3
الفصـل الثـالث
استيقظت ليلي في الصباح التالي، وكان الضوء ينساب عبر الستائر ببطء أكثر من المعتاد، كأن الشمس مترددة في إعلان يوم جديد.
لم تكن قد نامت جيدًا، فالليلة الماضية كانت مليئة بأفكار تتدفق وتتراجع، تحمل معها صورًا من السوق.
اللوحة المستندة إلى الجدار المهجور، الورقة التي سقطت فجأة من جيبها.
ونظرات الناس التي لم تكن مجرد فضول عابر بل شيئًا أعمق، أشبه بمحاولة تذكّر وجه مفقود.
نهضت ببطء من السرير الواسع، والأغطية الحريرية البيضاء لا تزال تحتفظ بدفء جسدها الخفيف.
مررت يدها عبر شعرها الفضي الطويل، الذي انزلق بين أصابعها كنهر بارد يتدفق في صمت.
وقفت أمام النافذة الكبيرة، فتحت الستار قليلاً فقط، ونظرت إلى الحديقة الخارجية حيث كانت الأشجار تتحرك بخفة مع نسمة الصباح الرطبة.
الندى يلمع على الأوراق الخضراء كجواهر صغيرة متناثرة تحت ضوء خجول لا يزال رماديًا.
القصر كان هادئًا كعادته في هذه الساعة المبكرة، لكن الهدوء اليوم بدا مختلفًا، أثقل قليلاً، كأن الجدران السميكة تحمل سرًا جديدًا بدأ يتسرب من شقوق غير مرئية.
تذكرت فورًا الفراغ على الجدار في البهو الكبير، ذلك المكان النظيف تمامًا حيث كانت اللوحة معلقة منذ سنوات طويلة، لوحة المرأة ذات العينين البنفسجيتين التي تشبهها إلى درجة مزعجة.
كيف اختفت اللوحة بهدوء تام، دون أن يلاحظ أحد؟
وكيف ظهرت نسختها – أو ربما هي نفسها – في ذلك الزقاق الجانبي بالسوق، مغطاة بغبار خفيف كأنها تنتظر هناك منذ زمن؟
الفكرة بدت سخيفة في ضوء النهار، لكنها تشبثت بعقل ليلي ولم تتركها، تتكرر كصدى خافت في غرفة فارغة.
ارتدت ثوب الصباح البسيط، قماش كريمي ناعم يلف جسدها بلطف ويمنحها شعورًا بالراحة المؤقتة.
نزلت الدرج ببطء، خطواتها تتردد على الخشب اللامع في الممر الطويل، ووصلت إلى الصالون الصغير المطل على الشرفة الداخلية حيث تنتظرها عادتها اليومية.
كان الفنجان موضوعًا بالفعل على الطاولة الرخامية، والقهوة تفوح برائحتها الخفيفة الممزوجة بقليل من الهيل، لكن ليلي جلست دون أن تمد يدها إليه فورًا، عيناها تتجولان في الغرفة كأنها تبحث عن تغيير غير مرئي.
رفعت بصرها حين سمعت خطوات خفيفة في الممر، فدخلت ماتيلدا تحمل صينية صغيرة عليها خبز طازج مقطع بعناية وفاكهة مرتبة بألوان زاهية.
كانت ماتيلدا ترتدي الزي الجديد الذي اختارتاه معًا أمس، أسود وأبيض نظيف يبرز قامتها النحيلة، والقماش يتحرك معها بخفة دون صوت.
شعرها البني مربوط بربطة بسيطة صغيرة، ووقفت لحظة عند الباب كأنها تنتظر إشارة خفية، ملامحها هادئة كالعادة لكن في عينيها العسليتين بريق غامض لم تلاحظه ليلي من قبل بهذه الوضوح.
“صباح الخير، ماتيلدا”، قالت ليلي بهدوء مصطنع، محاولة أن تبدو طبيعية رغم التوتر الذي يعصف داخل صدرها منذ الاستيقاظ.
“صباح الخير، سيدتي”، ردت ماتيلدا بصوت منخفض وناعم.
ثم اقتربت لوضع الصينية على الطاولة بحركة دقيقة لا تخلو من ثقة غريبة.
وقفت بجانبها لحظة، عيناها تنظران إلى الأرض باحترام، لكن ليلي لاحظت أن يديها لا ترتجفان كما يجب لخادمة جديدة في قصر كبير.
شربت ليلي رشفة صغيرة من القهوة، ساخنة ومريحة كعادتها، لكن الطعم بدا مختلفًا قليلاً اليوم، أكثر مرارة ربما، أو ربما هي التي تغيرت وأصبحت تلاحظ كل تفصيل صغير.
“كيف نمتِ الليلة؟” سألت أخيرًا، محاولة كسر الصمت الذي بدأ يثقل الغرفة تدريجيًا.
من غريب لليلي التقرب من خادمة جديدة بهذه سرعة ، فرغم لطافتها فهي تميل للإنطوائية .
