1
عندما استدرت، مدفوعًا بقوة لا تقاوم، كان لا يزال واقفًا هناك كما لو كان مثبتًا في مكانه.
هل كان ذلك بسبب أنه كان مبللاً بالمطر؟
بدت ملامحه وكأنه كان يبكي وهو ينظر إليّ.
كان شعورًا غريبًا. شعرت وكأنني لن أنسى هذه اللحظة أبدًا.
لكن حتى عندما استدرت وأسرعت في خطواتي، وبينما كانت المسافة بيننا تتسع حتى أصبح من المستحيل العودة إليه، لم أسمع صوته يناديني.
لو كان قد ناداني مرة أخرى، هل كان كل شيء سيكون مختلفًا؟
…لا، إنها مجرد فكرة عبثية.
في النهاية، أنا وأنسل سنسير في طريقينا الخاص. يجب علينا ذلك.
كما لو أننا لم نحب بعضنا البعض ابدا منذ البداية.
***
“إلويز.”
صوت رقيق داعب أذنها، ففتحت عينيها الزرقاوين المتلألئتين كالجواهر.
“حان وقت الاستيقاظ.”
في الخارج، كان الصيف المبكر المبهر في أوجه. أشعة الشمس الدافئة التي تسللت عبر النافذة بجانب سريرها انحنت عبر وجه إلويز الناعس.
في ذلك الضوء، رفرفت رموشها، المغطاة بتوهج شفاف، ببطء.
“…أختي.”
“ما الخطب؟ هل حلمتِ حلماً سيئاً؟”
يد سالي الدافئة لامست وجنة أختها بلطف. نظرت إلويز، التي كانت لا تزال نصف نائمة، إلى أختها. وفجأة تذكّرت أصوات الناس الذين أجمعوا على مدح سالي باعتبارها أجمل امرأة في ميبري، والبنت الكبرى لعائلة بيلي.
لم يكن الجمال وحده ما يميزها؛ فقد أحبت إلويز أختها سالي، التي كانت طيبة وحنونة كالملاك، أكثر من أي شخص آخر. وكانت تدرك جيدًا أن أختها تبادلها نفس الحب وتُكنّ لها مشاعر عميقة.
فركت إلويز عينيها بظهر يدها وأجابت بصوت ضعيف.
“لا، أختي. كان حلمًا قديمًا.”
“حلم قديم؟ عن ماذا كان؟”
ابتسمت سالي بلطف، وساعدت إلويز ببطء على الجلوس وهي تسأل.
وكان الجواب الذي عاد غير متوقع بعض الشيء.
“السير أنسل كان فيه.”
“… “
“حلمت بأنني كنت أسبح في البحيرة معه. أليس ذلك غريبًا؟”
تبع ذلك صمت قصير. وعلى الرغم من قصره، كان كافيًا لتدرك إلويز أنها قالت شيئًا غير ضروري في حالتها نصف النائمة.
“…لقد كان مجرد حلم يا إلسي. ثم إننا لم نسبح ونلعب في البحيرة منذ أكثر من عشر سنوات.”
قالت سالي بنبرة هادئة بينما كانت تساعد إلويز على الجلوس على الكرسي.
“تعالي، دعيني امشط شعرك. إذا نزلتِ بهذا الشكل، ستوبخكِ والدتنا.”
كانت والدتهنّ امرأة صارمة كأي سيدة نبيلة. وكانت شديدة الحرص على مظهر ابنتيها.
لقد كان توبيخ السيدة بيلي عادة دائمة منذ أن كانت ابنتاها طفلتين صغيرتين، لكن الآن، وقد أصبحتا شابتين ناضجتين في الرابعة والعشرين والثانية والعشرين من العمر، فقد بلغ هذا التوبيخ ذروته.
تقليديًا، لم يكن العُزّاب المؤهلون في المملكة يتوانون عن بذل الجهد للعثور على عروس مناسبة. ولذلك، عندما بدأت الأحاديث تنتشر عن جمال فتيات السيدة بيلي، رأت والدتهن أن الوقت قد حان لتكثيف الاهتمام بمظهرهن.
وبالطبع، كانت الابنتان تتقبلان إلحاح والدتهما برضا. فقد كانتا تدركان رغبة والدتهما في تزويجهما من رجال “أثرياء”، “موسرين”، و”مقتدرين” كي يعشن حياة مريحة.
لكن، وقبل كل شيء، كانت الشقيقتان بيلي تُكنّان حبًا عميقًا لأمهما.
“لا يمكننا أن نُغضب جلالتها في الصباح. أرجوكِ، افعلي ذلك.”
أمسكت إلويز يد أختها المستقرة على كتفها وفركت خدها بها، مجيبة بنبرتها المرحة المميزة. سرعان ما أُزيلت قبعة النوم، وتدفق شعرها العسلي الفاخر مثل الأمواج.
“لا أريد الزواج. إلا إذا كان من رجل جميل وطيب مثلكِ، يا أختي.”
