غادرت أولغا الغرفة بوجهٍ متجهّم، وكأن كلماتِي قد وخزت كِبرياءها. تبعتها كبيرة الخادمات وشيري، كلتاهما تلقيان نظراتٍ مشفقة نحو جيسي قبل أن تستديرا ببطءٍ وتغادرا في صمتٍ يثقل الأجواء.
تقدمتُ نحو جيسي التي بقيت وحدها معي، ثم ربّتُ على الأريكة مشيرةً لها بالجلوس. جلست بجواري بتوتّرٍ لا يُخفى، ولم أضيّع لحظة قبل أن أمسك يدها فجأة.
“أنا آسفة.”
اتسعت عيناها بدهشة، وكأنها لم تفهم مغزى اعتذاري في البداية. كان الصمت بيننا أثقل من أنفاسي.
“سمعتُ أنني كنت قاسية معكِ…”
أطرقت جيسي رأسها قليلًا، متذكّرةً أحداث الأمس بوجهٍ شاحب.
“قد يبدو الأمر غريبًا… لكنني حقًا لا أتذكّر شيئًا.”
شدّدت قبضتي على يدها، وكأنني أتشبّث بخيط النجاة الأخير في هذا القصر الذي يفيض بالعداء. والدي مشغول دائمًا، والخدم ينظرون إليّ ككائنٍ مخيف يُثير الرهبة… وحدها جيسي وقفت أمام أولغا دون خوف، وأظهرت ملامح الشجاعة النادرة.
كنتُ بحاجةٍ ماسّة إلى وجودها. بل إنني شعرت أن قلبي قد يجد سكينته فقط بقربها.
“كيف يمكنني أن أكفّر عن خطئي بحقكِ؟”
رفعت جيسي رأسها أخيرًا، وعيناها تلمعان بصمتٍ عميق. شعرتُ بجفافٍ يملأ حلقي من شدّة الترقّب.
“آنستي، أنا لست غاضبة.”
قالتها بصوتٍ دافئ اخترق جدار خوفي. رمشتُ بدهشةٍ طفولية، ولم أصدّق.
“ماذا؟”
“أنا أيضًا لم أكن مثالية… كان عليّ أن أفهم ما تحبين وما تكرهين. في الواقع، كنت أفكر منذ الصباح بطريقةٍ أعتذر بها منكِ.”
تنفستُ بارتياح، وارتسمت ابتسامة هادئة على وجهي أمام صراحتها. يا لدهشتي من بساطتها، ويا لارتباكي من نقائها.
كانت جيسي، تلك الفتاة التي جاءت من حياةٍ قاسية مليئة برعاية أشقائها الصغار، واقفةً الآن أمامي كمرآةٍ تعكس ضعفي وقوّتي في آنٍ واحد. أخطأت في يومها الأول بالقصر، ونالت توبيخًا قاسيًا، لكنها لم تفقد نقاءها، ولم تنطفئ شرارة عزيمتها.
والآن… بينما تنظر إليّ كطفلةٍ متشبثة بيدها، بدا لي أنني لست السيدة النبيلة الوحيدة، بل إنني أنا التي تحتاج إلى حمايتها.
“لم أكن أعلم أن هناك شخصًا بهذا اللطف…” تمتمتُ وكأنني أعترف بسرّ دفين.
في ذلك اليوم تغيّرت ملامحي أمامها، فلم تعد آنستي التي عرفتها بالأمس. هدأت، وأصبحت أكثر وداعة، بل وغمرتني الكتب والهدوء وكأنني أبحث عن ذكريات ضائعة بين السطور.
حتى عندما عاد أبي، ركضت إلى النافذة بلهفةٍ بريئة. كان قلبي يفتقده أكثر مما توقّعت. رأتها جيسي، فابتسمت دون وعي، كأنها وعدت نفسها أن تكون لي سندًا جديدًا.
لكن في جناح الخدم، تساءلت شيري وإيمي بقلقٍ بالغ: “هل أنتِ بخير؟ هل أذتكِ؟”
“لا، لقد عاملتني بلطف شديد.”
لم تُصدّق شيري وأجابت بحدّة: “هذا لأنكِ لا تعرفينها بعد. قد تنقلب في أي لحظة.”
لم تجد جيسي ردًا… سوى صورة عيناي الزرقاوين كالسماء الصافية، والتي بدّدت كل شكّ.
غير أن استدعاء أولغا لها لم يخلُ من القلق. دخلت الغرفة المزدانة بالأثاث الفاخر والمفروشات الحريرية، لترى أولغا على الأريكة تتصنّع الوقار. سألتها باقتضاب: “هل سألت عني؟” ثم أنهت اللقاء ببرود.
خرجت جيسي في حيرة، بينما أطبقت أولغا أصابعها على فستانها بعصبيةٍ مكبوتة، ثم بدأت تقطع الزهور المزدانة أمامها بمقصٍ حادّ. “ما الذي تفكّر به آنستي؟” صرخت، وصدى غضبها كاد يحطّم جدران الغرفة.