“جيدًا… شكرًا لسؤالك”، أجابت ماتيلدا، رافعة عينيها قليلاً، ومرت ابتسامة صغيرة جدًا على شفتيها ثم اختفت بسرعة كأنها لم تكن.
بدت ماتيلدا بريئة تمامًا في تلك اللحظة، هادئة ومطيعة، لكن ليلي لم تستطع تجاهل ذلك الشيء الغامض في حركاتها.
“أمس في السوق… كان يومًا غريبًا، أليس كذلك؟” بدأت ليلي، صوتها هادئ لكن فيه لمسة تردد خفيفة.
رفعت ماتيلدا عينيها نحوها، ثابتتان وعميقتان كبحيرة ساكنة.
“غريبًا… نعم، سيدتي”، قالت بهمس خفيف.
“الناس كانوا ينظرون كثيرًا، كأنهم يحاولون تذكر شيء…”
تجمدت ليلي لثانية واحدة، فكلمات ماتيلدا كانت تعكس بالضبط ما شعرت به هي أيضًا في السوق، تلك النظرات الاستغرابية التي لم تكن موجهة لها وحدها بل للفتاة الواقفة بجانبها.
“ربما لأنكِ جديدة في المدينة”، قالت ليلي محاولة تبرير الأمر بسرعة، لكن صوتها لم يكن مقنعًا حتى لأذنيها هي.
هزت ماتيلدا رأسها بخفة، حركة بسيطة لكنها حملت معنى أعمق.
“ليس فقط إليّ… بل إليكِ أيضًا، خاصة بعد أن رأينا اللوحة في الزقاق، التي كانت فالقصر ، فالجدار شرقي اعتقد؟.”
ابتلعت ليلي ريقها بصعوبة، فكيف تعرف ماتيلدا كل هذه التفاصيل بدقة؟
“ماتيلدا… هل سبق لكِ أن رأيتِ تلك اللوحة من قبل، في مكان آخر غير السوق؟” سألت ليلي، صوتها أكثر جدية الآن.
ترددت الفتاة لحظة قصيرة، عيناها تتحركان ببطء كأنها تبحث عن إجابة في ذاكرة غائمة مليئة بضباب.
“لا أعرف بالضبط… لكنها تبدو مألوفة، كأنها جزء من حلم قديم.”
غادرت ماتيلدا الغرفة بعد دقائق قليلة، تاركة ليلي وحدها مع أفكارها التي بدأت تتسارع تدريجيًا.
جلست ليلي صامتة، تحدق في الفنجان دون أن تشرب المزيد، والورقة لا تزال في جيب ثوبها قريبة من صدرها، تثقلها بكلماتها القليلة.
“البند الثامن والثمانون”
همست لنفسها بصوت بالكاد يُسمع، ثم التفتت نحو النافذة مرة أخرى كأنها تبحث عن إجابة في الحديقة الهادئة.
في منتصف الصباح تقريبًا، قررت ليلي أن تعود إلى السوق وحدها هذه المرة، أو ربما مع ماتيلدا إن لزم الأمر، لترى إن كانت اللوحة لا تزال في الزقاق ولتسأل التاجرة عن كلماتها الغامضة أمس.
استدعت ماتيلدا مرة أخرى، وخرجتا معًا نحو العربة التي كانت تنتظرهما أمام البوابة الرئيسية، السائق يقف بجانبها بهدوء معتاد.
تحركت العربة تدريجيًا عبر الطريق الطويل المحاط بالأشجار العالية، والضوء اليوم أقوى من أمس، يرسم ظلالاً حادة على الأرض الترابية ويخترق الستائر الجانبية بين الحين والآخر.
جلست ليلي بجانب النافذة، تحدق في المناظر الخارجية دون أن ترى تفاصيلها حقًا، بينما ماتيلدا صامتة إلى جانبها، يداها معقودتان في حجرها بهدوء غريب.
“سنعود إلى المتجر نفسه اليوم”
قالت ليلي أخيرًا، كسرت الصمت الذي كان يثقل داخل العربة.
“أريد أن أتأكد من شيء قالته التاجرة أمس، وأنظر أيضًا في الزقاق.”
هزت ماتيلدا رأسها دون تعليق كبير، لكن عينيها العسليتان كانتا تحملان ذلك الشعور بالانتظار نفسه الذي لاحظته ليلي منذ الصباح.
وصلتا إلى أطراف السوق بعد وقت قصير، والضجيج يرتفع تدريجيًا كما في اليوم السابق، روائح الخبز الساخن والتوابل الحارة تملأ الهواء الدافئ، مختلطة برائحة التراب والعرق من الزحام.
لكن النظرات عادت فور نزولهما من العربة، أكثر وضوحًا هذه المرة، كأن الناس في السوق بدأوا يتعرفون عليهما الآن، يلتفتون ويهمسون بصوت منخفض.
