4
الفـصل الرابـع
جلست ليلي في الصالون الصغير المطل على الحديقة الداخلية، ضوء الصباح الناعم يتسلل عبر الستائر الحريرية البيضاء كأنه يتردد قبل أن يلمس الأرضية الرخامية الباردة قليلاً.
فنجان القهوة الساخن بين يديها الرقيقتين، يفوح برائحة خفيفة ممزوجة بالهيل والقرفة الدافئة التي تعودت عليها منذ سنوات طويلة، رائحة تجعل الغرفة تشعر بدفء خفيف رغم برودة الصباح.
كانت تتصفح صحيفة الصباح ببطء شديد، عيناها البنفسجيتان تتجولان بين الأخبار الاجتماعية، الدعوات الجديدة، والأسماء النبيلة التي تتكرر في هذه الصفحات كجزء من روتين يومي لا يتغير.
الدعوة لحفلة الشاي عند الدوقة إيفريا دي آلونت كانت بارزة، مطبوعة بحبر ذهبي أنيق يلمع بلطف تحت الضوء المتسلل من النافذة، ظرفها لا يزال موضوعًا بجانب الفنجان كتذكير هادئ.
شربت رشفة صغيرة، القهوة دافئة على لسانها، لكنها لم تشعر بالراحة الكاملة اليوم، كأن شيء خفيف يثقل صدرها دون سبب واضح.
وضعت الفنجان بهدوء، ونظرت إلى الحديقة خارج النافذة، الأزهار تتمايل بلطف مع نسمة خفيفة، والندى لا يزال يلمع على الأوراق الخضراء.
سمعت خطوات خفيفة في الممر الطويل المغطى بسجاد أحمر ناعم.
دخلت ماتيلدا تحمل صينية صغيرة عليها كعكات طازجة مغطاة بطبقة سكر ناعمة كالثلج المتساقط، ورائحتها الحلوة تملأ الغرفة بلطف يذكرها بأيام هادئة سابقة.
وقفت ماتيلدا لحظة عند الباب، زيها الأسود والأبيض يتحرك بلطف مع حركتها الهادئة، شعرها البني مربوط بربطة بسيطة لا تبرز كثيرًا.
“صباح الخير، سيدتي.”
قالت ماتيلدا بصوت منخفض كنسيم الصباح الذي يمر بين الأوراق، ووضعت الصينية على الطاولة الرخامية بجانب الصحيفة دون أن تصدر أي صوت يزعج الصمت.
“صباح الخير، ماتيلدا. سنذهب اليوم إلى حفلة الشاي عند الدوقة إيفريا دي آلونت، فاستعدي لتصاحبيني.”
ابتسمت ليلي ابتسامة خفيفة، وأغلقت الصحيفة بهدوء، طوتها بعناية ووضعتها جانبًا.
رفعت ماتيلدا عينيها العسليتين ببطء، وهزت رأسها بطاعة هادئة، ابتسامة صغيرة مرت على شفتيها ثم اختفت بهدوء.
“سأساعدك في الاستعداد فورًا، سيدتي، إن أردتِ أن نبدأ الآن.”
نهضت ليلي ببطء واتجهت إلى غرفة الملابس الواسعة، حيث الخزانة مليئة بفساتين تتراقص ألوانها تحت ضوء المصباح الخافت الذي يعكس بريقًا ذهبيًا خفيفًا على الأقمشة الناعمة.
اختارت الفستان الذي أعجبها منذ أيام طويلة، ذلك الذي يجمع بين الرقة والأناقة دون مبالغة واضحة.
بلوزة بيضاء شفافة ذات كمين طويلين منفوشين قليلاً عند الأكمام، ياقة عالية مزينة بكشكشة دانتيل رقيقة كأجنحة فراشة بيضاء ترفرف في الهواء الهادئ.
تنورة رمادية فاتحة مزخرفة بطبعات زهور باهتة كالذكريات في صباح مشمس بعيد، طبقات من الشيفون الخفيف تتدفق كنهر هادئ يلمع بلمعان خفيف تحت أي ضوء يسقط عليه.
