7
إنها لم تكن مجرّد إهانةٍ عابرة يمكن للمرء أن يتغاضى عنها أو يعلّقها على شماعة طفولةٍ متهورة، بل كانت إهانةً كاملة الأركان، مُثقَلة بالفظاعة والجرأة، إهانةً تمزق الكرامة وتطعن الكبرياء، حتى إنني حين استوعبت كلمات كاليكس، شعرت وكأن صلابة الأرض تحت قدمي قد تفتّتت فجأة، وكل ذرة من طاقتي أخذت تتسرب من جسدي كما يتسرّب الماء من إناءٍ مثقوب.
كنتُ أظنّ — بغباءٍ وسذاجةٍ لا تُغتفر — أن أقصى ما يمكن أن تفعله طفلةٌ مدللة هو شيء من العناد، أو بعض الدلال، أو ربما بضع كلمات تنفجر بها حين يسيطر عليها الاستياء؛ لكني كنت مخطئة، وأخطأتُ كثيرًا في الحكم على بساطة الشرّ حين يُسكب في قلبٍ صغير.
صوت كاليكس، وقد حمل في طياته زمهريرًا حادًا، اخترقني مرة أخرى، حين قال:
“ألَا تتذكرين أنكِ تعمّدتِ سكب الماء على والدتي، ثم صرختِ بأنكِ لا تريدين خطيبًا من عائلةٍ نبيلة تشبه المتسولين، وأنكِ أهنْتِ عائلتنا بأكملها أمام الجميع؟”
في تلك اللحظة، تداعت كل أوصالي، وانحنى رأسي تلقائيًا، كأني أحاول الاختباء من وقع الحقيقة التي جاءت كالصاعقة.
‘يا إلهي…!’
انفتحت أبواب الذاكرة فجأة، وبدأت صور الماضي التي تعود للايلا الحقيقية تتدفق إليّ كما لو أن سيلًا جارفًا اخترق عقلي. أدركتُ حينها أن كل ما قاله كان صحيحًا، وأن سبب كرهه العميق لم يكن من فراغ.
‘إذن… هكذا هو الأمر… الآن أفهم.’
كم كان مؤلمًا أن تُحاسَب على خطايا لم ترتكبها أنت، بل ارتكبها جسدك الذي تقطنه الآن.
لم أتمالك نفسي، فتمتمت بغلٍّ مكتوم: “تبا…”
حتى لو كنت أملك حجة السحر أو التلاعب، ما جدواها؟ لم يعد أمامي سوى خيار واحد: أن أنحني أمام الحقيقة وأعترف بخطئي.
وقفتُ ببطء، كل خلية في جسدي تقاوم الانهيار، ثم انحنيتُ بعمق أمامه، حتى لامست جبهتي قاع الاعتذار.
“أنا آسفة… كل ذلك كان خطئي. سأذهب إلى الدوقة بنفسي، وسأعتذر لها علنًا.”
كان الصمت يخيّم عليه، عيناه تشعّان ببرود، أنفاسه تتردد كالسيوف الصدئة في صدري.
أضفتُ، بصوتٍ مهتز ولكنه مخلص: “أعدك… لن أكرر مثل هذا أبدًا. أنا آسفة… آسفة بصدق.”
بدا للحظة أن كاليكس قد تفاجأ من إخلاصي، لكن البرود سرعان ما عاد إلى قسمات وجهه، وصوته انبثق كالعاصفة:
“لا تتفوهي بكلمات جوفاء لا تعنينها. الناس لا يتغيرون. مثلكِ لا يُصدَّق، ولن يُصدَّق.”
ثم استدار، تاركًا كلماته كسيوف صدئة مغروسة في صدري، ومضى مبتعدًا بخطوات حادة لم تمنحني حتى فرصةً للرد.
رفعت رأسي، فرأيته قد غاب عن ناظري، تاركًا إياي جالسة كتمثالٍ محطم على المقعد، جسدي كله يرتعش من الصدمة والخذلان.
“إذن… لهذا الكره العميق.”