“لا تمزحي هكذا أمام أمي. مفهوم؟”
في موسم تهب فيه أنعم وأعطر النسائم، ملأ ضحك الأختين اللطيف الغرفة.
“صباح الخير، سيدة هيرست.”
قالت سالي بلطف وهي تخرج من الغرفة. كانت مدبرة المنزل، التي كانت منشغلة في تنظيف مدخل السلالم، قد شبكت يديها بفرح عند رؤيتها.
“سالي! يا إلهي.”
كان هذا التفاعل المتحمّس، إن صح التعبير، مشهداً صباحياً معتاداً في منزل بيلي.
“لقد عرفتك لأكثر من عشرين سنة، ولكن لا بد أن أقول إنك هذا الصباح تبدين أجمل من أي وقت مضى. انظري فقط إلى رشاقتك الشبيهة بالبجع وشعرك الذهبي! لو أن عريساً مناسباً يأتي فحسب، لكان كل شيء مثالياً.”
“إذا كنتِ تتحدثين عن الخطّاب، فهناك بالفعل الكثير منهم.”
في تلك اللحظة، قاطعتها إلويز التي تبعت سالي نزولاً على الدرج بخطى سريعة.
“لا توجد فتاة أجمل من أختي في كل مايبيري، لا، بل في كل لونجفيلد.”
“…إلا إذا كان شخصًا قادرًا تمامًا على رعاية العائلة، فلن يُقبل. لذا، في الوقت الحالي…”
احمرّ وجه سالي وهي تخفض بصرها محاولة إيقاف إلويز. ضحكت مدبرة المنزل وهي تهز كتفيها الممتلئين.
“بالطبع. سالي لن تتسرع في الزواج. ليس قبل أن يظهر من يرضي معايير السيدة بيلي. بالمناسبة، هل نمتِ جيدًا، إلسي؟ السيدة بيلي بالفعل في الطابق السفلي.”
“حقًا؟ حسنًا، لا يمكنكِ إنكار أمرٍ واحد عن والدتنا؛ فهي بالتأكيد ليست من النوع الذي ينام لوقت متأخر.”
اندفعت إلويز نزولًا على الدرج كالسنجاب الذي عثر على حبة بلوط. وخلفها، كانت تسمع ضحكات سالي والسيدة هيرست.
في الطابق الأول، في وسط طاولة الطعام الجميلة الموضوعة أمام نافذة كبيرة، كان هناك باقة من ورود البرية الطازجة. ففي أوائل الصيف، تتحول مايبري إلى حديقة وردٍ شاسعة، وحول هذا الوقت من كل عام، كانت كل أسرة تتنافس في تزيين طاولاتها بالورود.
كانت السيدة بيلي، مرتديةً فستاناً أنيقاً من الساتان الأخضر، شاردة الذهن مع كوب شاي أمامها. وفجأة، قطع صوت سحب كرسي شرودها.
“صباح الخير، أمي. أين أبي؟”
قامت السيدة بيلي بعناية بتعديل خصلات شعر ابنتها الجانبية. كانت التجعيدات بلون العسل قد تشوشت بسبب الجري على الدرج، لكنها سُرعان ما أصبحت مرتبة بدقة.
“هل هذه هي المرة الأولى التي لا يحضر فيها والدك الإفطار؟ من المحتمل أنه ذهب بعيدًا مرة أخرى، وسيعود متعبًا في وقت متأخر من الليل. سالي، تعالي واجلسي. لنقل دعاء الشكر.”
كالعادة، تلت السيدة بيلي صلاة هادئة،متمنية الصحة والسلامة للعائلة.
فتحت سالي عينيها اللتين تعكسان صفاء سماء الصيف، وتحدثت بصوت رقيق:
” أتمنى أن يعود بأخبار جيدة هذه المرة. “
“آه، يا عزيزتي! لا تذكري الأمر حتى. كل ما أرجوه هو ألا يكون قد تعرّض للخداع مجددًا. لم يتبقَ لدينا ثروة لنخسرها.”
تنهدت السيدة بيلي بعمق، وتوقفت لحظة وهي تنقر البيضة المسلوقة بملعقة فضية.
“كان من الأفضل له أن يبقى في المنزل بدلًا من التجوال بلا هدف.”
“أمي…”
بدأت إلويز بالكلام لكنها سرعان ما مضغت وابتلعت قطعة البطاطا التي كانت تتمتم بها في فمها. عادةً ما تؤدي آداب المائدة السيئة إلى التوبيخ.
“أمي، أنتِ لا تحبين غياب والدي المتكرر عن المنزل، أليس كذلك؟”
“كيف تقولين ذلك بلا مبالاة؟ لو لم يتورط والدك في تلك الاحتيالات، لكنا نعيش براحة الآن!”
أضافت السيدة بيلي بنبرة متذمرة:
“كل ما يمكننا فعله الآن هو الحفاظ على المظاهر. يا له من رجل أحمق.”
