كانت الرياح، التي حملت عبير الزهور، قد بدأت شيئًا فشيئًا تكتسب حرارة الصيف. و دوت إشارة تدل على تغيرٍ ما.
“أوب؟”
رمش الرضيع ذو الوجنتين الممتلئتين بعينيه ببطء وكأنه استيقظ للتو من نومه.
مع كل رمشة، كانت عيناه الحمراوان تلوحان وتختفيان مرارًا. و تحت أشعة الشمس المتسللة عبر النافذة، تألق شعره الذهبي بوهجٍ ساطع.
“أوو؟”
في مثل هذا الوقت، كان من المفترض أن يحمله أحدهم بين ذراعيه، ويربت على ظهره بحنان ليسأله إن كان قد نام جيدًا. لكن غياب اليدين الكبيرتين جعله يميل رأسه بحيرة، وكأنه مستغرب من الأمر.
“أوبوب.”
ظل مستلقيًا بهدوء لبعض الوقت، متحملاً الوضع بفخر طفولي، لكن سرعان ما بدأت عيناه تمتلئان بالدموع، وكأنه يريد أن يخبر أحدًا بأنه استيقظ.
“أوووا!”
تلوى بذراعيه وساقيه الصغيرتين، معقدًا حاجبيه وكأنه على وشك البكاء في أي لحظة.
“هم؟”
في تلك اللحظة، برز فجأة ظلٌ صغير فوق المهد الذي كان الطفل مستلقيًا عليه.
كانت فتاةً صغيرة.
كانت تملك عينين زرقاوين تشبهان تمامًا عيني إيرينا، وكلما أمالت رأسها بحيرة، كانت خصلات شعرها الأسود الطويل تتمايل معه.
“أبا؟”
مدّ الرضيع يده، لكن لم يكن ذلك طلبًا ليُحتضن، بل بدا مهتمًا أكثر بالشريط المثبت في نهاية شعر الفتاة.
راح يحرك عينيه الحمراوين ويده ذهابًا وإيابًا متتبعًا الشريط السماوي اللون.
“أبببب!”
ياللأسف!
قبل أن يتمكن الرضيع من مدّ ذراعه بالكامل، أدارت الفتاة رأسها بسرعة.
“إيفان استيقظ!”
كان صوتها عاليًا لدرجة أن الغرفة كلها اهتزت. وما إن اختفى الشريط الذي كان على وشك الإمساك به، وانطلقت تلك الصرخة التي دوت في أذنيه، حتى اتسعت عيناه في ذهول.
“أواااااااااه!”
وبدأ في البكاء بصوت أعلى من صوت الفتاة نفسها.
“أبيي! إيفان يبكي!”
“أواااااااااه!”
اندلعت معركةٌ صوتية لا يُستهان بها. فكلما بكى إيفان بصوت عالٍ، رفعت الفتاة صوتها أكثر، وكأنها ترفض الخسارة، فما كان من الرضيع إلا أن يزيد من حدة بكائه بدوره.
كان الصوت قويًا لدرجة أن الخدم والفرسان في قصر دوقية وينفريد، الذين كانوا خارج الغرفة، فوجئوا واضطروا إلى سدّ آذانهم.
“أغاثا.”
من أنهى هذه المنافسة التي لم يكن فيها لا فائزٌ ولا خاسر، بل ضحايا فقط، كان رجلًا واحدًا.
“إن صرختِ بهذه الطريقة، فمن الطبيعي أن يبكي إيفان.”
رُفع الطفل بين ذراعيه الكبيرتين بخفة. ورغم أن الرضيع لم يكن صغيرًا إلى ذلك الحد، إلا أنه بدا كدمية صغيرة وهو في حضن الرجل.
“لكن..…!”
احتجّت أغاثا بصوت واضحٍ وثابت.
“أنا صغيرة! لو ركضتُ حتى مكتب والدي، لكان إيفان قد بدأ بالبكاء قبل أن أصل بالتأكيد. لو كنتُ أملك ساقين طويلتين مثل ديلفيا، لكنتُ وصلتُ في لحظة!”
