بدأت المانا العذبة والنقية التي تدخل من قمة الرأس تربّت بلطف على كل زوايا الجسد وتمرّ عبرها.
شعرت أسيل وكأنّ ريشة تدغدغها، فانفجرت ضاحكة:
“بيّهاها!” (يدغدغ!)
“لأنكِ غير معتادة بعد. لو جرّبناها عدة مرات ستصبحين بخير.”
أرسيان ضمّ أسيل إليه بإحكام حتى لا تتحرك.
وفي حضنه، وبينما كانت تضحك بمرح، أحسّت فجأة أن جسدها يتغير.
أول ما طال هو ذراعاها وساقاها.
ثم بدا أن مستوى نظرها ارتفع فجأة، واختفت الأجنحة والذيل في لحظة.
وبدلاً من ذلك، تدفقت من رأسها خصل طويلة غطّت ظهرها.
الجسد الذي كان ممتلئًا لكنه رشيق، أصبح فجأة أثقل بشكل غريب.
أدركت أسيل في غمضة عين أنها لم تعد “تنينًا صغيرًا”، بل أصبحت شيئًا آخر.
لقد صارت إنسانة.
توقفت عن الضحك ونظرت إلى يديها، فإذا بخمس أصابع صغيرة كأوراق القيقب مكان الكفوف الصغيرة.
من الدهشة، قلّبت ظهر يديها، ثم فتحت قبضتها وأغلقتها عدة مرات.
وفي تلك الأثناء، راحت تتحسّس بفمها فستانًا ظريفًا ألبسها إياه أرسيان بالسحر، ثم فوجئت أكثر عندما رأت الحذاء في قدميها.
‘أسيل ترتدي حذاءً!’
بلا تفكير حاولت أن تخطو على الأرض.
لكن بما أنها لم تعد تملك ذيلاً أو أجنحة لتحفظ توازنها، سقطت مباشرة على وجهها.
“هوااانغ!”
“احترسي.”
أرسيان أسرع إلى احتضانها.
لكن اهتمام أسيل كان مشغولًا بأمر آخر تمامًا.
رفعت يديها لتلمس شفتيها بدهشة، ثم صاحت بانبهار:
“واااااه!”
أسيل تتحدث بلغة البشر!
صحيح أن لسانها لم يكن يطيعها تمامًا، وكان نطقها ثقيلاً وغريبًا، لكنها لم تقل “بيّا”، بل نطقت كلمات بشرية، وذلك كان مذهلًا جديدًا بالنسبة لها!
وبينما هي مندهشة، وقعت عيناها على المرآة الكبيرة القريبة، فجحظت عيناها من جديد.
شعر أسود طويل يتدلى حتى الخصر، وعينان ورديتان براقتان.
فتاة صغيرة تشبه الدمية، ترتدي فستانًا زهريًا مثل لون الكرز وحذاءً ورديًا متناسقًا، كانت ترمش بعينيها من داخل المرآة.
امتلأت أسيل بالانفعال وصاحت بأعلى صوتها:
“أسيل عندها شعــر!!!”
وكانت هذه أول جملة تنطقها بلغة البشر.
*****************
لم يدم فرح أسيل بامتلاكها شعرًا طويلًا إلا لحظات، قبل أن تعود سريعًا إلى هيئتها الأصلية كتنين صغير.
فهي لم تكن متمكنة بعد من التحكم بالمانا بما يكفي لتبقى في هيئة الإنسان بقواها الخاصة.
“ابنتي، حتى عندما تتحولين إلى إنسانة، ما زلتِ جميلة مثلي.”
قال أرسيان وهو يومئ برأسه برضا، ثم نفخ فيها المانا مرات إضافية.
بدأت أسيل تعتاد شيئًا فشيئًا على الشعور بالتحول، بينما تتناوب بين هيئتها الأصلية والهيئة البشرية.
وكان أبرز الفوارق بين الشكلين: طريقة المشي.
“المشي صعب…”
“لا تركزي ثقل جسمك للأمام كثيرًا. البشر لا يملكون ذيولًا، فإذا مِلْتِ للأمام ستسقطين.”
“لا أستطيع أن أمشي على أربع؟”
“لا، البشر لا يمشون على أربع.”
“حسنا ماذا عن الطيران بالسماء؟”
“لا، البشر لا يملكون أجنحة، فلا يستطيعون الطيران.”
“هينغ…”
بالرغم من أنها أصبحت تبدو كإنسانة، إلا أن داخلها ما زال طفل تنين صغير بكل ما فيه.
تمسكت أسيل بأرسيان وتدربت معه بجد على المشي:
“واحد، اثنان… واحد، اثنان… الآن جربي أن تتركي يدي وتسيري وحدك.”
“أونغ… واحد، اثنان، واحد… اثنان… هوواااانغ!”
وكادت أن تسقط لولا أن أرسيان أمسكها بسرعة.
ثم عدّل ملابسها المبعثرة بلطف وقال بابتسامة دافئة:
“فلنكتفِ بهذا القدر اليوم.”
“لااا! أسيل تريد أن تتدرب أكثر على التحول!”
“لو أرهقتِ نفسكِ منذ اليوم الأول، فلن تستطيعي فعل أي شيء غدًا. صغيرتي، ستقابلين أباكِ غدًا أيضًا، صحيح؟”
“هيييينغ…”
التدرب على التحول ممتع جدًا…
كما أنه دليل على أنها لم تعد مجرد “تنين صغير”.