أزرار لؤلؤ صغيرة تزين الخصر كنجوم صغيرة متناثرة، وزهرة فضية رقيقة مثبتة عند الصدر كقطرة ندى لامعة على وردة بيضاء ناعمة.
ارتدته ببطء شديد، القماش يلامس بشرتها كنسيم بارد لطيف يحمل رائحة الورد الخفيفة واللافندر المنعش الذي رشت به نفسها قبل قليل.
وقفت أمام المرآة الكبيرة المزخرفة بإطار ذهبي قديم، تدور بخفة لترى كيف يتحرك الفستان معها، الطبقات تتراقص كموج بحر هادئ في يوم صافٍ بدون ريح قوية.
شعرها الفضي منسدل كشلال من ضوء القمر النقي، يتناغم تمامًا مع لون الفستان الهادئ الذي يعكس بريقًا خفيفًا يجعلها تشعر بأناقة مريحة.
أكملتا الاستعدادات بهدوء طويل، إكسسوارات بسيطة لا تثقل المظهر، قفازات بيضاء رقيقة كالثلج الجديد، ومروحة يدوية مزخرفة بتطريز زهور فضية صغيرة تتحرك بلطف عند فتحها.
خرجتا من القصر معًا أخيرًا، الهواء الصباحي بارد قليلاً يحمل رائحة الندى والأزهار اليانعة في الحديقة الكبيرة التي تحيط بالمبنى من كل جانب.
العربة الفاخرة تنتظرهما أمام البوابة الرئيسية، مطلية بلون بني داكن يلمع تحت شمس الصباح الدافئة تدريجيًا، الخيول تقف بهدوء تنتظر الإشارة من السائق الواقف بجانبها.
صعدتا ببطء، جلست ليلي بجانب النافذة لترى المنظر، وماتيلدا بجانبها صامتة كعادتها، وتحركت العربة عبر الطريق الريفي الطويل بهدوء يتخلله صوت العجلات على التراب الناعم.
الأشجار العالية تتراقص على الجانبين مع نسمة خفيفة تحمل رائحة العشب الندي والتراب الرطب، والسماء زرقاء هادئة بدون سحابة واحدة تُعكر صفاءها.
كانت ليلي تشعر براحة مؤقتة في البداية، تحدق في المناظر المألوفة منذ الطفولة، التلال البعيدة والمباني النبيلة المنتشرة كجواهر لامعة في أرض خضراء واسعة تمتد إلى الأفق البعيد.
لكن بعد دقائق طويلة من السير الهادئ، بدأت تلاحظ شيئًا غريبًا يتسلل إلى عينيها ببطء.
بعض المباني البعيدة، تلك القصور الصغيرة التي كانت تراها دائمًا على التلال الخضراء منذ كانت طفلة، لم تكن موجودة اليوم.
الفراغ يملأ المكان بهدوء، عشب أخضر فقط يغطي الأرض حيث كانت تقف أبراج حجرية قديمة وحدائق مزهرة كانت تتذكرها بوضوح في كل رحلة سابقة.
رمشت عينيها مرتين ببطء، نظرت مرة أخرى بعناية، لكن الفراغ بقي واضحًا تمامًا، كأن شيئًا ما تغير دون أن تلاحظ متى بالضبط.
ثم، بين المباني المتبقية التي لا تزال تقف شامخة كما كانت، في مكان جديد تمامًا بين أشجار كثيفة وتلة صغيرة، رأت اللوحة بهدوء.
اللوحة نفسها، مستندة إلى جدار حجري قديم مغطى باللبلاب الأخضر المتسلل، المرأة ذات الشعر الفضي والعينين البنفسجيتين تنظر إليها مباشرة.
الإطار الخشبي مغطى بغبار خفيف وأوراق متساقطة صفراء، كأنها انتقلت إلى هناك بهدوء.
العربة تبتعد ببطء، واللوحة تختفي تدريجيًا خلف الأشجار الكثيفة، لكن صورتها بقيت في ذهن ليلي لوقت طويل.
