1
“الآنسة لاروز.”
“…نعم.”
بصوتٍ خافتٍ مرتجف، بالكاد خرج ردها من بين شفتيها إثر نداء الضابط المرافق.
وبينما كان الحجاب الرقيق يغطّي وجهها، تقدّمت “ليلى” بخطى واهنة، وأهدابها الفضية ترتجف بلين.
ها هو إمبراطور إمبراطورية إنفيرنو واقف أمامها.
لقد قيل إنّ الإمبراطور سيختار خليلاتٍ من أجل نهضة الإمبراطورية.
وقد حضرت ليلى بدورها لتكون واحدة منهن.
لكنها ما كانت ترغب أبدًا في أن يقع عليه اختيار الإمبراطور، بل كانت تأمل أن تُرفض، أن تُستبعد، أن يُغضّ الطرف عنها.
‘لن أسمح أن تسير الأمور كما يشتهي ذلك الرجل.’
عينان بلون ورد الربيع المتفتح نظرتا ببطء إلى الجانب.
وهناك، كان والدها، أو بالأحرى، الرجل الذي لم تعد ترغب في مناداته بـ”أبي”، يقف بوجهٍ يصعب تفسيره؛ غاضبًا؟ مستسلمًا؟ ربما كلاهما.
كان قبضها المرتجف يشي بالتوتّر الذي كاد يخنقها.
لو اختيرت كخليلة، فلن يكون مصيرها سوى أن تعيش كالدمية في يده.
‘إن كان هذا الطريق يقود إلى موتي، وذاك كذلك…’
تجمّدت ملامح ليلى تمامًا، وقد خلت نفسها من أدنى رغبة بالحياة.
فمنذ ثلاث سنوات، حين انتُزِع حبيبها الأول منها بحادثٍ مأساوي، عاشت كدمية خاوية، فقدت روحها وأملها.
لكن… أيمكن تسميته حادثًا؟
كلما تذكّرت ذلك اليوم، اجتاحها شعور بالذنب كالمدّ، جارفًا كل ذرة فيها.
جراح موته لا تزال محفورةً في قلبها، كأنّها طعنات لم تلتئم.
ثم، يُطلب منها اليوم أن تصبح خليلة لإمبراطور؟
عبثٌ وسخرية!
ضحكة ساخرة انسلت من بين شفتيها دون إرادتها.
لم تعد تطيق أن تكون دميةً في يد والدها.
ولذلك، ارتدت ثوبًا أسود كرمزٍ للتمرّد.
ليس هنالك جنازة تُقام، ومع ذلك لبست السواد تحدّيًا له، وللإمبراطور، ولكل النظام.
حتى ولو كانت ابنة زعيم الفصيل الأرستقراطي، فبِثوبٍ أسود، من ذا الذي سيختارها؟
ربما يُسجَنونها أو يُعدمونها، ولكن…
ذلك خيرٌ من أن تعيش ألعوبة لأبيها.
وفي أعماقها، كانت تتوسل أن يقول الإمبراطور: “ارجعي من حيث أتيتِ.”
“…لمَ ترتدين ثوبًا أسود؟ هل أنتِ في حداد؟”
لكنّ سؤاله جاء عاديًا، عابرًا، كأنّه لا يرى التحدّي في ملبسها.
“…كلا، لستُ كذلك.”
الغريب أنّ صوته بدا مألوفًا جدًّا، مألوفًا لدرجة أنّ جسدها ارتعش لا شعوريًّا.
ولكن ليلى سرعان ما أخفت اضطرابها وأجابت بثباتٍ خادع:
“الشخص الذي أحببته أول مرة، توفي في حادث قبل ثلاث سنوات.”
أن تتفوه بهذا الاعتراف أمام الإمبراطور؟!
لقد اتسعت عينا الدوق لاروز من الصدمة.
وقبل أن ينبس بكلمة، سأل الإمبراطور:
“من أجل من مات قبل ثلاث سنوات… ما زلتِ ترتدين السواد حتى الآن؟”
“نعم، يا جلالة الإمبراطور.”
“همم…”
صمتٌ خفيف. كأنّ ذكرى مرّت بذهنه، ثم قال:
“…هل تظنّين أن من رحل كان ليبتغي منكِ هذا؟”
“…ماذا؟”
صوتٌ خفيض، بارد، لكنه يحمل شيئًا دافئًا في عمقه.
ليلى ارتعدت من شدّة الشبه.
هل هو حلم؟
كيف لها أن لا تتعرّف عليه، على ملامحه، على صوته؟
كلا، مستحيل أن يكون مجرّد صدفة…
“لعله يتمنّى فقط أن تعيشي جيّدًا، وأن تمضي قدمًا.”
شعرٌ ذهبي مصفّف بعناية إلى الخلف، وعينان زرقاوان تفوقان الياقوت عمقًا ولمعانًا.
“أليس كذلك؟”
كان قلبها يخفق بجنون.