مشيت ليلي بخطوات ثابتة، ممسكة بيد ماتيلدا بخفة خوفًا من أن تضيع وسط الزحام، واتجهتا مباشرة نحو متجر “أرلين” ذي الواجهة الخشبية الجميلة.
رن الجرس المعلق عند الباب بنغمته اللطيفة المعتادة عند دخولهما، والمكان دافئ ومرتب كما كان أمس، الأقمشة معلقة بحسب الألوان والأنواع.
خرجت التاجرة من الركن الخلفي، نفس المرأة في الخمسينات ذات النظارات الدائرية، وابتسامتها المهنية تتلاشى قليلاً حين رأت ماتيلدا مرة أخرى.
“أهلاً بكما مرة أخرى، آنستي”، قالت بحذر واضح في صوتها.
“هل عدتما لشراء شيء إضافي، أم هناك أمر آخر؟”
اقتربت ليلي خطوة، صوتها هادئ لكن حازم أكثر من أمس.
“أمس سألتِ عن مدرسة التدريب التي جاءت منها خادمتي، وقلتِ شيئًا عن السجلات. أريد أن أعرف المزيد.”
ترددت التاجرة لحظة، تنظر إلى ماتيلدا ثم تعود إلى ليلي، كأنها تزن كلماتها بعناية.
“غريب… فقط غريب جدًا”، قالت أخيرًا، صوتها منخفض كأنها تخاف أن يسمعها أحد.
“لا تظهر هذه الفتاة في أي سجل من سجلات مدارس الخادمات التي أعرفها، وأنا أعرف معظمها في العاصمة والمناطق المجاورة.”
“وسجلاتكِ تشمل الجميع بالتأكيد؟” سألت ليلي، قلبها يدق بقوة أكبر الآن.
هزت التاجرة رأسها ببطء.
“ليس الجميع بالضبط، لكن معظم الخادمات المحترفات يمررن من هنا أو من أماكن مشابهة، ويُسجلن أسماؤهن وتاريخ تدريبهن. لكن ماتيلدا… لا أثر لها، لا اسم، لا تاريخ، لا مدرسة معروفة.”
نظرت ليلي إلى ماتيلدا، التي كانت واقفة صامتة تمامًا، عيناها على الأرض كأنها لا تسمع أو لا تهتم.
“ربما لم تتدرب في مدرسة رسمية كبيرة”، قالت ليلي، محاولة الحفاظ على هدوئها رغم القلق الذي بدأ يتسلل إلى صدرها.
“حتى اللواتي يتعلمن في قصور صغيرة أو عائلات خاصة، يُسجلن عادة”، ردت التاجرة، ثم اقتربت خطوة كأنها تشارك سرًا.
“هذا غريب جدًا… كأنها ظهرت فجأة، دون ماضٍ واضح.”
غادرتا المتجر بعد دقائق قليلة، والكلمات تتردد في ذهن ليلي كصدى مزعج.
لا تظهر في السجلات.
كأن ماتيلدا لم تكن موجودة أبدًا قبل أن تصل إلى قصر آل روزنت.
في الطريق العودة، مرتا بالزقاق الجانبي نفسه، واللوحة كانت لا تزال مستندة إلى الجدار، مغطاة بغبار أكثر الآن، لكن الوجه يبدو حيًا أكثر تحت ضوء الشمس القوي.
توقفت ليلي لحظة، تحدق في العينين البنفسجيتين التي تبدوان تنظران إليها مباشرة.
“ماتيلدا… هل تشعرين أن هذه اللوحة لم تكن معلقة فالجدار فحسب، بل في ذكرياتنا..؟ ، لا عليكِ يبدو أنني اصبحت اهلوس”
رفعت ماتيلدا عينيها ببطء، وابتسمت ابتسامة صغيرة متوترة.
“نعم… كأنها تنتظر شيئًا سيحدث قريبًا.”
ركبتا العربة مرة أخرى، وابتعدتا عن السوق، لكن ليلي كانت تعرف الآن أن الشقوق في عالمها أصبحت أوسع، والغموض يتسع يومًا بعد يوم، وهي في الوسط، تحاول فهم ما يجري قبل أن ينهار كل شيء جميل كان يحيط بها.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
هايـي معكم المؤلفة أليرا
اصبروا شوي على غموض لحد ما الاقي طريقة مناسبه ل اكشف كل شيء بشويش ، لسه بدرس طريقة سرد والقاء مشوقة وحلوة ، بالمناسبه شاركوني نظرياتكم فتعليقات فصل ، بناقشها الفصل الجاي
دمتم بخير~
Chapters
Comments
- 3 - سجِـلات منذ 6 ساعات
- 2 - الزِي الجَـديد منذ 24 ساعة
- 1 - وراءَ الـلوحَة منذ يوم واحد
التعليقات لهذا الفصل " 3"
زاد فضولي اكتر😭
احس ماتيلدا جاي من المستقبل (مو راجعة بالزمن لا بس هي اجت من المستقبل للزمن الحالي)