كان قصر فيرمونت الواقع على أرض لونغفيلد المنحدرة، قصرًا فخمًا حقًا. كانت العظمة لا يمكن وصفها بالكلمات، وكان المنظر المذهل للنقوش الحجرية الملائكية وإطارات النوافذ المُذهّبة المُتلألئة عند غروب الشمس جميلاً مثل لمحة من السماء. وعلى النقيض من المباني في العاصمة، التي كانت تخضع باستمرار للتجديد لمواكبة الاتجاهات، كان هذا القصر القديم يتمتع بسحر أرستقراطي عميق. لقد كان يتمتع بأناقةٍ خالدة، وعناد كريم ظل دون تغيير على مرّ السنين.
حقيقة أن الصبي الذي التقيتا به بالصدفة في عربةٍ مفقودة كان يُقيم في هذا القصر كان شيئًا اكتشفته الأختان فيري في العام التالي بعد أن أصبحوا أصدقاء. سيكون من الكذب القول إنهما لم تتفاجئا، لكن الأختان سرعان ما أشرقن وتوسّلن لدعوتهن إلى القصر. بالنسبة للفتاتين اللتين اعتبرتا ريش الحمام كنزًا، كانت المكانة والكرامة لا تزال مفاهيم بعيدة المنال. وهكذا فإن اللحظة التي وطأت فيها أقدامهما هذا المكان المهيب ظلت حية في ذاكرتهما. أمام الحديقة الواسعة، التي تضم مسارات للمشي لا نهاية لها، ومنحوتات ونوافير من صنع حرفيين ماهرين، وحتى شلال اصطناعي، لم يتمكن سوى عدد قليل من الناس من البقاء هادئين.
ومع ذلك، كان القصر هادئًا للغاية. وعلى الرغم من مساحته الشاسعة، فقد كان مأهولًا حصرياً من قبل الماركيز هنتنغتون. نظرًا لحجمه، كان هناك عدد لا بأس به من الخدم، لكنهم جميعًا يشبهون سیّدهم في كونهم غير واضحين مثل الظلال.
كان الضيوف الوحيدون في عقار فيرمونت هو حفيد الماركيز، الذي زاره في الصيف. ومع ذلك، كان دائمًا هادئًا، لذلك كان الخدم ينسون في كثير من الأحيان أن هناك ضيفًا. لكن اليوم كان يومًا نادرًا عندما رحّب خدم عقار فيرمونت بالضيوف الحقيقيين. ورغم أنهم لم يكونوا ضيوفًا مميزين بشكل خاص، إلّا أن الحيوية والحماسة التي جلبوها كانت تُدفئ القصر، الذي ظل باردًا حتى تحت شمس الصيف. ومع ذلك، بمجرد انتهاء الوجبة القصيرة ومغادرة الضيوف، اختفى الدفء الخافت الذي كان عالقًا في الهواء دون أن يترك أثرًا، تاركًا وراءه الصمت البارد المعتاد.
لم يكن شيئًا خارجًا عن المألوف…
كان الماركيز العجوز يقضي معظم يومه في غرفة المكتب. كانت الغرفة بسقفها البعيد المُزين بالثريات، تتمتع بفخامة معينة لغرفة المكتب لكن الماركيز استخدمها بعناد على هذا النحو. كان أحد جدران الغرفة يتميز بنافذة مقوّسة ضخمة تصل إلى السقف العالي، واليوم، كان الجزء الخارجي في خضم موسم نابض بالحياة. كان الرجل العجوز يستمتع بالكامل بأجواء فترة ما بعد الظهر المبكرة في الصيف والتي كانت تتدفق عبر النافذة الواسعة. ومع ذلك، وعلى النقيض تمامًا من المشهد الحيوي في الخارج، كان الصمت الثقيل يُخيم على غرفة المكتب.
كان الصوت الوحيد هو صوت التقليب العرضي لصفحات الكتاب…
لم يكن هناك أي محادثة بين الماركيز وحفيده بعد أن غادر الضيوف. لقد كان الرجلان غارقين في أفكارهما، كما كانا دائمًا.
ولهذا السبب بدا السؤال المُفاجئ غريبًا بشكلٍ خاص…
“هل كان هناك شيء لم يعجبكَ؟”
رُفعت النظرة العميقة المُثبّتة على صفحة الكتاب ببطء. الحاجبان اللذان كانا هادئين في السابق أصبحا الآن عابسين بشكل خافت.
“عفوًا؟”
“لقد كان هذا النوع من النظرة على وجهكَ.”
تصلّب أنسيل على غير عادته. ليس فقط لأنه نادرًا ما كان يتحدث مع جده؛ بل كان هذا النوع من الحديث غريبًا عليه تمامًا.