ثم مدّت ساقيها أمامه وكأنها تطالبه بأن ينظر إليهما.
وبالفعل، رغم أنها ورثت دماء لوغان، فكانت أطول من أقرانها بعمر الخامسة، إلا أنها بالمقارنة مع الكبار كانت ساقاها قصيرة بلا شك.
“لهذا، كان من الأفضل أن أصرخ ليأتي والدي بساقيه الطويلتين بسرعة!”
“أغاثا..…”
بينما كان لوغان يربّت على ظهر إيفان بمهارة معتادة، نادى ابنته.
“أوه..…”
عندما نظر إليها بصمت، عبست أغاثا وأخرجت شفتها السفلى بتذمر، لكنها لم تستطع الصمود طويلًا. قسرعان ما خفضت رأسها بحزن.
“…..لقد أخطأت.”
“أجل.”
مسح لوغان على رأسها بلا مبالاة ثم تابع سيره، بينما تبعته ابنته بخطوات صغيرة.
“لكن، أبي…..لماذا بكى إيفان؟”
“لأنه بكى عندما صرختِ.”
“لكن! عندما جئت، كان يبدو على وشك البكاء بالفعل! لهذا صرختُ بصوت عالٍ لأقول أنه استيقظ!”
“هممم، إذاً حتى أنا لا أعرف السبب.”
رغم أن إيفان كانت طفله الثاني، إلا أن لوغان ما زال يجهل الكثير عن هذا الكائن الصغير.
لقد نام جيدًا، وأكل قبل النوم، لذا من المستبعد أن يكون جائعًا. وحفاظه نظيفٌ تمامًا، فما الذي يجعله يبكي إذاً؟
كان بكاؤه حزينًا للغاية بحيث لا يمكن تفسيره فقط بأنه فزع بسبب صرخة أغاثا، فلا بد أن هناك سببًا آخر…..
“أبي، أبي.”
بينما كان لوغان يسند إيفان على كتفه ويربّت على ظهره بمهارة، شدّت أغاثا طرف ثوبه، مطالبةً بانتباهه.
“ماذا؟”
“لقد فكرت في الأمر…..ألا تعتقد أنه يبكي لأن أمي لا تعتني به؟”
عبّرت أغاثا عن رأيها بصوت واضحٍ وحازم.
“في المنازل الأخرى، الأمهات هن من يعتنين بالأطفال، لكن في قصرنا، أنت من يعتني بإيفان أغلب الوقت، أليس كذلك؟ ربما لهذا السبب يبكي!”
قبل أيام قليلة، كانت إيرينا قد أخذت أغاثا معها لزيارة صديقتها هالي. وهناك، شاهدت كيف كانت هالي تعتني بطفلها، ويبدو أنها استخلصت استنتاجها الخاص من ذلك.
“لكن أمكِ تهتم بكِ وبإيفان أيضًا، أليس كذلك؟”
إيرينا كانت تحب طفليها بقدر ما يحبهم لوغان، وكانت تخصص وقتًا كافيًا للعناية بهما. ولو لم تكن قد خرجت لمقابلة أحد، لكانت على الأرجح قد وصلت إلى الغرفة قبل لوغان عند سماعها صرخة أغاثا و بكاء إيفان.
“لكن! عندما رأيت السيدة هالي، كانت هي وحدها من يعتني بطفلها! كما أنني سمعت أن الآباء في المنازل الأخرى لا يحملون أطفالهم كثيرًا!”
كلامها لم يكن خاطئًا.
أعمال النساء، أعمال الرجال، عملك، وعمل الخدم— لا تزال الأمور مقسمة بوضوح في المجتمع.
“همم..…”
كيف يمكنه شرح ذلك؟
بعد لحظة من التفكير، انحنى لوغان على ركبتيه ليقابل عيني أغاثا.
“أغاثا، صحيح أن الأمهات في المنازل الأخرى يعتنين بالأطفال في الغالب، لكن يجب أن يكون قصرنا مختلفًا.”
