2
“يا إلهي!”
رفعت يدي إلى صدري كما ترفع الريحُ رايةً ناصعة، أتنفّس بعمقٍ وأرمشُ بسرعةٍ كمن يحاول أن يقبض على شررٍ هاربٍ في الظلام؛ كان المشهد أمامي هادئًا كقبرٍ منحوته رياح الشوق.
كان والدُ لايلا مستلقيًا على كرسيٍ بجانب السرير، وقد غلبه النعاسُ وانثنى رأسه قليلاً، وظلَّت جفونُه تتهادى كأشرعةٍ تعبها البحر. تسللت ظلالٌ طويلة عبر الغرفة بفعل الضوء الخافت، حتى بدا العالم كلوحةٍ تُوشَح بحبرٍ سحريّ استعدادًا لأن يُطوى.
صَمْتٌ طويل. نظرت إليه بصمتٍ احتوى على آلاف الأسئلة التي لم تُدنَسْ بعدُ بإجابة؛ شعرُه البنيُّ الفاتح مبعثرٌ على وسادةٍ كالقصيدة التي لم تُكمل سطرها، وملامحه المرهقةُ كشفت عن ليالٍ بلا نومٍ، عن رجايا قلقةٍ لم تُطفأ بعد. إذ شعرت في داخلي بغرابةٍ جديدة، تلك الوخزةُ الخفيفة التي تكنسُ قلبي وتقول: ‘هذا رجلٌ لم يبتعد عنكِ قطّ.’
قبل أن أهبط إلى هذا الجسد كنت وحيدةً كما البحار العميقة، لا أحدَ يواسي الجرح أو يُنشدُ لأحلامي لحنًا. لذا، حين شعرت برعايته هذه، تهاوى سورٌ مني ووجدت نفسي أمام دفءٍ لم أعرفه من قبل.
كيف تحولتُ إلى شريرةٍ رغم أن هناك أبًا يقف خلف ظهري كقلعةٍ صامدة؟ كان السؤال يرنُّ في قلبي بلا توقف؛ لكن الإجابة لم تكن ممنوحة. الرواية الجانبية كانت قُصّمت إلى ما يرى البطل، لذلك كانت تفاصيل لايلا محجوبةً كما لو أن الضوء لم يُشر إليه بعد.
‘هل كان كرهها للافينا مجرد دورٍ في مسرح القلم؟’ تبادرت الفكرة، لكن في أعماق قلبي ظلَّت لافينا، بطليّةُ روحي، قريبةً كما الزفير.
حركةٌ خفيفةٌ في الغرفة أثارت انتباهنا؛ فتح ماركيز جيمس بريلسـتون عينيه وهو يفركهما ببطءٍ، ثم رفع جسده كمن ينهض من بحيرةِ نومٍ عميقة.
“أوه، لقد غفوت دون أن أشعر. هل أنتِ بخير يا ابنتي؟ لقد أغمي عليكِ مرة أخرى وكنت قلقًا جدًا.” قالها بصوتٍ يكسوه حنانُ الآباء، ومدّ يده الكبيرة ليلمس رأسي بربتةٍ رقيقة تحمل سنواتٍ من الحنو.
عندما رأيت شحوب وجهه، لم أستطع كبح همهمةٍ غير مقصودةٍ خرجت مني: “اذهب إلى غرفتك ونَمْ هناك.” فصمتُه الذي تلاه بدى لي وكأنما همسُ اعترافٍ؛ شدّني تلعثمٌ بسيط في نفسي، فقلتها ولم أدرِ لماذا، ربما لأنني أردتُ أن أُجرب دفءَ الرد المتبادل.
الحنان لم يكن عادةً من نصيب شخصٍ مثل ليلى في قصص السوء؛ ومع ذلك، ها هو يقف أمامي يبطِّنُ قلبي بأمانٍ جعلته يفيض بالمشاعر. رأيت دموعًا تلمع في زاوية عينيه، وهي دموعٌ لم تخضع لها الأملاك عادةً، لكنّها هنا كانت صادقةً، وتردُّ على سؤالٍ قديم في صدري: ‘لماذا لم تُحِبني يوماً؟’
“ابنتي تقلق على والدها؟” تلاعب بالعبارة كما لو أنها أغنية طفولةٍ نسياها الزمن، وابتسمت عيناه بكبرياءٍٍ لا يزعزع. عندما ربتّ على صدري ودفأني بغطاءٍ أعلى حتى رقبتي، ارتسمت في نفسي كلمةٌ واحدة: ‘عائلة’.