محادثة عادية مثل هذه…
“لا، لا يوجد شيء.”
“أنتَ من قال أنه لا يهم إذا لم يكونوا من عائلة نبيلة.”
“جدي، أنا…”
توقف أنسيل، مندهشًا من نبرة صوته المُمزوجة بسخرية لا يمكن تفسيرها. وتساءل عما إذا كان الماركيز يختبره. ثم تحدّث أنسيل بصوتٍ هادئ ومنخفض إلى حدٍ ما.
“إنه الزواج الذي طلبته، فلماذا لا يكون هناك أي سبب يمنعني من الإعجاب؟”
“قد يكون هناك، إذا كان هذا شيئًا قام به والدكَ.”
لكن الماركيز هنتنغتون لم يبد أي تراجع حتى أنه ذكر اسم الكونت مونماوث وهو ما لم يكن علامة جيدة.
“قولكَ إنكَ ستُقيم الحفل خلال ثلاثة أشهر فقط، من كان يقصد هذا؟ هل تفهم أن الزواج ارتباط بين العائلات؟”
كان الرجل العجوز على الكرسي المتحرك يحافظ على نظره ثابتًا على النافذة.
ضاقت عينا أنسيل الصافيتان قليلاً عندما نظر إلى ظهره الثابت. رغم قضاء كل صيف معًا، ظل جده لغزًا. ومع ذلك، كانت هناك بعض الأمور التي يستطيع أنسيل قولها عنه بيقين.
كان أحدها أن صمت الماركيز كان يدل على الموافقة. كانت هذه قاعدة غير مكتوبة في عقار فيرمونت، وهي حقيقة لا تقل أهمية عن أي قانون. كانت اللحظة التي يكسر فيها الماركيز الصامت صمته هي اللحظة التي يتحطّم فيها سلام القصر.
كان أنسيل قد جاء إلى عقار فيرمونت فورًا بعد حصوله على الإذن بالزواج من عائلة فيري في ذلك الصباح، وكان الماركيز العجوز قد حافظ على صمتٍ مهيب.
فلماذا هذا التغيير المفاجئ في القلب الآن؟
تساءل أنسيل وهو يفكر: “إن كان السبب هو رفض جدي تناول الطعام مع غير النبلاء. إن كان الأمر كذلك، فما كان عليه أن يدعو عائلة فيري للغداء أصلًا.”
على الرغم من عدم ارتدائه زيًا رسميًا أو حتى ربطة عنق، شعر أنسيل بضيق حول رقبته.
مع أنه لم يكن صارمًا كوالده، إلّا أن الحديث مع الماركيز العجوز الصارم لم یکن مريحًا أبدًا. فما بالك بحديثٍ طويل كهذا.
“لقد اخترتُ التاريخ المبكر الذي سيسمح بالوقت الكافي للتحضير لما هو ضروري.”
“هل كنتَ متشوقًا لهذه الدرجة؟”
توقف أنسيل عن الكلام. لاحظ غضبًا خفيًا، لكنه واضح، في صوت الماركيز.
في تلك اللحظة، اتضح أمرًا جليًا في ذهن أنسيل، تمتم في نفسه: “إن صمت جدي بشأن الزواج الذي تمّ الاتفاق عليه بالفعل لم يكن علامة على الموافقة، بل على العكس…”
“هل كان هذا الحد الأدنى من اللباقة تجاه كونت مونماوث؟”
وهكذا، حثَّ الماركيز حفيده الوحيد على إلغاء زواجه بنفسه، وبقوة أيضًا.
على الرغم من أنه كان يعيش الآن في عزلة بسبب قدرته المحدودة على الحركة، إلّا أن الماركيز هنتنغتون كان محاربًا محنكًا قضى حياته كلها كجندي. وهذا يعني أنه كان على دراية جيدة بالتدابير المُتطرّفة. وهذا يعني أيضًا أنه من غير الحكمة استفزازه…
“أجبني يا أنسيل. هل كان هذا الزواج المفاجئ نيّتكَ الحقيقية؟”
“لقد كان هذا هو نيٌتي بالفعل.”
أغلق أنسيل الكتاب بصوتٍ حاد. ارتعشت حواجب الرجل العجوز الكثيفة.
“أنتَ متهور. هل لأن هذا آخر صيف ستقضيه هنا، فتظن أن الأمر لا يهم؟”
“كيف يكون هذا صحيحًا؟ بعد الزواج، أنوي المجيء إلى هنا للعيش.”
“ولكن لا توجد وحدة عسكرية قريبة….”
“لم أكن أنوي الانضمام للجيش قط. على عكسكَ يا جدي، فأنا قليل الخبرة في كثير من الأمور.”
