بعد أن تبين أن الكرة تخص ميلين، تجمد وجه كريس في ذهول.
ثم، بناءً على رهان اقترحته ميلين، أصبح على كريس أن يزور قصر بليزير يومياً لحضور دروس الآداب.
في البداية، لم تكن فكرة ميلين نابعة من إدراكها أن كريس هو “زوجها المستقبلي”، بل كانت ترغب فقط في صديق مقرب يشبه أفراد العائلة. كانت ميلين دائمًا وحيدة، فكل ما أرادته هو رفيق. لكن، إذا أمكن، فلمَ لا يكون هذا الرفيق هو الشخص الذي ستتزوجه يوماً؟ كان ذلك، في نظرها، خيارًا عمليًا. لم تكن هناك أي دوافع أخرى وراء قرارها.
على الرغم من تصرفاته التي بدت أحيانًا سخيفة، كان كريس يطيع ميلين في الغالب. كان فتىً ملتزمًا وطيب القلب، فلم يكن هناك ما يدعو للقلق. بل إن طيبته جعلت ميلين تُقبل عليه بحماس. كانت تخبز له الكعك بيديها، وتدعوه لتناول وجبات غداء شهية. ليس ذلك فحسب، بل كانت تشاركه ملاحظاتها عندما يغفو في دروس الآداب، وتساعده في واجباته بعناية.
بذلت ميلين جهدًا صادقًا لتكون لطيفة مع كريس. صحيح أن كريس، كما يليق بطفل في سنه، لم يكن مهتمًا كثيرًا بمسألة “خلافة العائلة” التي هيمنت على تفكير ميلين، لكن ذلك لم يكن مشكلة كبيرة. كل ما عليها فعله هو أن تشرح له الأمر عندما يصلان إلى سن الزواج.
كانت مهمتها هي التأكد من أن كريس، عندما يحين الوقت، لن يرفضها قائلاً: “لن أتزوجك!” كان عليها أن تبني علاقة تجعله مستعدًا لدعمها، ليدرك أن عائلة بليزير تواجه أزمة، وأنه، كابن ثانٍ لعائلة إستريان، هو الوحيد القادر على إنقاذها.
أرادت أن تكون علاقتهما قوية بما يكفي ليتقبل أي تبعات على سجله الشخصي بكل رحابة صدر. شعرت ميلين أن هذا ممكن إذا استمرت في معاملته بلطف.
منذ أن عزمت على هذا الهدف، أصبحت أكثر حرصًا في تعاملها مع الدوقة إستريان وكريس. مع مرور الوقت، أصبحت علاقتها بكريس وثيقة. كان كريس لا يزال يطيعها، ولم تكن هناك أي مشكلات تُذكر.
عندما بلغت ميلين العاشرة، بدأت نظرتها إلى كريس، الذي كانت تعتبره مجرد “صديق طفولة”، تتغير تدريجيًا. بدأت تتخيل أنه، ربما، يمكن أن يكون شريكًا لحياة زوجية سعيدة.
إذا كان بهذا اللطف والطاعة، فلمَ لا؟
لم تكن مستعدة لتسمية شعورها “إعجابًا”، فهذه الكلمة أثارت قشعريرتها. وكلمة “حب” كانت كفيلة بجعلها تشعر بالغثيان. لذا، قررت أن علاقتهما مجرد صداقة.
كانت تحلم أحيانًا بمستقبل يعيشان فيه معًا في قصر بليزير، يتقاسمان حياة زوجية هادئة وسعيدة. لم تكن تتوقع حبًا خياليًا كما في القصص، بل سعادة بسيطة وهانئة. هذا كان كافيًا بالنسبة لها.
سواء كان ذلك لإنقاذ عائلتها أو لتحقيق وعد والدها بالعيش بسعادة، كانت ميلين ترى مستقبلها مع كريس كطريق مفروش بالورود. كل شيء بدا مثاليًا… حتى نطق كريس بتلك الكلمات:
“استمعي جيدًا. الزواج هو… مثل القبر.”
“…ماذا؟!”
“أعني أنكِ بمجرد دخولكِ فيه، لا يمكنكِ الخروج.”
“هذا… أعرفه.”
لم يكن عليها أن تبحث بعيدًا. كان والدها، دوق بليزير، مثالًا حيًا. حياة زوجية أنتجت طفلة، لكنها لم تمنحه وريثًا ذكرًا، جعلته يعيش كأنه محبوس في قبر. وأمها، التي لم ترَ وجهها قط، كانت بالفعل في قبر حقيقي.
