1
الفصـل الأَول
لم تكن الكونتيسة ليلي من النساء اللواتي يستيقظن بسهولة، لكن تلك الليلة لم تمنحها النوم.
لم يكن السبب كابوسًا، ولا ألمًا، ولا حتى فكرة ثقيلة.
كان شيئًا آخر…
شعور حاد يتسلل عبر صدرها، كأن أحدًا يناديها من مكان بعيد، بعيد جدًا، ومع ذلك حاضر بالقرب.
فتحت عينيها.
الظلام يملأ الغرفة الواسعة.
لم يتحرك شيء.
حتى الستائر الثقيلة كانت ساكنة، لا تذكر بأن خلفها رياحًا وبرودة.
ورغم ذلك، شعرت بيقين خفي أن الغرفة ليست كما تركتها حين نامت.
جلست ببطء.
شعرها الأبيض الطويل انزلق على كتفيها، مضيئًا كشرارة باهتة وسط الظلام.
مرّرت يدها عبره، محاولة طرد الانزعاج.
لكنه لم ينطفئ.
نهضت من سريرها بخطوات هادئة.
لم تشعل الشموع.
لم تحتج إليها.
عينان بنفسجيتان قادرتان على النظر عبر كل ما هو معتم.
عبرت الغرفة كمن يعرف الطريق حتى في الظلام.
لكنها توقفت فور أن وصلت إلى الجدار الشرقي.
ذلك الجدار…
ذلك الذي لم تشك يومًا أنه يخفي أكثر مما يظهر.
رفعت أنظارها نحو اللوحة المعلقة هناك.
لوحة ضخمة، قديمة، تصور امرأة تجلس وسط ضباب رمادي، بشرة شاحبة، وعينان… عينان تشبهان عيني ليلي لدرجة مزعجة.
وقفت لبرهة، تتأمل الوجه الذي يطل عليها من عالم آخر.
لم تكن خائفة.
لكن شعورًا بالتوتر الصغير اجتاحها، التوتر الذي يسبق انكشاف حقيقة ما.
مدّت يدها لتعدّل طرف الإطار.
‘ربما انزاح قليلًا.’
ربما… مجرد عملية بسيطة.
لكن ما إن لمست الخشب، حتى انفتح الإطار من الخلف بصوت خافت.
كأن اللوحة تنفّس بعد زمن طويل.
تجمدت.
لم تفعل شيئًا.
ثم انحنت ببطء.
ورقة.
قديمة، بنية الحواف، مطوية بعناية غير مريحة.
التقطتها.
رائحتها… رطوبة، عتمة، مسّ خفيف لشيء لا يجب أن يُمسّ.
فتحتها.
خطّ مرتجف، غير متوازن، لا يشبه أي كتابة عائلية قرأتها طوال حياتها.
كأن اليد التي كتبت النص كانت تهرب من شيء، أو تكتب بسرعة قبل أن يُقبض عليها.
قرأت بصوت بالكاد يُسمع:
“البند الثامن والثمانون:
عند ظهور البطلة الحقيقية…
لا تتصرفي.
لا تثقي.
لا تقتربي.
فالعالم لا يحتوي إلا على واحدة…
وما زال هناك دخيلة أخرى بين السطور.”
رفعت ليلي رأسها ببطء.
العتمة ازدادت عمقًا حولها.
والغرفة — التي تعرف كل زاوية فيها — بدت للحظة وكأنها تتنفس بطريقة أخرى.
طوت الورقة، وأدركت أن هذا ليس شيئًا يُفسَّر في لحظته.
ليس شيئًا يُفسَّر بسهولة أصلًا.
خطت نحو النافذة، وفتحت الستار ببطء.
ضوء الفجر الأول بدأ يلمس أطراف الحديقة.
ومع الضوء… انتبهت لظل يتحرك في الأسفل، عند الممر الحجري المؤدي للحدائق الجانبية.
خادمة.