كانت كاثرين فيربين، والتي تُعرف الآن باسم السيدة بيلي، ابنة بارونيت، وهو ليس من النبلاء بالمعنى الرسمي، لكنه يُعد جزءًا من الطبقة الأرستقراطية. ومن الطبيعي أنها كانت قادرة على الزواج من أحد النبلاء والعيش كسيدة مرموقة، وقد كانت تطمح إلى ذلك بالفعل…
“لكنّكِ تحبين والدي.”
“… “
أعمَتها مشاعر الحب، فانتهى بها الأمر إلى الزواج من رجل من عامة الناس.
في الحقيقة، بدأت الأمور بسلاسة. فزوجها كان رجل أعمال عصامي، وإنجابها لابنتين جميلتين تحملان عينيه جعلاها تشعر وكأنها لا يمكن أن تكون أكثر سعادة.
أي إلى أن خسر ثروتهم بالكامل.
ولحسن الحظ، كان لديهم عقار قد اشتراه قبل أن يتعرض للاحتيال. ورغم أنه كان قطعة أرض صغيرة، إلا أن الدخل الناتج عنها أنقذهم من الحاجة للعمل لتأمين لقمة العيش.
لكن ذلك كان كل ما لديهم. كانت حياتهم تقتصر فقط على تجنّب بؤس العمل الشاق، مع خادمة واحدة، وطاهٍ واحد، وسائق عربة واحد.
وعلاوة على ذلك، وبسبب القوانين الوطنية التي تشترط بقاء العقارات والقصور ضمن العائلة، كان من المقرر أن تُورَّث ملكية بيلي، لعدم وجود وريث ذكر، إلى قريب بعيد من الذكور
بمعنى آخر، كان مستقبل هذه العائلة يعتمد على زواج الابنتين.
لكن، ولسوء الحظ، لم تكن العائلة، التي بالكاد تحافظ على أسلوب حياتها الحالي، تملك مهرًا يُذكَر.
لقد كانت هذه بالفعل مشكلة كبيرة. ففي سوق الزواج، ما لم يكن المرء من عائلة نبيلة، فإن الوسيلة الوحيدة لصيد “سمكة كبيرة” هي مهرٌ كبير. ولهذا كان السيد بيلي، الذي خسر ثروته في عملية احتيال، لا يكلّ عن البحث عن فرص جديدة دون أن يترك مجالًا لليأس.
“أمي، لطالما قلتِ إنكِ لا تندمين على زواجكِ من أبي.”
ردّت السيدة بيلي دون تردد على إلويز، التي تمتمت بذلك وهي تكسر بيضة.
“بالطبع. أنتما كنزيّ.”
“…لا تقلقي كثيرًا، يا أمي.”
شربت سالي بهدوء من كأس الماء، وكانت نبرتها رقيقة لكنها حازمة بشكل غريب، كنسمة هشّة.
“سأحاول بجدية أكبر أن أجد زوج مناسب.”
“آه، يا ابنتي العزيزة.”
وكما توقعت السيدة بيلي، عاد السيد بيلي إلى المنزل بعد غروب الشمس بفترة طويلة. وبالطبع، بدا أنه لم يحقق شيئًا يُذكر من مساعيه.
ومرّ المساء بأجوائه المألوفة، دافئًا بلمّ شمل الأب بابنتيه، وتوبيخ الأم المليء بالمحبة.
حلّ الليل في النهاية، واستلقت الأختان، وقد ارتدتا قمصان النوم البيضاء، في غرفتهما المضاءة بضوء القمر في الطابق الثاني، كما تفعلان دائمًا.
ومع ذلك، حتى بعد أن قبّلتها أختها قبلة لطيفة وعادت إلى سريرها في الجانب الآخر من الغرفة، لم تستطع إلويز أن تغفو لفترة طويلة.
‘لقد كان يومًا عاديًا بالتأكيد.’
نعم، الفرق الوحيد كان ذلك الحلم.
“أأنتِ مستيقظة، أختي؟”
همست بصوت خافت، لكن لم يأتِها أي رد. تمتمت إلويز وهي تتقلب في فراشها.
“تعلمين، الحلم الذي ذكرته هذا الصباح، لم يكن في الحقيقة شيئًا مهمًا. قلت شيئًا سخيفًا فقط وأنا نائمة.”
“…همم، لقد نسيتُ أمره بالفعل.”
رمشت عينا إلويز بدهشة من الرد غير المتوقع القادم من الظلام. لكنها سرعان ما سمعت صوت تنفّس أختها المنتظم، فأغمضت عينيها مجددًا. بدا أنه مجرد حديث أثناء النوم.
“سالي، في الواقع… كنت أعلم.”
هذه المرة، لم يأتِ أي رد على الإطلاق. تنهدت إلويس تنهيدة خفيفة.
“كنت أعلم أنكِ تحبين السير أنسل. وربما ما زلتِ تحبينه.
لكن يا أختي…
أنا أيضًا أحبه.
هل يمكنكِ حقًا الزواج بشخصٍ آخر من أجل العائلة؟ أنا…”
“أختي، ماذا يجب أن أفعل؟”
امتزج صوت تنفّس سالي الهادئ، وهي نائمة بسلام، مع الأصوات الخافتة لحشرات ليلة الصيف.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"