أدركت أن سقوط لايلا المفاجئ قد أفسد سحرها. والآن، مع فقدان ذكرياتها، تلاشى أثر التنويم المغناطيسي. ومع اقتراب لافينا تراسيا، التي تُشكّل بركتها خطرًا قاتلًا، لم يعد أمام أولغا سوى المزيد من الحقد.
سكبت سائلًا رماديًا على الزهور المقطوعة، فتحلّلت في ظلامٍ خانق، وابتسمت أولغا في جنونٍ يائس: “يجب أن ينجح المخطط.”
بينما كنتُ أنا، في مكانٍ آخر من القصر، أرتشف كاكاو أعدّته لي جيسي بحب. لم أتوقّع أن العسل سيحوّله إلى دواءٍ يدفئ القلب. “شكراً لكِ”، قلتها، فابتسمت دون ارتباك هذه المرة.
لكن فضول أولغا لم ينطفئ، فقررت أن أقدّم لها طُعمًا. سألت جيسي بهدوء: “أيمكنني الذهاب إلى الحديقة الخلفية؟”
اعترضت في البداية، ثم غمرتني بحماسها وهي تجهّز لي ثوبًا سماويًا وقفازاتٍ بيضاء وقبعةً أنيقة. وعندما خرجت، داعبتني نسمات الربيع الدافئة، فتراقص الفستان السماوي حولي كغيمةٍ طاهرة.
‘الحديقة… حيث سأخطو أولى خطواتي نحو المواجهة القادمة.’
“يا له من شعور جميل…”
كان الهواء في الحديقة ناعمًا كلمسة ورق، وابتسامة الشمس تذيب عني أي ثقل باقٍ في الصدر. الزهور كانت تتنهد بالعطر حول الطاولات، وكل شيء بدا وكأنه يصطف ليهمس بأن العالم ممكن أن يعود لطيفًا.
ثم حدث ما لم أتوقعه.
“ميااوو…”
خرجت من بين الظلال قطة كبيرة، بخطوات هادئة ثم انفلتت نحوي كما لو أن قدميها كانت تعرفان طريقي. لم تكتفِ بالوقوف؛ رفعت رأسها وفركت برقةٍ تنطق بالمطالبات بفستاني، كأنها تقول: “أنا هنا أيضًا.”
فراؤها كان بنيًا يقبل لمسات الذهب، وعيناها خضراوان كحلمٍ طاف على صفحة ماء؛ بطنها وأرجلها بيضُ نقية، وحضورها كان ساحرًا لدرجة أن ضحكًا صغيرًا خرج مني بلا إرادة.
ربت على رأسها، فارتجت بجانب أذنيها خريرٌ رقيق. كانت تلك خرخرة ليست مجرد صوت، بل كانت وعدًا غريبًا بالألفة.
تجمَّدت يد جيسي عن صبّ الحليب، ثم قالت بنبرةٍ مستغربة: “هذا غريب… القطة لم تسمح لأحد بلمسها من قبل.”
“هل تعرفينها؟” سألتها، والفضول يغزوني.
“نعم، رأيتها مراتٍ قليلة… لكنها عنيدة عادةً.” أجابت بصوتٍ خافت.
تنهدت وأنا أراقب الحيوان؛ بدا الأمر كأنه علاقةٍ سرية بيني وبين الحظ. حاولت جيسي أن تداعبها بدفء، لكنها تراجعت برشاقة وأطلقت مواءً قصيرًا، كأنها تحرس موعدًا قد رُتب مسبقًا.
ثم اختفت القطة كما ظهرت، تاركة وراءها فراغًا طفيفًا ملتصقًا بصدري.
“لقد رحلت…” قلت بصوتٍ يملؤه فَقد.
ضحكت جيسي بخفة، ثم تمتمت: “سأجلب ورق كرمة فضية، قد تعود لها الرائحة.”
هتفت بفرح: “فعلًا؟ هذا لطفٌ منكِ.”
ودعت جيسي بعينٍ مشرقة، بينما ظللتُ أرتشف الحليب وأفتح الكتاب بحذر. لم يكتمل نصف سطرٍ قبل أن يخفّ ظل حجْم فوق الصفحة.
رفعتُ عينيّ، فإذا بها أولغا، واقفةٌ كما لو أن الهواء تحت قدميها أثث مساعيها، وابتسامتها مشدودة كوترٍ مشدود.
“آنستي…” قالت بصوتٍ سلسٍ، لكن وراء الكلمات شيءٌ يذعرني.
ابتسمت سلامًا هادئًا. “نعم… استرحتي جيدًا؟”
قالت بنبرةٍ لا تغلق على نفسها: “بفضلكِ، نعم.” ثم عضّت شفتيها بحركةٍ صغيرة لاخفاء شيءٍ ما.
لم تغادر شكوكُي، وهي تطالعني بعينٍ تخفي سؤالًا طويلًا؛ شعرت بها تراجع أنفاسها كما لو أنها تقايض أمنيةً بالوقائع.
ولحظةٌ بعد ذلِك، مدت أولغا يدها ببطء، وأخرجت من داخل ثوبها قلادة صغيرة، ذات لون رمادي باهت، خاطفة للنظر.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 4"