لكن ما أثار حزنها العميق لم يكن تذكير كريس بهذه الحقيقة التي تعرفها جيدًا. كان الألم ينبع من إدراكها أن الفتى الذي يرى الزواج قبرًا هو من سيكون زوجها المستقبلي.
غمرتها موجة من الخيبة والإحباط.
“أتقارن الزواج بالقبر؟” سألت ميلين بنبرةٍ فيها مزيج من الدهشة والاستنكار.
“لأن الزواج هو هكذا.” رد كريس بثقةٍ جارحة، كأن كلامه يحمل الحقيقة المطلقة.
“… الشخص الذي سيتزوجك مسكين حقًا.” أضافت ميلين، وهي تشير إلى نفسها في صمت، كأن الكلمات سكينٌ يطعن قلبها.
في تلك اللحظة، شعرت بحرقةٍ في حلقها، وكأن الدموع تتصارع لتفيض من عينيها.
لكن كريس، إما أنه لم ينتبه لاضطراب مشاعرها أو تجاهلها عمدًا، اتسعت عيناه عند سماعه كلمة “مسكين”.
لم تكن ميلين ترغب حقًا في أن ينتهي هذا الجدال بهذا الشكل المؤلم، لكنها وجدت نفسها مرغمة على سماع ما هو أقسى.
“أنا أيضًا اكرهكِ!”صرخ كريس بنبرةٍ حادة.
“… ماذا؟” ردت ميلين، وصدمتها تجمد الكلمات في فمها.
“أنتِ لستِ من النوع الذي أحبه، وشخصيتكِ سيئة أيضًا. تتعاملين معي كأحمق كل يوم. أفضل أن أصبح كاهنًا على أن أقضي حياتي مع فتاة مثلكِ.”
تلك الكلمات القاسية طمست كل ما تلا من جدال في ذهن ميلين. لم يبقَ في ذاكرتها سوى جملته القاطعة: “بدلاً من الزواج بكِ، من الأفضل أن أصبح كاهنًا.”
كانت تلك الكلمات بمثابة صاعقة أوقفت تدفق أفكارها، كأن عقلها تجمد في مكانه. شعرت بالأسف العميق على كل الجهد والعاطفة التي بذلتها على هذا الشخص الذي بدا لها الآن تافهًا إلى أبعد حد.
لم تكن قد أصبحت صديقة كريس لتسمع مثل هذه الكلمات الجارحة.
قد يكون الزواج واقعًا لا مفر منه، لكنه أمرٌ يخص المستقبل البعيد، يمكن تأجيله. لكن، حتى لو كان الأمر كذلك، فإن هذه الكلمات كانت قاسية جدًا.
حتى لو كانا مجرد صديقين.
ومنذ تلك اللحظة، غرقت ميلين في بحرٍ من الحيرة
في بعض الأيام، كما قال والدها، كانت تفكر إن كان ينبغي أن تتجاهل العائلة وتعيش حياتها باستمتاع.
لكن، حسنًا، حتى لو كان كريس شخصًا تافهًا يقارن الزواج بالقبر، أليس من الصواب تعليمه جيدًا وحماية بليزير؟
لكن بعد ذلك، كانت تفكر مرة أخرى، أليس من الأفضل أن تدرس بجنون أكثر من الآن وتحصل على منصب رسمي، بدلاً من الزواج من شخص مثل هذا؟ كانت مشاعرها تتقلب كراحة يدٍ تُقلب، فلا شيء يتكرر سوى الحيرة والاضطراب في أيامها
وفي خضم هذا الاضطراب، جاء كريس يومًا بشكل مفاجئ، وقال لها شيئًا كانت تعرفه منذ طفولتها، شيئًا سئمت من التفكير فيه مرارًا وتكرارًا:
“إذا تزوجتِ من الابن الثاني او الأصغر لعائلة قريبة للعائلة المالكة، ولكن ليس الابن الأكبر، فإن كل شيء سيُحل.”
كنت أعرف ذلك، أيها الأحمق.
وأنت من جعلني أكسر هذا القرار.
حدّقت ميلين في كريس لفترة، ثم أنزلت عينيها إلى الكتاب الموضوع على ركبتيها، محاولةً جاهدة أن تبدو وكأنها غير متأثرة.
