الفصل 43
***********
أرسيان لم يُخفِ انزعاجه وحدّق به بحدة.
“أنا لا أستخدم أساليب دنيئة.”
“عملي هو حماية الكائن المقدس، لذا أتمنى أن تتفهم ذلك. ما سبب استدعائك لأسيل اليوم؟”
“أنتم من طلب اللقاء أولًا يا دوق.”
“لم أكن أقصد الأمر بوصفه دعوة رسمية.”
اصطدمت نظرات الرجلين في الهواء.
‘يا إلهي… السيد السوّن وزوجي يتشاجران.’
كانت أسيل تأكل نصف قطعة الكعك التي منحها لها إيدنيفر، بينما تنظر إليهما خلسة مرارًا.
“أتفهم أنكم حذرون تجاهي و لديكم تحفظّاتكم، لكن لم يكن في نيتي أي غرض سيئ بدعوتي.”
سرعان ما أرخى أرسيان تعابيره الباردة، ثم التفت إلى أسيل وقال بنعومة:
“أيتها الصغيرة، أيتها الكائن المقدس، أليس لديكِ رغبة في صديقة تشاركينها قلبك؟”
“بّييت؟ بّيـي!” (ماذا؟ نعم أريد!)
تهلّلت أسيل، وهزّت رأسها بحماس، فيما تناثر فتات الكعك حول فمها.
‘هذا العم، بما أنه أيضًا سون تنين أسود، ربما يريد أن نصبح صديقين!’
لكن كلمات أرسيان التالية خرجت عن كل توقعاتها.
“إذن، هل ترغبين بلقاء الكائن المقدس خاصتي، السحلية؟”
“بّييا…؟” (سحلية…؟)
ما هذا الآن، سحلية فجأة؟ أسيل أمالت رأسها باستغراب.
في هذه الأثناء، أصدر أرسيان أوامر لخادمه.
غاب الخادم قليلًا ثم عاد حاملًا سحلية سوداء بحجم الساعد.
ووضعها بحذر على الأريكة المقابلة لأسيل إلى جانب أرسيان.
“غغرر…”
أصدرت السحلية صوتًا غريبًا.
أسيل حدّقت فيها مطولًا.
‘لا تشبهني أبدًا.’
كانت هذه أول مرة ترى فيها سحلية.
فالوجه، والأقدام الأمامية، وحتى غياب الأجنحة على ظهرها، كلها مختلفة تمامًا عنها.
لم تستوعب لماذا يصرّ البشر على وصفها دائمًا بالسحلية.
على أية حال، بدأت أسيل بمباراة تحديق مع السحلية.
فقد كانت تحدّق بها بجرأة، وكأنها تتحداها.
‘أسيل هي الزعيمة في مونليف.
هذه المعركة لا بد أن أربحها! من أجل شرفي وصورتي كتنين مخيف، لن أخسر أبداً!’
لكن لسوء حظها، دخل الغبار في عينها، فاضطرت أن ترمش.
“غغ.”
أصدرت السحلية صوتًا بدا كضحكة.
وعند التدقيق، ظهر طرف فمها مرفوعًا فعلًا، وكأنها تبتسم.
‘ماذا!؟’
غضبت أسيل وصاحت غاضبة:
“بّيي!” (مرة أخرى!)
لكن السحلية أصدرت نفس الصوت مجددًا، ثم قفزت أسفل الأريكة.
ابتسم أرسيان ابتسامة غامضة وفسّر ما حدث:
“كما توقعت، يبدو أن بينهما صلة ما لكونهما من جنس السحالي. إنها تقول إنها تريد أن تُري صديقتها الجديدة ألعابًا ممتعة.”
“لا تنوِ فعل شيء مريب، أليس كذلك؟”
“بالطبع لا. أعلم جيدًا أن هذا لقاء شخصي، بعيدًا عن وضعي ومركزي.”
اصطدمت نظرات الرجلين الغاضبة مرة أخرى.
وبينما لم يرفع إيدنيفر بصره عن أرسيان، التفت إلى أسيل وسألها:
“هل تريدين الذهاب؟”
“بّييا.” (نعم.)
“… حسنًا. انتبهي لنفسك.”
“بّي. بّييا.” (حسنًا. أسيل ستذهب وتعود.)
هزّت أسيل رأسها وقفزت من فوق الأريكة.
لم تكن تعلم بأي ألعاب سيلعبون، لكنها أقسمت في داخلها أن هذه المرة ستُظهر وحشية التنانين السوداء!
قادتها سحلية أرسيان خارج غرفة الاستقبال.
ثم صعدت بها الدرج، ومرّت بممر طويل، حتى دخلت غرفة فارغة تمامًا وتوقفت.
وقفت أسيل بحذر، رافعة ذيلها، وهي تحدّق حولها.
‘غريب، لا يوجد شيء هنا. لماذا جاءت بي إلى مكان كهذا؟’
وفجأة، دوّى صوت ما:
“أسيل.”
“بّييت?!”
قفزت من مكانها من شدة الفزع.
فالسحلية التي لم تكن تُصدر سوى أصوات “غغغغ” من قبل، تكلمت بلغة البشر!
قالت السحلية:
“أنا والدك.”
