رويـدن الأكبر:
“لكن ليس اليوم. بما أن مَـنْ يتولّى المرافقة القريبة معها.”
كان يعني آيفرت موجود، لذا سيتركانهما.
و بصراحة… لم يُـرِد أيّ منهم إفساد وقت الزوجين معًا.
“توقّف عن اللحاق بي!”
“هل أبقى على مسافة؟”
“لا، ليس هذا!”
“إذن هل أقترب أكثر؟”
“هاي!”
ابتعدت أصواتهما و تلاشت تدريجيّا….
ثمّ تردّد صدت ضحكاتهما السعيدة.
“يبدوان سعيدين.”
بعد كلّ ما حدث، لم يكن هناك فارس واحد يُفكّر في إزعاجهما.
“و هكذا يجب أن يكون الأمر بين هذين الإثنين.”
إنّـه مشهد يليق بأفضل ثنائي، لا—بأفضل زوجين في الإمبراطورية، اللذين لم يحدث بينهما خلافٌ واحد منذُ أيامهما في الأكاديمية.
هكذا كان يفكّـر الفرسان الواقفون هناك.
__________________
< نهايـة القصّـة الرئيسيّة>
التعليقات لهذا الفصل " 140"