“لماذا؟”
“لأن أغاثا الصغيرة ستكبر يومًا ما لتصبح الدوقة وينفريد أو كونتيسة ليونيد، أليس كذلك؟”
“…..!”
اتسعت عينا أغاثا في دهشة، وكأن أحدهم انتزع منها قطعةَ حلوى كانت تمسك بها دون أن تنتبه.
“ماذا؟! وما علاقة ذلك بكوني الدوقة أو الكونتيسة؟ سأكون كلاهما!”
قبل فترة قصيرة، قالت أنها ستصبح دوقة، ثم بالأمس قررت أنها ستصبح كونتيسة، أما اليوم، فقد قررت أنها ستحصل على اللقبين معًا بطموح لا يتزعزع.
ضحك لوغان بصوت خافت وهو يرى عينيها الزرقاوين ترتجفان بحماس.
“وفقًا لكلامكِ، عندما تكبرين وتتزوجين، سيكون عليكِ الاهتمام بالأطفال فقط؟”
“آه…”
رمشت أغاثا بعينيها في ارتباك، غير متوقعةٍ لهذا التطور في الحديث. فابتسم لوغان ونظر إليها مجددًا.
“هل سيكون ذلك على ما يرام بالنسبة لكِ؟”
لم تستطع أغاثا الرد، بل خفضت رأسها بتردد.
‘ترى، هل ورثت عنادي؟’
ابتسم لوغان بصمت قبل أن يتابع حديثه ببطء.
“ألم تقولي سابقًا أنكِ تريدين أن تصبحي مثل والدتكِ؟”
منذ أن أصبحت إيرينا الكونتيسة ليونيد و الدوقة وينفريد، كرّست جهودها لمساعدة الفقراء، حيث كانت تعمل على مشاريع خيرية لدعمهم.
ومؤخرًا، زارت أغاثا حي الفقراء للمرة الأولى في حياتها، لترى بنفسها ما كانت والدتها تفعله، لا مجرد سماعه.
“ما هذا المكان القذر؟!”
في ذلك اليوم، أصيبت أغاثا بصدمة. بل إنها بكت بصوت عالٍ عندما رأت جرذًا للمرة الأولى.
لكن بعد أن رأت بنفسها كيف كانت والدتها تعمل، وكيف تحسنت حياة من تلقوا مساعدتها، مسحت دموعها وبدلًا من ذلك، لمعت عيناها بالحماس.
بدت فخورةً برؤية تأثير لمسة صغيرة منها على تغيير حياة الناس.
لا عجب، فهي ابنة والدتها حقًا.
“كلما فكرت في الأمر، أبي…..صحيح أن لقي الدوق وينفريد رائع، لكني أعتقد أن الكونتيسة ليونيد راقٍ ومذهل أيضًا!”
ومنذ ذلك الحين، لم تتوقف عن التجول وهي تعلن بفخر أنها ستصبح الكونتيسة ليونيد.
لكن في اليوم التالي، بعدما شاهدت لوغان يتدرب على السيف، قررت مجددًا أنها تريد أن تصبح الدوقة وينفريد.
كانت تلك اللحظة التي قلبت رأي أغاثا، التي كانت ترى أن الدوق أكثر عظمةً من الكونت.
“لقد رأيتِ والدتكِ وهي تعتني بإيفان أيضًا، أليس كذلك؟ أي جانب منها تريدين أن تشبهي؟”
“…..الجانب الذي يعمل.”
اعترفت أغاثا بصدق، فابتسم لوغان ورفعها بين ذراعيه بخفة.
“الاعتناء بإيفان عملٌ رائع أيضًا، لكن والدتكِ تريد أن تمنحكِ فرصة الاختيار.”
في نظر أغاثا الصغيرة الآن، يبدو أن التقدم بخطوات ثابتة نحو الأمام أكثر روعةً من الاهتمام بأخيها المزعج.
لكن عندما تكبر، قد تتغير وجهة نظرها. فالحفاظ على أسرة أيضًا أمرٌ يستحق التقدير.
