3
Salma:
“أوه…”
ما إن لامست أنفي رائحة الحمام الثقيلة حتى اجتاحني الغثيان، كأن هواءً خانقًا قد اقتحم صدري بلا استئذان.
‘إنها تشبه رائحة العطور المختلطة في الحافلات المزدحمة، تلك التي كنت أهرب منها دائمًا.’
غطيت أنفي بكفي، محاوِلة أن أصدّ الرائحة، غير أن أولغا وقفت بجانبي، ثابتة الصوت.
“آنستي، من هنا.”
“أولغا، الرائحة لا تُحتمل… افتحي النافذة، أرجوكِ.”
ابتسمت بخفوت وهي ترد: “الهواء قد يُصيبكِ بالبرد. سأفتحها بعد أن تنتهي.”
لم أجادل. كان يكفيني أن الخدم بأكملهم يخشونني؛ لم أرد أن أجعلها ضمن من يضمرون لي الكراهية أيضًا.
‘لا بد أن لايلا كانت مهووسة بهذا العطر المقزز…’
انغمست في الماء الدافئ، أستسلم لحركات يديها المعتادة، بينما قلبي يصرخ من الداخل.
لم أدرك كيف انتهى كل شيء بهذه السرعة، لكن حين نهضت من الحوض، كان وجه أولغا يلمع بالرضا.
“لقد كنتِ مطيعة اليوم، آنستي. لذلك سأقدم لكِ شيئًا.”
تجمدت نظراتي للحظة. “شيئًا…؟”
أخرجت قلادة صغيرة من عنقها، بلون رمادي قاتم، ثم رفعتها أمامي.
“هذه ستجعلكِ بخير. ستمحو كل الصور المظلمة التي علقت بذاكرتكِ.”
كان هناك شيء مريب في التفاف ابتسامتها.
وقبل أن أتراجع، رأيت دخانًا رماديًا يتسرب منها مثل أفعى… ثم انقطع كل شيء.
شهقتُ بعنف، أفتح عينيّ على وقع رعشةٍ اخترقت بدني.
أول ما وقع بصري عليه كان سقف السرير المزين بكنوبي وردي يتلألأ تحت الضوء، وكأنني أُحاصر في حكاية خرافية.
“لايلا، هل أنتِ بخير؟”
“أ… أبي؟”
خرج صوتي مبحوحًا، ضعيفًا.
“لقد أغمي عليكِ نصف يوم آخر.”
ملامحه كانت مغمورة بالقلق. ثم تابع بصوت ثقيل: “قالت أولغا إنك فقدتِ وعيكِ بعد أن غضبتِ على الخادمة الجديدة، جيسي.”
تجمدت عيناي.
“لا أذكر شيئًا من هذا…”
آخر ما علق في ذاكرتي كان القلادة… الضباب الرمادي.
‘إذن أولغا… هي من لوّثت لايلا، وحولتها لما كانت عليه.’
ضحكتُ في داخلي بسخرية. في حياتي السابقة، كنت أقرأ الرواية بجنون حتى عرفت كل تفصيل. تلك القلادة الرمادية، بنقش زنبق الوادي… لم يكن غريبًا علي.
‘السحرة السود…’
هم من كانوا يحبسون بقايا قوتهم في تلك الأحجار، يعبثون بذكريات الناس، يسلبون إرادتهم، يجعلونهم دمى فارغة.
فكيف لامرأة مثل أولغا أن تجرؤ على غرس هذا السحر في طفلة؟!
قبضت يدي بشدة، كأنني أمسك جمرة.
“لايلا؟”
أعدت النظر إليه فور أن سمعت صوته.
كان ينظر إليّ بوجه شاحب من القلق. “هل ما زلتِ غاضبة من الخادمة؟”
هززت رأسي سريعًا.
ابتسم بلطف، لكن في ابتسامته ظلٌ من حزن لم يخفَ عني.