أخيرًا، انجلت الصورة كاملة أمامي. لكن ما أقسى أن يُطلب منك أن تعتذر عن جريمةٍ لم ترتكبها، وأن تصبح أنت بنفسك الجلاد الذي يزرع الأشواك في قلب شخصيتك المفضلة.
امتلأ صدري بظلمٍ ثقيل، وبدأت تفاصيل القصة الأصلية تُطبق على أنفاسي كأقفاص حديدية، حتى لم أعد أستطيع التنفس.
“هيـوك…”
لم أدرِ كيف، لكن دموعي انهمرت بغزارة، بحرارةٍ لم أعهدها في حياتي السابقة. أنا التي لم أبكِ يومًا حتى حين سخروا مني لأني يتيمة، صرت الآن أبكي بلا توقف، كطفلةٍ صغيرة، مجروحة القلب.
‘هل صرتُ بالفعل طفلة في العاشرة؟ أم أن قلبي صار أضعف مع كل لحظة أعيشها هنا؟’
يا لسوء البداية… أول لقاء رسمي لي مع كاليكس، وقد تحول إلى مأساة، قبل أن يبدأ حتى مخططي الحقيقي.
مسحت دموعي بكمّي الصغير المرتعش، لكن الدموع لم تكفّ عن السقوط، إلى أن فوجئت بظلٍّ رقيق يمتد أمامي، وبمنديل أبيض ناعم مطرّز بأوراق الغار يُقدَّم إليّ.
صوتها جاء كنسمة ربيعية دافئة وسط زمهرير قلبي:
“لماذا تبكين؟”
رفعت بصري المرتبك… إنها لافينا.
كان يفترض أن أشعر بالبهجة لأني وحدي معها، لكن قلبي المنكسر لم يطاوعني، ودموعي ازدادت أكثر.
اقتربت مني دون أن أشعر بخطواتها، جلست قربي، ومدّت يدها الرقيقة وهي تقدم المنديل، وعطرها الفاتن يتسلل إلى رئتيّ.
“آه…”
أدركت فجأة أنني في قمة بؤسي أمام أكثر شخصية أحببتها، فاختلطت مشاعري بين خجلٍ قاتل وحبٍ جارف.
حدّقت بي بعينيها العميقتين، ثم همست:
“الدموع التي تنحدر من عينيكِ… تشبه الجواهر المتساقطة.”
احمرّ وجهي حتى شعرت أن وجنتيّ تشتعلان نارًا.
‘ماذا… ماذا تقول؟! أهي تغازلني؟!’
مدّت يدها ومسحت دموعي بلطف، ثم ربّتت على ظهري بحنان، كأمٍ تُواسي طفلتها، أو ملاكٍ يُعيد الحياة إلى قلبٍ محطم.
هبت نسمة ربيعية، فأخذت رائحتها تعبث بشعري وقلبي معًا، تهدّئ اضطرابي، حتى كدت أن أنسى كلماته القاسية. لكن صوت كاليكس، كالأشباح، ظل يتردد في أعماقي:
“ألَا تتذكرين… أنكِ أهنْتِ والدتي وأذللتِ عائلتي؟”
لم أفعل! لم تكن أنا! كانت لايلا الأصلية، لكن…
‘لا أستطيع أن أتحمل أن أكون مكروهة من لافينا أيضًا…’
رفعتُ جسدي فجأة، وانحنيت لها احترامًا، وصوتي يقطر بالرجاء:
“أنا آسفة… تذكرت كل شيء. أعتذر عن كل تصرفٍ وقحٍ بدر مني.”
بدا الارتباك على وجهها للحظة، وكأنها تقرأ تناقضًا غريبًا في شخصيتي، لكنها ظلت صامتة، تحدّق بي بعينيها الحمراوين الصافيتين.
أضفتُ، بلهجةٍ حاسمة هذه المرة:
“إن شئتِ، سأقدم اعتذارًا رسميًا لعائلة الدوقية كلها، وسأقبل أي عقوبةٍ ترينها مناسبة.”