كانت تتمنى أن تفعل ذلك طوال اليوم، لكنها في النهاية كبحت رغبتها.
“سنتدرب غدًا، وبعده، وكل يوم سنتمرّن معًا. موافقة؟”
“أونغ.”
أومأت أسيل برأسها بهدوء، فابتسم أرسيان ابتسامة عريضة لم يبدُ أنها تناسب هيبته.
فهو بعد سنوات طويلة، صار أخيرًا يرى ابنته كل يوم، وذلك كان أعظم سعادة له.
أما إدينفير، فلم يكن سعيدًا بهذا على الإطلاق.
“ستأتين إلى هنا غدًا أيضًا؟”
لم يفهم السبب…
هل أعجبها وحش إيرزيبيت الأسود، ذلك السحلية الضخمة؟
أم لعلها وجدت معه قواسم مشتركة لأنه سحلية مثلها؟
لكن حتى لو كان الأمر كذلك، فما الذي يجعلها تحب قصر إيرزيبيت بهذا الشكل؟
هل يمكن أن تكون مُجبَرة أو مُهددة بطريقة ما؟
كان يريد أن يقطع علاقتها بذلك المكان فورًا، لكنه لم يستطع مخالفة أي رغبة لأسيل.
فاضطر أن يرافقها كل يوم تقريبًا إلى قصر إيرزيبيت كما لو كان يضع “ختم الحضور اليومي”.
وبالطبع، أرسيان لم يكن مرحّبًا بوجود إيدنيفر.
“هذا الصعلوك… لن أقبله صهرًا ما حييت!”
“انظر، هنا يوجد أصيص زرع.”
“لحظة يا أسيل، لا تذرّي التراب في عين أبيكِ!”
ومع كل هذه المواقف الطريفة والمشاكل الصغيرة، استمرت أسيل بالتدرّب على التحول بمساعدة أرسيان.
وبمرور الأيام، كان واضحًا أنها تزداد براعة في ذلك.
حتى جاء أحد الأيام، وقد صارت أقرب إلى هيئة الإنسان:
“واحد، اثنان… واحد، اثنان… أحسنتِ، تسيرين الآن من دون أن تمسكي بي.”
“أسيل تستطيع المشي من هنا إلى هناك وحدها!”
وما لبثت أن ركضت بخطوات سريعة.
وبالفعل، أظهرت مهارة كبيرة، فهي كابنة سلالة ذكية استطاعت أن تتعلم المشي بسرعة.
صحيح أنها كانت تتعثر أحيانًا، لكنها كانت تنهض سريعًا.
ثم جاء دور تعلّم استخدام اليدين.
استدعى أرسيان أكواب شاي وشوكات وملاعق، وجعلها تمسك بها وتتركها مرارًا حتى تتعود على حركة الأصابع.
“أسيل لا تعرف كيف تستخدم الكفوف جيدا.”
“ليست كفوفًا، بل أيدٍ.”
“أسيل لا تستطيع الأكل بيديها جيدا، ألا أستطيع أن آكل بدون هذه الأدوات ؟”
“لا، البشر لا يأكلون بأيديهم هكذا.”
“هينغ…”
انتفخت وجنتا أسيل كالبلون من شدة الغضب.
لماذا هذا صعب جدًا؟ ولماذا هناك أشياء كثيرة لا يُسمح بفعلها؟
لكنها مع ذلك استمرت بالتدرّب بجد كما قال.
وأحيانًا كانت تمزح:
“انظر أصابع أسيل أصبحت طويلة مثل السجق!”
“أصابع بابا أطول من أصابعك.”
“واااااه!”
ثم وضعت كفها الصغيرة كأوراق القيقب مقابل كفه الكبير، وعيونها تلمع انبهارًا.
كان كل شيء يبدو جديدًا ومدهشًا وهي بهيئة الإنسان.
وأرسيان كان يرمقها بنظرة مليئة بالحب.
“إذا من تشبه ابنتي لتكون ذكية هكذا؟”
“ماما.”
“……”
شحب وجهه فجأة.
فهو من يساعدها على التحول، لكنها تُسند الفضل إلى بريانا!
‘هل هذه هي المقولة الشهيرة:
“الحمار يحمل العطر، والغير ينال المديح”؟’
والأدهى من ذلك، أنها حتى الآن لم تناده “أبي” ولو مرة!
وبينما غرق أرسيان في بحر من الكآبة، راحت أسيل تعبث بالوشاح الأبيض الذي أهداه لها إدينيفر وتضعه حول عنقها.
‘أريد أن أفتخر لزوجي أيضًا أني صرت إنسانة.’
تساءلت بشوق: كيف ستكون ردة فعله إن عرف أنها قادرة على التحول؟
“هل أستطيع الذهاب لزوجي و إخباره بأنني صرت إنسانة؟”
“لا.”
أرسيان قبض على يديها بكل جدية وقال:
“نحن، أبناء السلالة، لا يجوز أن نكشف حقيقتنا للبشر. خصوصًا دوق مونليف، لا تخبريه أبدًا.”
“لماذااااااا؟”
“صغيرتي، ألا ترغبين في العودة إلى الغابة؟”
“أونغ.”
“إذن لا تقولي شيئًا. لو علم، فلن يدعكِ ترحلين أبدًا.”
ذلك الفتى البشري الذي حاول التودد إليها حتى عندما كانت بشكلها الصغير كتنين، إذا عرف أنها قادرة على التحول، فقد يقيدها إلى الأبد ويمنعها من العودة إلى أي مكان.
التعليقات لهذا الفصل " 45"