“جدكِ كان يضع الخدم تحت قدميه. لم يرَهم يومًا إلا كأدوات. لكنني… لا أريدكِ أن تكوني مثله. الخدم أيضًا أعزاء على أحدهم، كما أنتِ عزيزة علي.”
كانت كلماته تذوب في قلبي مثل ماءٍ عذب، ووجدت نفسي أومئ ببطء.
“أنا آسفة… سأعتذر لجيسي.”
ارتسمت على وجهه دهشة ناعمة. ثم ابتسم كأن روحه استراحت فجأة. “ابنتي الصغيرة، شكرًا لكِ.”
‘لو أخبرته الآن عن أولغا… عن السحر… هل سيصدق؟’
لكن ملامحه الدافئة منعتني. إن تحدثت الآن، قد تختفي أولغا قبل أن أمسك بها… وربما أجد نفسي في خطر أكبر.
‘لكن لا تظني أنني سأبقى ساكنة…’
رسمت ابتسامة بريئة، وقلت: “أبي، أريد شيئًا صغيرًا…”
“ماذا تريدين؟”
“شتلة شجرة صغيرة، تُسمى بيكاتيو. أوراقها على شكل قلوب. أريد أن أزرعها هنا.”
ضحك وهو يهز رأسه. “إذن شجرة؟ حسنًا، سأجعلها تصل غدًا.”
“شكرًا لك، أبي!”
لم تمض لحظة حتى دخل كبير الخدم بصينية عليها آيس كريم الشمام. اللون الأخضر الفاتح خطف عينيّ، وأطفأ شيئًا من النار المشتعلة في داخلي.
“قلتِ إنكِ ترغبين به… هل تستطيعين تناوله الآن؟”
أمسكت الملعقة على الفور، وضعتها دفعة واحدة في فمي.
“لذيذ جدًا!”
ضحك أبي وهو يربت على رأسي: “يا لهذه الصغيرة المشاكسة…”
ثم عاد كبير الخدم، يحمل رسالة مختومة.
فتح أبي الظرف، وبينما عيناي تراقبانه بترقب، ارتسمت على وجهه ابتسامة مختلفة.
ضحك بخفة، وقال: “دوق تراسيا وزوجته وصلا إلى العاصمة.”
تجمدت أنفاسي.
‘لافينا…!’
وضعت يدي على وجنتيّ، وصرخت داخليًا: ‘سألتقي بها… بهذه السرعة!’
بينما كان وجهي يحمر من الحماسة، قال أبي بنبرة مداعبة: “هل أنتِ سعيدة لأن كاليكس قادم؟ أشعر بالغيرة قليلًا.”
أسرعت أنفي، متمسكة بالجدية: “لا، ليس بسببه… بل بسبب الدوقة!”
حدق فيّ بدهشة. “كنتُ أظنكِ لا تحبينها كثيرًا…”
‘لا يمكن أن أفوّت هذه الفرصة…!’
قلت بابتسامة واثقة: “هذا غير صحيح، أنا أحبها… كثيرًا.”
ابتسم في صمت، ثم قال: “إذن… ما رأيكِ لو دعوتهم للعشاء بعد يومين؟”
اتسعت عيناي بفرح عارم. “هذا رائع! أحب الفكرة جدًا!”
صرخت بحماس متفجر، وكأن قلبي لم يعد يحتمل المزيد من الإثارة، فوجود “لافينا” لا يعني مجرد لقاء عابر، بل يعني أن الخطر الذي يطوقني سيجد من يفضحه، وأن القلادة الملعونة لن تبقى سرًا مدفونًا. كانت فكرة أن تراها لافينا بنفسها كافية لأن تجعلني أرتعش من الترقب، وكأن القدر نفسه يمد لي يده هذه المرة.
‘يبدو أن الحظ حليفي هذه المرة!’
كل ما علي فعله الآن هو أن أنفض عن نفسي آثار الظلام، وأن أركز على النور الوحيد الذي يلوح أمامي، على المتعة التي ستشتعل في داخلي عندما ألتقي بشخصيتي المفضلة وجهًا لوجه.