* * *
كانت تلك المرة الأولى التي تروي فيها القصة لابنها بمثل هذا التفصيل.
ذلك، بخصوص الوضع الذي تواجهه ميلين.
نظرت إيزابيلا بارتياح من النافذة إلى ظهر ابنها وهو يهرع إلى الخارج، وهي تمسك بكوب الشاي بين شفتيها.
بعد لحظات، وبينما كانت تراقب كريس وهو يصعد إلى العربة، أدارت نظرها إلى السيدة بيتا التي كانت بجانبها.
“يبدو أن الأمر قد نجح، أليس كذلك؟”
“… نجح في ماذا؟”
رفعت السيدة بيتا عينيها نحو إيزابيلا بنظرة متعجبة وهي تشرب الشاي. ثم، عندما قالت إيزابيلا: “أعني ابني الثاني وميلين”، ابتسمت بيتا وأومأت برأسها.
“يبدو الأمر كذلك.”
عند سماع إجابة السيدة بيتا، أخذت إيزابيلا رشفة أخرى من الشاي.
“والآن، ما الذي تنوين فعله؟”
“ما الذي سأفعله؟ سأستمر كما كنت أفعل.”
“هل أنتِ جادة في تزويج السيد الشاب والآنسة؟”
سألت السيدة بيتا بعيون متسعة من الدهشة.
“اسمعي، إيما.”
“نعم، سيدتي.”
“أنا لست فقط أم كريس، بل أم أمانس أيضًا. هل يجب أن أرى بعينيّ ابنيّ وهما يتقاتلان من أجل لقب الدوق العظيم؟”
“أعلم جيدًا أن هذه صورة لا ترغبين في رؤيتها-“
“بصفتي أمهما، أنا أيضًا سيدة عائلة إستريان.”
عندئذ، أغلقت السيدة بيتا فمها.
“الحفاظ على سلام العائلة هو أيضًا جزء من مسؤولياتي. وأنا أعيش مع زوج محافظ وعنيد، فكيف لا أتدخل بنفسي؟”
أبعدت إيزابيلا كوب الشاي عن شفتيها، وظهر على وجهها تعبير يشي بالضيق كما لو أن شيئًا ما خطرت في بالها.
“زوجي، كما تعلمين… يبدو أحيانًا بسيطًا للغاية في طباعه، لكنه في الوقت ذاته عنيد بشكل لا يُطاق… إنه حقًا يجعلني أشعر بالاشمئزاز أحيانًا.”
“هذا أمر لا مفر منه بالنسبة لمعظم رؤساء العائلات.”
ردت السيدة بيتا بابتسامة، كأنها تتفهم مشاعر إيزابيلا، وقالت كلامًا يحمل لمحة من المواساة.
“بالتأكيد، إنه من النوع الذي سيرمي أبنائي الغاليين في تلك المعركة دون تردد.”
“لذلك قررتِ أن تجعلي آنسة بليزير زوجة ابنك.”
“أن أجعل الفتاة التي ستُصبح دوقة بليزير في المستقبل زوجة ابني ليست صفقة سيئة بالنسبة لي.”
على الرغم من أن السيدة بيتا تفهمت كلام إيزابيلا، إلا أنها لم تستطع إلا أن تشعر بال قلق تجاه كريس، تلميذها العزيز الذي ربته وعلمته لسنوات طويلة.
“لكنني أخشى أن يصبح مكانة السيد الشاب محرجة في الأوساط الاجتماعية.”
عند سماع هذا، وضعت إيزابيلا كوب الشاي الذي كانت تمسكه على الطاولة بنقرة خفيفة. ثم التقت عيناها الحادتين بنظرات السيدة بيتا القلقة.
“إيما، بناءً على ما رأيته من ميلين، كيف وجدتِها؟”
“حسنًا، إنها ذكية، وناضجة بشكل لا يتناسب مع عمرها، واثقة، ونشيطة… إنها حقًا فتاة نادرة وممتازة.”
“بالضبط، هذا رأيي أيضًا. في هذه الإمبراطورية، هناك الكثير من الآنسات اللواتي يبدين محترمات ظاهريًا فقط. ميلين مختلفة تمامًا عنهن. إنها الشريكة المثالية لكريس.”
“هذا صحيح، ولكن-“
“ما تقلقين بشأنه، ستتولاه ميلين بنفسها.”
“ماذا؟”
ظهرت على وجه السيدة بيتا نظرة الحيرة والدهشة.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 17"