وصلتا أخيرًا إلى قصر الدوقة إيفريا دي آلونت بعد ساعة طويلة من السير الهادئ، بناء فخم بأعمدة بيضاء عالية كالأعمدة في قصر قديم، وحدائق مزهرة تمتد كسجاد من حرير أخضر مرصع بأزهار ملونة تتمايل بلطف مع النسيم.
نزلت ليلي بخطوات أنيقة بطيئة، الفستان يتحرك معها بلطف كموج رقيق في بحر هادئ، وماتيلدا خلفها بخطوات هادئة كظل وفي لا يفارق صاحبه أبدًا.
دخلتا البهو الكبير الفسيح بهدوء، رائحة الشاي الطازج والحلويات الرقيقة تملأ الهواء ببطء، مختلطة بعطر الورد المنتشر في كل زاوية من المزهريات الكريستالية اللامعة تحت ضوء الشمس.
نبيلات كثيرات مجتمعات حول الطاولات المزينة بأطباق خزفية بيضاء مزخرفة بدقة، فساتينهن الملونة تلمع كألوان قوس قزح في ضوء الشمس المتسلل من النوافذ العالية المزينة بستائر حريرية رقيقة.
تحيات مهذبة تبادلت ببطء، ابتسامات رقيقة تخفي وراءها نظرات فاحصة طويلة، والدوقة إيفريا ترحب بليلي بحرارة معتادة، تدعوها للجلوس بجانبها على الطاولة الرئيسية.
ليلي سمعت الهمسات تتسلل من خلف المراوح اليدوية المزخرفة بتطريز ذهبي ناعم، همسات خفيفة لكنها تصل إلى أذنيها بوضوح في الصمت النسبي.
“من تلك الخادمة الواقفة مع الكونتيسة ليلي؟ لم أرها من قبل أبدًا في أي حفلة أو سوق أو حتى في المدينة.”
“قصر آل روزنت يوظفون أي أحد الآن؟ غريب جدًا، خاصة بعد كل ما مرت به العائلة منذ سنوات.”
“والدها الكونت روزنت كان نبيلًا حقيقيًا، غنيًا جدًا بثروة عائلية قديمة متراكمة عبر أجيال، توفي هو وزوجته في ذلك الحادث المشبوه بعربة على الطريق الجبلي الضيق.”
“نعم، حادث لا يزال غامضًا حتى اليوم، لا أحد يعرف الحقيقة الكاملة، وتركا ليلي الوريثة الوحيدة في قصر كبير، كيف يقبلون خادمة مجهولة الماضي بهذه السهولة؟”
الكلمات تتسلل ببطء، تجعل ليلي تشعر بتوتر خفيف يتسلل إلى صدرها رغم ابتسامتها الثابتة والمهذبة، فنجان الشاي بين يديها يدفئ أصابعها لكنها لا تشرب منه فورًا.
جلست مع الدوقة والنبيلات حول طاولة كبيرة مزينة بأكواب شاي رقيقة وأطباق حلويات مزخرفة بكريمة بيضاء ناعمة، تتحدث عن أمور سطحية كالطقس والفساتين الجديدة والحدائق الجديدة في القصور المجاورة.
الدوقة إيفريا تبتسم بلطف، تسأل ليلي عن صحتها وعن القصر، والنبيلات الأخريات يضفن كلمات مهذبة، لكن الهمسات لا تتوقف تمامًا من الطاولات المجاورة.
ليلي تبتسم وتجيب بهدوء، لكن عيناها تتجولان أحيانًا نحو ماتيلدا الواقفة بجانب الخادمات الأخريات في الركن البعيد، صامتة وهادئة، يداها معقودتان أمامها باحترام.
الوقت يمر ببطء في الحفلة، الشاي يُصب مرة أخرى، الحلويات تُقدم في أطباق جديدة، والحديث يدور حول مواضيع خفيفة كالأزهار في الحدائق أو الدعوات القادمة.