لم أستطع السيطرة على ابتسامتي. كانت تندفع من أعماقي كلما أغمضت عيني وتخيلت اللحظة القادمة، ابتسامة ممتلئة بالشوق، مشعة بلهفة لم أعهدها من قبل.
في اليوم التالي، كنت أحدق بانبهار في الشتلة الصغيرة التي زُينت بها الطاولة. كان حضورها أشبه بعطية سماوية، وكأنها جاءت لتبث في الغرفة حياة جديدة. رائحة أوراقها الندية حملت نكهة ليمونية خفيفة تسللت إلى صدري وأيقظت داخلي يقينًا بأن هذا الكائن الصغير سيكون سلاحي.
‘إن كنت أريد النجاة، فعلي أن أتناولها.’
اقتطفت ورقة صغيرة بيد ترتجف مزيجًا من القلق والإصرار. وضعتها في فمي، وبدأت أمضغها ببطء شديد حتى ابتلعتها. المرارة اجتاحت لساني بقوة جعلت عيني تدمع، وكأن الجسد كله يرفضها، لكن روحي وحدها احتضنتها بيقين.
‘لقد قالوا دائمًا إن الدواء الجيد يكون مرًا.’
كانت شجرة “بيكاتيو” أكثر من مجرد نبات. إنها حصن خفي ضد السحر الأسود، قوة صامتة قادرة على ردع الظلام وعكسه أضعافًا مضاعفة. ومن حسن حظي أن هذا السر لم يكن يعرفه أحد، سوى البطلة الجانبية “إيفيليا” في الرواية الأصلية.
‘من الجيد أن هذه الشجرة لم تحظ بالكثير من الاهتمام في القصة… وإلا لما كانت الآن بين يدي.’
وبينما كنت أتنفس بعمق أحاول استيعاب ذلك الطعم القاسي، فُتح الباب فجأة، بعنف أقرب إلى إعلان حرب. دخلت أولغا بخطوات متزنة وصوت هادئ يخفي وراءه شيئًا مظلمًا.
“آنستي، كيف تشعرين اليوم؟”
“أنا بخير.” أجبتها بسرعة، لكنني كنت أراقبها بعين لا تنام.
رأيتها تنظر ناحية النافذة للحظات، ثم تغلقها ببطء، ابتسامة غامضة ارتسمت على وجهها.
‘آه… فهمت الآن. كانت تنتظر رحيل والدي حتى تتمكن من إطلاق سحرها الحقير.’
كانت الصورة واضحة أمامي كالشمس. الجميع يتذكرني مشوشة ملامحي، باستثناء أبي، الذي ظل دائمًا يراني بوضوح. لم تجرؤ أولغا على استخدام القلادة بوجوده، لكنها الآن… الآن تحاول.
لكنني لم أعد تلك الطفلة التي تسقط في الشرك بسهولة. هذه المرة، لن أمنحها فرصة.
مددت يدي وسحبت الحبل الذهبي بجانب السرير، في إيماءة مقصودة.
“آنستي؟ لماذا تستدعين الخدم وأنا هنا؟” سألت وهي تعقد حاجبيها بدهشة مصطنعة.
ابتسمت ابتسامة بريئة، وأجبتها بصوت طفولي ممتلئ بالبراءة: “لأنني أريد تقديم هدية لكِ أيضًا!”
كلمة “هدية” جعلت ملامحها تتجمد للحظة، لكنها لم ترد.
سرعان ما دخلت خادمة صغيرة بعد أن طرقت الباب بخفة، لكنها توقفت فجأة، متجمدة عند رؤية أولغا، ثم انحنت بخجل.
“أ-آنستي، هل طلبتني؟”
كنت أعلم أن صورتي مرسومة في قلوبهم كظلال مظلمة، لكن رؤية الخوف في أعينهم اليوم جعلتني أزداد تصميمًا.
‘لن أسمح لسحر أولغا أن يقودني مجددًا إلى ظلمهم.’