تقدّمت نحوه بخطًى مرتجفة، بالكاد ترفع قدميها.
“الآنسة لاروز! توقّفي!”
أوقفها الحراس الذين اصطفوا أمام العرش، رافعين رماحهم.
لكنها وقفت، أقرب من ذي قبل، تنظر إليه مباشرة.
كانت الدموع تنهمر من عينيها بغزارة.
“كيف…!”
وحين تبيّنت وجهه تمامًا، خلعت حجابها بعنف.
“كيف تكون هنا!؟”
لا يجوز… لا يمكن أن تكون هنا،
أنت الذي رحلت عني بالموت،
لا يمكن أن أراك حيًّا أمامي.
وفي تلك النظرة التي التقت بها عيناهما، أدركت ليلى الحقيقة.
لم يكن قد رحل…
“إيستون!”
بل تخلّى عنها.
تخلّى عنها بمسرحية اسمها “الموت”، بخيانةٍ جبانة قاسية.
اجتاحها شعورٌ بالخيانة يفوق الحنين الذي كاد يقتلها، وسقطت على الأرض منهارة.
وآنذاك، حين لمحها إيستون جيّدًا، نهض من مقعده مذهولًا.
“…ليلى!”
ناداها باسمها بصوتٍ اختنق بالمفاجأة،
وفي تلك اللحظة، شعرت أنّ قلبها قد تحطّم، وسقطت بلا حراك.
“نادوا طبيب القصر حالًا!”
أسرع إليها، وضمّها إلى صدره.
وفي وسط تلك الفوضى، لم يكن يضحك بسعادة سوى رجلٍ واحد…
الدوق لاروز.
⸻
كان ذلك في أحد أيام الصيف، يومٌ تساقط فيه المطر بعنفٍ لا يُوصف.
توقّفت عربة فاخرة أمام مدخل قرية ريفية.
“من هنا فصاعدًا، الطريق وعرٌ لا يسمح للعربات بالمرور!”
“…شكرًا لك.”
ترجّل شابٌ من العربة، وقد ارتدى رداءً فضفاضًا يخفي ملامحه.
رغم هندامه المرتّب، بدا شابًا لم يبلغ سنّ الرشد بعد.
توجّه إلى ظلّ سقفٍ برتقالي هربًا من المطر، وأخرج جهاز الاتصال من جيبه.
رنّ صوتٌ قصير، ثم جاءه الرد:
[هل وصلتم، سموّ ولي العهد؟]
“نعم. هل صحيح أنّ العشبة التي تشفي مرض الأميرة موجودة هنا؟”
[نعم، إنّها نبتة نادرة لا تنمو سوى في جنوب إنفيرنو، وفقط لفترة قصيرة بعد انتهاء موسم الأمطار.]
“سأبقى هنا لبعض الوقت للبحث عنها بنفسي.”
[ألن يكون من الأسهل إرسال أحدٍ بدلًا منكم؟]
“…أنت تعلم أنني لا أثق بأحد.”
ضحك إيستون بسخرية.
[حتى بي؟]
“بل خصّصت لك عملًا آخر. أما هذا، فيجب أن يقوم به أكثر الناس فراغًا في القصر الإمبراطوري.”
[آه، حسنًا. أخبرت الجميع أنّك في إجازة، فكن حذرًا، واتّصل إن حصل شيء.]
“…حسنًا.”
وانتهى الاتصال.
نظر إيستون إلى المطر الغزير، كأنّ السماء نفسها قد انفتحت.
“كان يجب أن أحضر مظلة…”
لم يكن يحمل مظلات أبدًا، ولم يفكّر بالأمر أصلًا.
مدّ يده خارج السقف، لامست قطرات الماء أصابعه.
بدا أنّ المطر لن يتوقف قريبًا.
‘عليّ التحرّك، حتى وإن غرقتُ كفأرٍ مبلّل.’
وبينما همّ بالانطلاق، سمع صوت خطوات تمشي على الطريق الطيني.
‘من؟’
تحفّز، وأمسك بسيفه عند الخصر، ثم التفت فجأة نحو الصوت.
“…ما هذا؟”
أمامه ظهرت مظلة صفراء صغيرة، تُرفع ببطء، وتكشف عن…
“مرحبًا؟”
صوتٌ صافٍ كخرير الماء، دافئٌ كالأمل، وصل إلى قلبه.
وفي وسط المطر المتساقط، انحنت عينا ليلى كالهلال، وهي تبتسم.
وكأنّ الزمن توقّف.
لأول مرة، شعر إيستون بشيءٍ غريب، لم يعرف كيف يرد.
كلّ شيء تغيّر: صوت المطر أصبح ناعمًا، ورائحة الأرض المبلّلة باتت مُنعشة.
كان ذلك في صيف السابعة عشرة من عمره.
حين جاءت إليه، حاملةً مظلّة صفراء.
وحتى اليوم، حين يُغمض عينيه، لا يزال يسمع صوت المطر… بوضوح.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"