أظافري راحت تعبث ببعضها بقلقٍ شديد، بينما قلبي يخفق في انتظار حكمها.
وأخيرًا، نطقت:
“عقوبة، إذن…”
كاد قلبي يسقط من مكانه، وانحنى رأسي لا إراديًا. لكن، في اللحظة التالية، شعرت بيدٍ ناعمة تستقر على رأسي.
ارتجفت من المفاجأة، ورفعت عينيّ، فرأيتها تبتسم بلطف، وهي تربّت على شعري كطفلة مدللة:
“إذن، هل يمكنني أن أناديكِ بـ‘لالا’؟”
اتسعت عيناي من الصدمة: “ماذا؟!”
ابتسمت بمرح هادئ، وقالت:
“كنت أسمع سيرا وجيمس يناديانكِ بأسماء محببة، وكنتُ أرغب بفعل الشيء نفسه. لكنكِ كنتِ تنفرين حتى من اسمي حين أنطق به أمامك.”
كان كلامها بسيطًا… لكنه اخترقني بعمق، كما لو أنها مدت يدها إلى قلبي وربّتت عليه.
ثم أضافت بابتسامة آسرة:
“أما كاليكس… فاسمه منحه له والده، ولم يكن من السهل مناداته بلقب محبب.”
ضحكت بهدوء، وكان ضحكها كفجرٍ ينبلج بعد عاصفة.
وجدت نفسي أحدق فيها بلا حراك، مندهشةً من الدفء الذي يغمرني.
“إذن، لالا… دعينا ننسى الماضي.”
حينها فقط، شعرت أن السماء التي كانت تطبق على صدري بدأت تتسع قليلًا، وأن ثِقل الذنب الذي سحقني بدأ يتلاشى… ولو للحظة.
هل يُعقَل أنّ مفهوم “اللُّطف” الذي نحمله في قلوبنا قد يتشعّب إلى معانٍ متناقضة، كأننا أنا وهي نُبحر في بحرين مختلفين، تحت شمس واحدة ولكن بأفقين لا يلتقيان؟
“أعلم أنّكما مخطوبان، لكن لا تدعي ذلك جدارًا يُقيّدكِ أو يَحرمكِ من دفء الراحة بيننا. أريدكِ أن تشعري بأنكِ آمنة، حرة، بلا قيود، حين تكونين معي.”
“ماذا؟”
أمالتُ رأسي في ذهولٍ، متسائلة عن حقيقة كلماتها التي تساقطت عليّ كما لو كانت قطرات مطر خفيف يتسلّل إلى القلب فيذيب ما تراكم فيه من حيرة.
قالت، وعيناها تشعّان بجدية لا تعرف المساومة:
“لم يكن لأحد رغبة في أن تُربَط حياتكما بخطوبة مُتعجّلة كهذه. في عالم النبلاء، الزواج ليس قصيدة حُبّ، بل صفقة، صراع مصالح، واتفاق مكتوب بحبر السياسة لا بدماء القلوب.”
آه، تذكّرت فجأة… نعم، أنا لستُ مجرّد فتاة ضائعة في هذا العالم، بل ابنة عائلة بريلسون، العائلة التي تحمل إرثًا ثقيلًا كالجبل، وتُعتبر من أعرق وأقوى بيوت النبلاء في الإمبراطورية.
حينها تغيّر وجه لافينا، صار أكثر صرامة، وكأنها تزيح الستار عن حقائق لا يُفصح عنها عادةً.
“تلك الخطوبة لم تكن سوى درعٍ واهٍ، ووسيلة عاجلة لحمايتكما من أن تتحوّلا إلى مجرّد بيادقٍ على رقعة شطرنج السياسة التي يلعبها الكبار بدمٍ بارد.”
أومأتُ برأسي، وشعرتُ بكلماتها تخترقني كأنها تُعيد نسج إدراكي من جديد.