ترتّب السلال الصغيرة التي تُحضَّر عادةً لإفطار الموظفين.
لكن… لم تكن واحدة من خادماتها المعتادات.
كانت جديدة.
ظلت ليلي تراقبها للحظة.
شعر الخادمة البني مربوط بإحكام.
ظهرها مستقيم، خطواتها ثابتة وواثقة بطريقة لا تناسب خادمة مبتدئة.
كان في حركاتها شيء حاد، دقيق، كأنها تعرف المكان مسبقًا.
‘ماتيلدا؟’
الاسم ظهر في ذهن ليلي فجأة.
دون مقدمات.
رغم أنها تعرف أنها لم تقابل الخادمة من قبل.
ماتيلدا.
اسم يتردد في ذهنها كأنه قادم من ذاكرة ليست لها.
ابتعدت عن النافذة، وأغلقت الستار.
لم يكن يناسب كونتيسة أن تقف متجمدة هكذا في الظلام.
لكن الورقة في يدها…
الورقة التي ظهرت خلف اللوحة التي لم تُحرَّك منذ سنوات…
والاسم الذي انبثق في عقلها…
كل ذلك كأنه خيط واحد، بدأ يشدّ شيئًا كانت تظن أنه غير موجود أصلًا.
وقفت وسط الغرفة، وفي ذهنها سؤال واحد:
‘ماذا يعني أن يكون هناك “بطلة حقيقية”؟’
‘ولماذا يجب ألا تقترب منها؟’
والأغرب…
‘من هي “الدخيلة بين السطور”؟’
بعد ساعة، ارتدت ليلي ثوب الصباح البسيط وجلست في الصالون الصغير المطل على الشرفة الداخلية.
كل شيء يبدو طبيعيًا:
الفناجين البيضاء، رائحة القهوة الخفيفة، أصوات الطيور.
لكن الإحساس في صدرها لم يزل.
رفعت بصرها حين دخلت مدبّرة القصر.
“صباح الخير يا كونتيسة ليلي.”
“صباح الخير.”
وضعت ليلي الفنجان.
“أخبريني، هل وظفنا خادمة جديدة أمس؟”
بدت المدبرة متفاجئة، لكنها هزت رأسها بسرعة.
“نعم يا سيدتي. وصلت البارحة مساءً. اسمها ماتيلدا.”
توقفت نفس ليلي لثانية.
‘الاسم إذن ليس وهْمًا.’
ليس من خيالها.
تابعت المدبرة:
“يبدو أنها تملك خبرة جيدة. قالت إنها عملت في قصر مشابه سابقًا. وأرسلتها الآن لترتيب الممر السفلي.”
سألت ليلي بهدوء شديد، هدوء لا يُظهر ما يجري داخلها:
“مَن الذي أوصى بتوظيفها؟”
“لا أحد يا سيدتي. قدّمت طلبًا من تلقاء نفسها… ووافقت الإدارة لأننا نحتاج خادمة إضافية.”
هزّت ليلي رأسها.
شيء ما لا يتطابق.
‘من يتجرأ ويأتي إلى قصر آل روزنت دون توصية، ثم يُقبَل فورًا؟’
‘والمثير أكثر… من يملك خبرة في قصور “مشابهة”؟’
احست المدبرة بالتوتر، فقالت:
“هل هناك خطب يا سيدتي؟ هل… تريدين التحدث معها؟”
كانت ليلي ستقول لا، لكن الورقة في جيبها الداخلي، القريبة من صدرها، تحركت قليلاً بفعل نسمة هواء من النافذة.
كأنها تذكّرها بما كُتب فيها:
لا تقتربي.
لكنها أجابت:
“…نعم. أريد رؤيتها.”
غادرت ليلي الصالون، تمشي عبر الممر الطويل الذي يربط الجناحين الشرقي والغربي.
الممر شبه فارغ من الضوء، والظلال تتمدد على الأرض كأنها تعترض طريقها.
توقفت عند الدرج الحجري المؤدي للممر السفلي.