ورغم أن هذا المكان كان بعيدًا عن العاصمة، إلّا أن أخبار تفوّق حفيده الوحيد في الأكاديمية العسكرية الملكية وصلت للماركيز بالتأكيد. لم يقتصر الأمر على الأكاديمية فحسب، بل تميّز أنسيل أيضًا في الدراسات العسكرية في المدارس الخاصة والجامعات. وباعتباره حفيدًا وابنًا لجندي، كان الأمر طبيعيًا. حتى لو كان ذلك جهدًا للحفاظ على شرف العائلة، فمن المرجح أنه أصبح الجانب المُحدد في حياته.
“من الآن فصاعدًا، سأزوركَ بغض النظر عن الموسم، يا جدي.”
“زواج يستحق التخلي عن كل ما كان يمثل حياتكَ بأكملها. من حريتكَ ألّا تُصبح جنديًا. لقد تغيّر العالم في النهاية. لكنني لا أفهم لماذا اخترتَ مغادرة العاصمة، حيث عشتَ طوال حياتكَ.”
“أليس هذا من أجل عائلة منسجمة؟ أقصد عائلة فيري. مع أنني لا أملك هذا، إلّا أنني أتمنى أن تبقى رابطتهم راسخةً.”
فكر الماركيز العجوز: “وكان حفيدي البالغ على وشك التخرّج من الأكاديمية العسكرية، وهي العقبة الأخيرة بالنسبة له. والآن، مثل المشهد خارج هذه النافذة، لم يكن ينتظره سوى مستقبل مشرق وحر. لم يكن أنسيل قد شهد بعد أي شيء من شأنه أن يجعله يشعر بخيبة أمل كبيرة تجاه الناس في العاصمة لدرجة أنه يُدير ظهره لها طواعية. ومع ذلك، ادّعى أنه سيغادر العاصمة التي تشبه جذوره، ليعيش في مايبوري المُقفرة. بل إن السبب الذي ذكره كان عاطفيًا لدرجة أنه بدا مهينًا تقريبًا.”
“ما لم تكن ترغب في تقليد ضابط متقاعد، فتوقف عن اللعب بالألفاظ.”
التوى فم الماركيز.
“لقد تجاهلتَ كل عروض الزواج. ما الذي دفعكَ فجأة لتدمير سُمعتكَ؟”
“إنه ليس مجرد نزوة. لقد فعلتُ ذلك منذ فترة طويلة جدًا…”
“هل تقول إنكَ كنتَ مغرمًا بها؟ بالابنة الكبرى؟”
بهذا السؤال، أدار الماركيز رأسه أخيرًا. كانت المشاعر في نظراته ثقيلة بشكل لا يوصف.
“نعم.”
وفي الصمت العميق، أغمض أنسيل عينيه ثم فتحهما مرة أخرى، ثم فتح شفتيه الشاحبتين.
“أنا أعرف مَن ترى عندما تنظر إليَّ.”
عينان ثابتتان ومستقيمتان كالسهم. كيف لا تتداخلان؟ كانتا عينين مُتطابقتين، كما لو أنهما معجزة ما. حتى النظرات المُكثفة، التي تبدو هادئة ولكنها ساخنة، كانت كافية لإحياء ذكريات مدفونة منذ فترة طويلة.
في الإحساس الغريب بعودة الزمن، وجد الماركيز العجوز نفسه في حيرةٍ من أمرهِ فيما يتعلق بالكلمات.
في تلك اللحظة تحدّث طفل هيلين، أنسيل.
“أرجوكَ اخرج الآن. لقد بقيتَ هناك طويلاً. عندما توفيَت أمي، فقدتُ أيضًا أغلى شخص في حياتي في ذلك اليوم. أعرف الحزن الذي لا يُطاق. لكن لم يكن أبي هو من تسبّب في وفاة أمي.”
ساد صمت ثقيل. ثم نظر الرجل العجوز من النافذة دون أن ينبس ببنت شفة.
كان لون الظهيرة الأخضر الباهت لا يزال مُشرقًا بشكل مُبهر. وكان هذا بمثابة نهاية محادثتهما.
نهض أنسيل بهدوء ليغادر غرفة المكتب. لم يكن لديه أي نيّة لإزعاج تفكير جده المستأنف.
“الأم…”
لذا كان من غير المُعتاد بالنسبة لأنسيل أن يُضيف كلمة أثناء مروره عبر المدخل.
“لابد أنها كانت سعيدة حتى النهاية. أنا مُتأكد من ذلك.”
لم يستدر الماركيز. لم يكن الأمر مُفاجئًا.
غادر أنسيل غرفة المكتب دون تردّد تلاشی صوت خطواته المرتبكة.
التعليقات لهذا الفصل " 7"