دون وعيٍ اندفعت الكلمات من فمي، بصوتٍ خائفٍ لكنه عذب: “نم هنا بجانبي.” لقد نبضت في قلبي رغبةٌ طفوليةٌ لا تُقاوم؛ وها هو ماركيز جيمس يتفاجأ، ثم يجيب برقةٍ لا تُعانَد: “نعم.”
ثم استلقى بجانبي، ربّت على رأسي كما لو أن العالم سينجو إن ضممتُ إلى صدره لحظةً واحدةً؛ وقال محاولًا أن يُخفف وطأة الغياب عن ذهني: “لا تضغطي على نفسكِ، الذكريات ستعود مع الوقت، فلا تستعجلي.” لكنه لم يَبِحْ بخوفه من أن تفقد تلك الذكريات إلى الأبد.
ترددٌ في داخلي: ‘ماذا لو لم أسترجع أي شيء؟’ قلتُها بصوتٍ هامسٍ. ابتسم ثم ردّ بحرارةٍ عندها قال: “عندها سنصنع ذكرياتٍ جديدة. مجرد وجودكِ هنا يجعلني سعيدًا.” ولأول مرةٍ منذ زمن وشعرت أن قلبي يشتاق لصِدقهِ.
مضى أسبوعٌ منذ أن انتقلتُ إلى جسد لايلا، وعلى الرغم من غرابة المكان، تكيف الجسد سريعًا كأنه يملك ذاكرةً تصنعُ راحتي. كانت التفاصيلُ تُلقّمني شيئًا فشيئًا، كما لو أن صفحات كتابٍ قديمةٍ تفتح فصولها عند لمستي.
“كيف حالكِ الآن؟” سأَلَني ماركيز جيمس وهو يضع أمامي فنجان شايٍ يفوح بعطرٍ يجعل الروح تُسافر.
في الرواية الأصلية لم يُشرح كثيرًا عن هذا الرجل؛ لكنه اليوم يبدو أكثر عمقًا مما توقعت، فهو ليس مجرد نبيلٍ يدير أقطاعاتٍ وأراضيًا واسعة فحسب، بل هو تاجُ شبكةٍ تجاريةٍ ترسُم خريطة الاقتصاد الإمبراطوري؛ قيل عن عائلته أن المال يجري في عروقها كما يجري النهر.
رغم ذلك كله، وفي هذا الصباح المضيء، كان جل اهتمامه أن أكون بخيرٍ، وأن يعود طفلُه إلى ابتسامته الطبيعية. عند حديثي أنه لم يعد للرأس ألمٌ وقالت شفتيّ: “أنا بخير” ارتسمت ابتسامةٌ على محيّاه كأنها زهرةٌ انفتحت فجأة.
لم أستطع كبح فكرةٍ خفية: ‘هو وسيم جداً.’ لكن غرابتها لم تزل؛ لقد كان حبه الثابت والحنان الذي لا يتوقف، يجعلني أقرُّ بلا وعيٍ بأنه والدٌ يستحق الافتخار.
ثم اندفع الحديث إلى موضوعٍ أثار فضولي: “بالمناسبة، لم يتبقَ كثير على مراسم المباركة.” همس ماركيز وكأنه يسلّم بذكرى عظيمةٍ.
“مراسم المباركة؟” كرّرت مرّةً كمن يرى كلمةً تلمع في كتابٍ لا يزال غامضًا.
قال بهدوءٍ: “نعم؛ في الإمبراطورية يُذهب الأطفال في سنِ العشرة إلى المعبد لِيتلقّوا بركة الحاكم.” كانت عيناه تحملان ذكرى تُغلفها رهبةٌ أبدية.
تذكرتُ فجأةُ لمحاتٍ من الرواية؛ لايلا في الواقع تبلغُ العاشرة، وهنا تجلت مفاجأةٌ: ذاكرتي لم تندثر، فقد بدأت أجزاء من الرواية تهمس لي.
قال ماركيز بحماسٍ محدودٍ: “أولئك الذين يتلقون بركة الحاكم ويستطيعون استخدام قدراتٍ خاصة يُعرفون بالمباركين.” وضعت تلك الكلمة في صدري وكأنها حجرٌ كريم.