فجأة، بعد وقت طويل من الانتظار الهادئ بين الخادمات.
اقتربت خادمة شابة من مجموعة الخادمات، ملامحها مألوفة قليلاً لليلي من حفلات سابقة بعيدة، عيناها واسعتان بدهشة حقيقية واضحة كأنها رأت وجهًا من الماضي.
الخادمة تقترب ببطء، تحمل صينية فارغة، وتتوقف أمام ماتيلدا، صوتها منخفض لكن مسموع في الصمت النسبي بين الخادمات.
“ماتيلدا؟ هل أنتِ حقًا هنا؟ كنتِ معي في المدرسة… أ- أو الحي، أتذكر وجهك بوضوح، واسمك، وكيف كنا نتحدث دائمًا عن…”
توقفت الخادمة فجأة وببطء، كأن كلمة عالقة في حلقها فجأة، عيناها تتسعان أكثر ووجهها يشحب كورقة بيضاء تحت ضوء الشمس المتسلل من النافذة القريبة.
تراجعت خطوة إلى الوراء بهدوء، تهز رأسها بخفة كأنها تستيقظ من ذكرى غير مريحة، يداها ترتجفان قليلاً على الصينية.
“لا… آسفة جدًا، أخطأت الشخص تمامًا، سامحيني.”
عادت الخادمة إلى مكانها بين الخادمات الأخريات بسرعة خفيفة، تاركة ماتيلدا واقفة صامتة تمامًا، عيناها العسليتان تحملان بريقًا خفيفًا لم تلاحظه ليلي من بعيد.
ليلي سمعت الكلمات كلها من بعيد، قلبها يدق بخفة أكبر الآن، والشاي في فنجانها يبرد دون أن تلاحظ، والحفلة تستمر حولها بهدوء مع ضحكات خفيفة وحديث مهذب.
الدوقة تسأل عن رأيها في نوع شاي جديد، والنبيلات يضفن تعليقات رقيقة، لكن ليلي تجد صعوبة في التركيز تمامًا.
الوقت يمر ببطء أكثر، الحلويات تُقدم مرة أخرى، والمراوح تتحرك بأناقة في الهواء الدافئ، والشمس تتحرك في السماء خارج النوافذ.
ليلي تنظر أحيانًا نحو ماتيلدا، الفتاة لا تزال واقفة صامتة، لكن شيء ما في وقفتها بدا مختلفًا قليلاً اليوم.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
معكم المؤلفة أليرا
بخصوص نظريات الفصل سابق
جذبتني كل نظرياتكم ، نبدا بنظرية خبزة عن ان ماتيلدا جاي من مستقبل ، جد جذبني كيف خرجت برا صندوق جد ، اعتقد الي خلاكي تفسري احداث بذي طريقة أن كل حاسها غريبة
نظرية مياولي وروز ان يمكن هي متجسدة ، عجبني تفسير فهو غالبا يتكون لما يحس قراء ما تنتمي كليا للعالم ، وذا من عدة مواقف زي نظراتهم لها ف شارع
نظرية سينامون، انها قديسة ، صراحةً فكرت كثير لأن ما قدرت احدد من اي سطر او جملة قدرت تبني هذه نظرية ، فضولية ل كيفبة تفكيرك ل هذه نظرية ، عموما ربما هنا لأن ماتيلدا لطيفة وعفوية ، رغم اشياء مريبة من حولها
و ربما حقيقة مش ف ذي نظريات ، او فيها؟
تلميح ، ليه الكل يعتقد ماتيلدا الوحيدة غريبه؟ مش أحد اخر…؟
Chapters
Comments
- 4 - حَـفلة الشَـاي منذ 8 ساعات
- 3 - سجِـلات منذ 16 ساعة
- 2 - الزِي الجَـديد منذ يوم واحد
- 1 - وراءَ الـلوحَة منذ يومين
التعليقات لهذا الفصل " 4"
احا كيف؟واذا مو ماتيلدا الغريبة
لكا الكل بالعالم هو الغريب؟ لا لحظة وتتت