“بّي, بّيياا!” (لا! والد أسيل لم يكن سحلية أبداً!)
‘توقف عن قول أشياء غريبة!’
وبينما كانت تنظر مذهولة، غمرت السحلية سحابة دخان، وتحولت إلى هيئة أرسيان الذي كان من المفترض أن يبقى في غرفة الاستقبال.
إنها شعوذة تُدعى “سحر النسخ”، حيث يمكن للشخص أن يوجد في مكانين بآن واحد.
رغم أن له عيبًا، إذ يزول تلقائيًا عند الابتعاد مسافة بعيدة، إلا أنه كان مثاليًا في مثل هذه الحالة.
قال أرسيان بملامح ممتعضة كمن تخلص من علقة:
“أخيرًا، تخلصتُ من دوق مونليف.”
لكن سرعان ما تبدّل وجهه، إذ ألقى بنفسه على أسيل، محتضنًا إياها بشوق، وهو يدلك خده بخدها.
“أنا والدك، يا أسيل!”
“بّي?!”
‘هذا العم الغريب يقول أشياء عجيبة!’
ارتجفت أسيل وارتفع ذيلها.
ثم دفعت وجهه بيديها الصغيرتين وهي تصرخ:
“بّي!” (آباء أسيل كلهم في الغابة!)
قال أرسيان:
“عندما وُلدتِ، كان هناك والد واحد لوّح لك وقال وداعًا، أليس كذلك؟”
“بّي…”
“ذلك كان أنا. لقد كبرتِ كثيرًا منذ آخر مرة رأيتك فيها.”
توقفت أسيل عن دفعه، ونظرت إليه بريبة.
‘هل يمكن أن يكون فعلًا والدي الحقيقي؟’
أخذت تشمّه… كان هناك بالفعل رائحة مألوفة عرفتها من قبل.
وعند النظر إليه عن قرب، وجدت أن لون عينيه زهري مثلها تمامًا.
أما لون شعره، فلم تستطع التأكد لأنها صلعاء.
وتذكرت أيضًا قوله سابقًا إنه تنين أسود.
“بّي?” (حقًا أنت تنين أسود؟)
“كيف تنادينني بالـ عم…”
اغرورقت عينا أرسيان بالدموع، وأجاب بوجه مجروح:
“عليك أن تقولـي: أبي.”
“بّي?” (أ…..عـم…… أنت فعلًا تنين أسود؟)
“… نعم، أبوك تنين أسود.”
ولكي يبرهن كلامه، فكّ التحول عن ذراعه، فكشف عن ذراع مغطاة بالقشور السوداء اللامعة، مهيبة وقوية.
“انظري، تمامًا مثلكِ.”
“بّي?” (ولمَ لم تفكّ كل تحولك؟)
“لو فعلتُ ذلك هنا، لانهار المنزل. فأنا ضخم جدًا.”
“بّي?” (إلى هذا الحد؟)
“نعم، بهذا الكِبر.”
لو لم تكن والدتها بريانا ضئيلة الجسم جدًا، لكانت أسيل وُلدت أكبر حجمًا هي الأخرى، إذ ورثت دمه.
وكان سوّن التنانين يعتبرون نسلهم ثمينًا للغاية بسبب صعوبة تكاثرهم.
لهذا طبع قبلة رقيقة على خد ابنته الصغيرة، وقال بحنان:
“الآن، هل تصدقين والدك؟”
“… بّي.” (لا أدري… يا عم.)
“لماذا!؟ لماذا ما زلت تقولين عمّ؟!”
“… بّي.” (فقط.)
أشاحت أسيل ببصرها ونفخت وجنتيها.
كانت تشعر أنه ربما حقًا والدها، لكن لقاؤهما بعد كل هذه السنين جعل الأمر غريبًا ومحرجًا.
“يا ابنتي الطيبة، الجميلة… فقط مرة واحدة نادي أباك هكذا، همم؟”
“بّي.” (يا عـمّ.)
“كخخ…”
أرسيان، المعروف في المجتمع الأرستقراطي كالرجل البارد، بدا على وشك البكاء.
أن يُنادى بكلمة “عم” من ابنته الوحيدة!
لكنه كان يعلم أن ذنبه تركها بعد ولادتها بوقت قصير، فلم يجد مفرًا سوى تغيير الموضوع:
“كيف وصلتِ إلى عالم البشر يا أسيل؟ وما قصة وحش مونليف الحارس؟”
“بّي.”
أخيرًا سنحت لأسيل الفرصة لتروي ما مرّت به.
فبدأت تشرح بالتفصيل: حادثة الاستدعاء، وكيف أصبحت وحش مقدس، ثم الحرب الأهلية مع بيانتي، والمبارزة الودية مع ستارافيت.
وبعد أن استمع أرسيان لكل شيء، سأل:
“ولم يكتشف البشر أنكِ سون؟”
“بّي.” (لا.)
“جيد جدًا. أحسنتِ، يا ابنتي.”
ربّت على مؤخرتها بفخر، ثم أخذ يدلك خدّه بخدها مجددًا.
“لابد أن الأمر كان صعبًا بين البشر، لكنك صمدتِ. سأجد أي وسيلة كانت، وأعيدكِ إلى البيت.”
التعليقات لهذا الفصل " 43"