وإذا كانت لافينا وكاليكس من المباركين، فهذا يعني أن الدهشة ليست وحدها حاضرة، بل الخطر أيضًا. ثم أضاف بهمسٍ: “حتى والدتكِ كانت مباركة.” ووقفت الدمعة في عينه.
“مما كانت تمتلك؟” همست بأنفاسٍ متقطعة.
“قدرةٌ متعلقة بالأحلام.” قال، ثم أخرج كتابًا صغيرًا من جيبه وسلمه لي؛ كتبٌ تركها لها الماضي تمامًا كما يترك البحر صدفةً على الشاطئ.
ثم خرج الحديث إلى نفسه، واعترف بصمتٍ مُتقشّفٍ: “أنا أيضًا حصلت على بركةٍ، لكنني أنكرتها بعد وفاة زوجتك. ومع رؤيتك سالمة الآن، أتساءل إن كان لجسدكِ دورٌ في هذا.” كان صوته مُحبًّا ومحمومًا بالأمل.
في خضمّ تلك اللحظة، قفزتُ من الأريكة واحتضنتُه كما لو أني كنت أمتلك ذاكرةً واحدةً حقيقيةٍ تسندنا كلانا؛ لم أرد له إلا أن يشعر بالدفء الذي تستحقه عيناه الباكية.
وكأنما قد أتى العالم ليسأل عن خطتي التالية، طرقت البابُ على نحوٍ مهذبٍ، ودخل البارون فين مساعدُ والدي، واللورد بيرك اللذان خرجا بتعابيرٍ رسميةٍ لكنهما حملَا في أكتافهما بشرى العمل.
قالت الخادمة أولغا بابتسامة مشرقة حين فتحت الباب: “صباح الخير، آنستي!” لقد كانت حضورها الدافئ سبباً في أن تُشعر غرفتي بأن العالم ما زال طيبًا.
تعرفتُ على أولغا أكثر خلال الأيام الماضية؛ كانت كظلٍّ أُمِّيٍّ يوقظ الحديقة في وقتٍ مبكر، تهتم بزهور البيت وتعرفُ مفاتيح راحتي. ثم طُرح عليّ اقتراحٌ صغير: “ما رأيكِ في زيارة الحديقة الخلفية بعد الاستحمام؟ زهور الربيع قد تفتحت بشكل رائع!”
أومأتُ بحماسٍ؛ فكرتُ في الشمس وهي تلامس وجهي الصغير، وفي عطرِ اللافندر الذي يملأ الهواء. لكن داخل غرفةِ خدمٍ دخلت ثلاث خادماتٍ: إيمي، شيري، وجيسي، وكأنهن مرايا صغيرة تعكسُ ماضياً ممتلئًا بالهمسات.
اقتُرح استخدام زيت اللافندر، لكن جيسي أبدت رأيًا مختلفًا: ‘ربما نخفف رائحته بزيت الورد، فهو ألطف على بشرة صغيرة.’ ولحظةٌ تنهدت فيها الأولغا وقالت بثقةٍ: “لا، آنستي تحب اللافندر، لذلك سنحضره كما اعتادت.” وكان في صوتهصرامةٌ ناعمة تمنح الغرفة استقرارًا عتيقًا.
حينما اقتربتُ من الحمام مع أولغا، اجتاحني شعورٌ بالغرابة والحنين معًا؛ رائحةُ اللافندر تعبقُ في الفراغ كأنها نبرةٌ من الماضي، وأنا أمشي في ممرّ الذكريات بلا دليلٍ سوى همسات الخدم الذين يخيطون لحظات العمر بدقةٍ متناهية.
خرج العالم للحظةٍ طويلةٍ، وتراءت أمامي صورٌ من قديم الرواية: زهور، طقوس، ومقدارٌ من الحنان لم أعهده في قصصي السابقة. لكني كنت أعلم يقينًا أن هذه الدقائق — رغم سهوها — ستكون بدايةً لتحوّلٍ أعظم: خطة النجاة والوفاء للافينا، وخيوطٌ رفيعةٌ من ذكرياتٍ سأصنعها هنا، بيديّ الصغيرتين، وبقلبٍ لا يقبل الموتَ بهذه البساطة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"