للحظة قصيرة جدًّا، شعرت بأن القصر كله يتغير.
كأن الخطوط الخشبية في الجدران، الأحجار، الستائر… كلها تراقبها.
ثم ظهر صوت خطوات خفيفة.
رفعت ليلي عينيها.
كانت ماتيلدا تصعد الدرج.
فتاة شابة، ملامحها ناعمة، عيناها عسليتان، تحمل دلوًا صغيرًا لا يبدو أنه متعبها إطلاقًا.
تحركاتها ثابتة، واثقة، لا خوف فيها.
وعندما رأت ليلي، توقفت.
ثم، وبكل هدوء، انحنت باحترام.
“صباح الخير، سيدتي الكونتيسة.”
صوتها…
لم يكن صوت خادمة متوترة.
ولا صوت فتاة تسعى لنيل رضا سيدتها.
كان هادئًا جدًا… وواثقًا جدًا.
كأنها تقف أمام شخص تعرفه مسبقًا.
ليلي نظرت إليها طويلًا بصمت.
‘اسمٌ يعود من الورقة.’
تحذيرٌ يعود من الظلام.
وخادمة تقف أمامها بطريقة لا تنتمي لهذا العالم… أو تنتمي إليه بطريقة مختلفة.
قالت ليلي أخيرًا:
“ماتيلدا… أليس كذلك؟”
ابتسمت الفتاة ابتسامة صغيرة بالكاد تُرى.
عينان عسليتان ثابتتان، لا ترفّان.
“نعم يا سيدتي. ماتيلدا… كما كُتب.”
لم تهتم ليلي بأن الجملة الأخيرة لم تكن مناسبة.
الفتاة قالتها بثقة… كأنها تقصد شيئًا واضحًا جدًا بالنسبة لها، وغامضًا لأي أحد آخر.
قبل أن تسأل أي سؤال، مرّت بجانبها بخطوات هادئة.
ورائحة خفيفة من الكتب القديمة، من الصفحات، مرّت معها.
ليلي لم تتحرك.
ظلت واقفة في منتصف الدرج، تنظر إلى ظلال الفتاة التي تبتعد.
ثم وضعت يدها على جيبها، على الورقة المطوية.
لم تكن تعرف بعد ما الذي دخل إلى حياتها…
لكنها كانت متأكدة من شيء واحد:
ما ظهر في قصرها هذا الصباح…
لم يكن مجرد خادمة.
ولم يكن مجرد صدفة.
وكان بالتأكيد… بداية شيء كبير جدًا.
خرجت ليلي من المكتبة، وعادت للممر.
عيناها تتنقلان بين الجدران.
لا شيء يتحرك.
لكن الشعور الذي يرافقها… ليس طبيعيًا.
توقفت عند نافذة قصيرة تطل على الحديقة الجانبية.
كان الضباب يبدأ في الاختفاء، والضوء يصير أوضح.
ورأت ماتيلدا مرة أخرى، من بعيد.
تحمل صندوقًا صغيرًا، بطريقة لا تشبه خادمة تنقل أدوات.
خطواتها مستقيمة، ثابتة، كأنها تمشي على طريق محفوظ.
ورأت شيئًا آخر…
حيثما تمر، يلتفت بعض الخدم نحوها.
ليس بدهشة، ولا بخوف، بل بشعور يشبه محاولة التذكّر.
كأنهم يعرفونها… لكنهم لا يتذكرون من أين.
تراجعت ليلي خطوة للوراء.
لم يكن هذا عاديًا.
ولم يكن شيء مما يحدث اليوم مجرد مصادفة.
شيء ما تغيّر في القصر مع ظهور هذه الفتاة.
شيء يشبه بداية قصة…
قصة لم يبدأ كتابها بعد، لكن أحدًا بدأ بقراءتها بالفعل.
Chapters
Comments
- 1 - وراءَ الـلوحَة منذ ساعتين
التعليقات لهذا الفصل " 1"