كل من إيرينا ولوغان كانا يستعدان لتلك اللحظة، كي يتمكن كلٌ من أغاستر وإيفان من اختيار طريقهما بسهولة أكبر.
“فهمتِ؟”
عندما طبع قبلةً خفيفة على خدها، ضحكت أغاثا بدغدغة، فابتسم لوغان معها.
“أوب؟”
رمش إيفان، الذي كان لا يزال متكئًا على كتف والده، وقد توقفت دموعه أخيرًا. وعندما رأى الاثنين يضحكان، انطلقت منه ضحكةٌ صافية مبهجة.
“معذرة، سمو الدوق، آنستي، وسيدي الصغير.”
انحنى إيرن، بلحيته المهذبة بعناية، بإيماءة خفيفة وهو يحييهم.
“سيدتي قد وصلت.”
قبل أن ينهي إيرن كلامه، انطلقت أغاثا بسرعة مذهلة.
“أمي!”
انزلقت على حاجز الدرج بسرعة خاطفة، ثم قفزت في الهواء نحو هدفها—أحضان والدتها.
“أغاثا!”
اتسعت عينا إيرينا دهشة، لكنها فتحت ذراعيها على الفور. وبالمثل، فتحت أغاثا ذراعيها وهي تبتسم بسعادة.
“آه!”
لكنها لم تصل. فقد أمسك بها لوغان قبل أن تهبط.
“أغاثا، ألم أخبركِ ألا تفعلي أشياء خطيرة؟”
“نعم..…”
زمّت شفتيها باستياءً، بينما كان إيفان، الذي انتهى به الأمر في أحضان والدته، يضحك بسعادة.
“أوه..…”
حدّقت أغاثا في إيفان بعبوس وهي متشبثةٌ بلوغان، وكأنها تشعر بأنها هي من خسرت هذه المرة.
“لماذا هذا الوجه، أغاثا؟”
“لا شيء.”
رفعت أغاثا رأسها ناكرة.
“أنا كبيرةٌ الآن، لذا يمكنني التنازل لإيفان هذه المرة.”
رغم كلماتها الناضجة، كانت عيناها تقول العكس، مما جعل إيرينا تضحك.
“إذاً، لنفعلها هكذا.”
رفعها لوغان بذراع واحدة، ثم مد ذراعه الأخرى ليحتضن إيفان الذي كان في أحضان إيرينا.
اتسعت عينا إيرينا دهشة.
“ما رأيكِ؟”
“هممم!”
ابتسمت أغاثا بسعادة.
“أحب ذلك!”
“أليس كذلك؟”
ضمّهم لوغان إليه أكثر وهو يبتسم.
“أنا أيضًا أحب ذلك.”
حين كان يجوب ساحات الحرب، ظن أن حياته ستظل هكذا إلى الأبد.
يستجيب لأصغر الأصوات بفزع، يلتقط سيفه دون تفكير، يعتاد القتل حتى يصبح الأمر بلا معنى، و تظل أعصابه مشدودةٌ فلا يذوق النوم ليلًا.
كان يعتقد أنه سيواصل العيش بهذه الطريقة حتى يسقط صريعًا على يد عدوه، أو يهلك بسيفه هو نفسه، ويفنى هكذا.
‘لم أتخيل أن الأمور ستنتهي بهذا الشكل.’
كان تغييرًا جلبه إليه شخصٌ واحد، تغييرًا جعله سعيدًا حدّ الغرابة.
وكان لوغان مستعدًا تمامًا لتقبّل هذا التغيير بكل سرور.
“أحبكم.”
قد تتغير أشياء كثيرة، لكن هذا الشعور…..لن يتغير أبدًا.
< النهاية >
_____________________
حلو انهم ختموها بوجهة نظر لوغان 😔♥️
وكذا خلصنا لوغان وايرينا الي نشفوا عيني دموع 😘
يارب ماتصير مانهوا منب مستعدة اشوف حبايبي وعيالهم برسم غير الغلاف
المهم شكرا لصبركم علي وانا اقطع لكم الفصول 😂💕
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 160"