ابتسمت لها بلطف حقيقي هذه المرة وقلت: “أيمكنك استدعاء كبير الخدم وجيسي من فضلك؟”
ارتبكت الخادمة لكنها أومأت، ثم خرجت مسرعة. أما أولغا فقد حدقت فيّ بريبة، نظرة تحمل بين طياتها ألف سؤال لم تجرؤ على النطق بها.
“لماذا تستدعين كبير الخدم؟” قالت أخيرًا.
أجبتها بثقة طفولية رقيقة: “لأن لدي مفاجأة صغيرة!”
ضاقت عيناها، لكنني تجاهلتها. كان قلبي ينبض بقوة، أعرف أن أوراق البيكاتيو لن تسري مفعولها إلا بعد يوم، لكنني أردت أن أسبقها بخطوة.
لم يمض وقت طويل حتى دخل كبير الخدم برفقة جيسي. كان وجهه متماسكًا لكنه يخفي قلقًا دفينًا.
“آنستي، لقد طلبت رؤيتنا؟”
نظرت إليه مباشرة وقلت بنبرة واضحة: “كبير الخدم، أريد أن تكون جيسي خادمتي الخاصة لفترة من الوقت. هل هذا ممكن؟”
سقط الصمت ثقيلًا في الغرفة. ارتباك على وجه كبير الخدم، خوف في عيني جيسي، ودهشة لم تستطع أولغا إخفاءها.
“لكن… ماذا عن الآنسة أولغا؟” سأل الكبير بحذر.
ابتسمت بهدوء وقلت: “أريد أن أمنحها إجازة لبعض الوقت.”
شهقت أولغا، وكأن كلماتي صفعة غير متوقعة.
“بما أن عائلة دوق تراسيا ستصل قريبًا، أردت أن أمنحها بعض الراحة حتى ذلك الحين.” أضفت، متعمدة ذكر الاسم الذي يثير قلقها.
امتقع وجهها، تلعثمت، لكنني لم أترك لها فرصة.
“لقد أدركت أنني اعتمدت عليك كثيرًا يا أولغا. لكنني لم أعد طفلة صغيرة، سأبلغ العاشرة قريبًا، وأريد أن أتعلم كيف أكون أكثر استقلالية!”
رأيت التوتر يشد على ملامحها، لكنني لم أتوقف.
استدرت نحو جيسي وسألتها برقة حقيقية: “جيسي، هل تقبلين أن تصبحي خادمتي الخاصة مؤقتًا؟”
وجوه الخدم تجمدت. لا بد أنهم ظنوا أنني أعد مكيدة للانتقام، وهذا بالضبط ما أردته… أن أجعل أولغا تضطرب.
“أنا… أنا بخير آنستي، لا أظن أنني مؤهلة بعد كل ما حدث…” تمتمت جيسي بخوف.
تدخلت أولغا بسرعة بصوت ممتلئ بالقلق المصطنع: “آنستي، جيسي لا تناسبك… إنها لا تزال مبتدئة.” وكأنها تحاول إقناع الجميع بأنها الراعية الطيبة.
لكنني قطعتها بابتسامة صغيرة: “إذن أنت لا تستطيعين العيش من دوني يا أولغا؟ مثل الأطفال؟”
ضحكات خافتة تسللت من بعض الخادمات، بينما جمدت ملامح أولغا، ترمقهن بحدة.
“لقد وعدت أبي أن أكون ألطف مع الخدم، وأريد أن أبدأ الآن. إنها فقط ثلاثة أيام، وبعدها سأستدعيك إذا اشتقت إليك.”
التفت إلى كبير الخدم، صوتي حازم: “هل هذا مقبول؟”
“ب-بالطبع يا آنستي.” أجاب بسرعة، بينما أولغا ابتلعت كلماتها ولم تستطع الرد.
“حسنًا… يمكن للجميع المغادرة الآن، باستثناء جيسي.” قلتها بابتسامة، وعيناي تراقبان أولغا وهي تغلي بصمت.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"