كانت دوقية تراسيا الأسطورية الحصن الأخير، السور الشمالي الذي يقف شامخًا في وجه وحوش الظلام المتربصة بالإمبراطورية. لكن، ما إن مات الابن الثاني للإمبراطورة، الوريث المنتظَر، حتى انكسرت العلاقة بين البلاط الملكي وتلك العائلة الحديدية. ومع انهيار الجليد الكاسح الذي دمّر الشمال، تجرّد البلاط من أي مشاعر إنسانية، وأدار ظهره للذين وقفوا دومًا في الصفوف الأولى لحمايته.
السياسة، في هذا العالم، ليست سوى مسرح قاسٍ تُعرض عليه أحلام الآخرين لتُسحق بلا رحمة.
إمبراطور تورباد الحالي لم يكن سوى ظلٍّ لرجلٍ مسكون بالشره، عبدٌ للذهب، يلهث وراء مصالحه الشخصية، لا يرى في البشر سوى أرقامٍ في دفاتر ثروته. ولذا، كان أبي، المركيز جيمس بريلسون، بما يملكه من ثروة تُضاهي خزائن العائلة الإمبراطورية نفسها، العدو الأول الذي يثير شكوكه ويدفعه إلى الترقب والعداء.
وبالطبع، كنتُ أنا الابنة الوحيدة لذلك الرجل… الابنة التي تحمل على كتفيها إرثًا يلمع في الظاهر، لكنه في العمق أغلالٌ ثقيلة.
لطالما حيّرني في القصة الأصلية: كيف للافينا، التي وُلدت كابنة غير شرعية، وتحمّلت مرارة الازدراء من نبلاء لا يرحمون، أن تُعجّل بزواج ابنها كاليكس، وتقيّده بسلسلة الخطوبة في سنٍ مبكرة؟ لكنّ الحقيقة الآن بدت جليّة أمامي: لقد فعلت ذلك لحماية ابنة صديقتها الغالية، ولتكفّ عن كونها ضحية لعبة قذرة.
لم تُذكر هذه التفاصيل في الرواية الأصلية، كانت غائبة كليًا، وها أنا أكتشفها كمن يعثر على جواهر دفينة في ظلام دامس.
وفي قلب هذا الإدراك، اجتاحني شعور متنامٍ بالقلق: كيف لي أن أكفّر عن كل الأفعال التي اقترفتها لايلا السابقة في حقّ كاليكس وعائلته؟ وهل يكفي عمري كلّه لتعويض جراح الماضي؟
بينما كنتُ أغرق في دوامةٍ من الذكريات والندم، انحنت لافينا نحوي قليلًا، ثم قالت بنبرة منخفضة ولكنها حادّة كالسكين:
“لا أحد يستطيع أن يتكهّن بما يخبّئه الغد. لذا، إن لم يُعجبكِ كاليكس لاحقًا… فقط، اركليه بعيدًا عنكِ.”
“هاااه؟!”
كادت ضحكتي تنفلت، فسارعت إلى تغطية فمي بيدي، خوفًا من أن تفضحني.
ابتسمت هي بخفة، ثم أضافت بجدّية رقيقة:
“سيرا كانت من أجمل نساء الإمبراطورية، وإن صادفكِ رجل آخر يليق بكِ، فلن يلومكِ أحد على إنهاء الخطوبة. لكن، إلى ذلك الحين… كوني متصالحة مع كاليكس، واعتبريه صديقًا، لا قيدًا.”
كلماتها، كأنها دفء شمس بعد عاصفة، غمرتني براحةٍ لم أذقها منذ وقت طويل.
نسمة لطيفة داعبت أطراف ثوبي، كأنها تبشّرني بسلام مؤقت.
“لالا، ثمة سؤال يحرقني منذ زمن.”
انتبهتُ إليها، وابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتيّ، أُصغي إليها بكل حواسي، مستعدة لأي كلمة تنطق بها.
لكن جملتها التالية اخترقتني كأنها سهام مسمومة أصابت أعماقي بلا رحمة:
“لماذا، يا فتاة صغيرة في عمر الزهور، تحملين كل هذا الخوف العميق من الموت في قلبكِ؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 7"