1
“ماذا؟! مستحيل!”
لم أجد في صدري مكانًا للحفظ؛ صرخةٌ ساخنةٌ اجتاحت كياني، كأنَّ شيئًا مقدَّسًا قد تحطَّم أمام ناظري، وتفرَّق إلى شظايا لا تُحصى، فتساقطت منها أحلامي كؤنٍّ من زجاجٍ دُقَّ بعنف.
هل يُعقل أن تموت لافينا — بطلةُ روايتي المفضَّلة، ونورٌ كنتُ أتتبَّعه في كل سطرٍ — في القصةِ الجانبية؟!
لقد انتظرت هذا الفصل كمن يترقَّب فجرًا بديعًا بعد ليلٍ دامٍ؛ كنتُ أتصوَّرها تمشي بين أزاهيرٍ مخملية، ترفُّ ثوبها فوق دروب النصر، وتُسطر بقبضةٍ من نورٍ قصيدة انتصارٍ لكرامتها… وكيف يجرؤ الكاتب على انتزاع ذلك؟!
كان قلمُه الذي أحببتهُ، والدفءُ الذي اعتدت أن ألمسه في حروفه، قد صار الآن صفعةً قاتلةً ذاقتُ مرارتها كأنها خنجرٌ خلف الأضلع؛ جلستُ على درجِ المكتب المهجور بعد انتهاءِ الدوام، وكنتُ في منظرٍ أشبهُ بليلةٍ شتويةٍ بلا قمر، بائسةً كقطعة شجرٍ متروكة في عاصفةٍ باردة.
“لا جدوى من البقاء هنا… سأعود إلى المنزل.” قلتها بنبرةٍ هادئةٍ، لكنَّ أناملي كانت ترتجف كأوراقٍ تعرضت لهزةٍ عنيفة، فوُضعت الهاتفُ في جيبي كما لو كان ذلك طقسَ وداعٍ بسيط.
انطلقتُ نحو الدرج، وخطوةٌ تلاها أخرى، وكان كل منها يثقل كاهلي بجمرةٍ حزنٍ لم تبرُد؛ قلبٌ مثقَلٌ يتألَّم في كل مرَّةٍ أستحضر فيها مصيرَ لافينا المشؤوم.
“ماذا حلَّ بكِ يا لافينا؟” همست، وكأنَّ الصوت يلامس أطرافَ الجرحِ فقط.
انهمرت الدموعُ مني كما لو أنها تُشرِكُني حدادي الصامت؛ لقد أحببتُ تلك البطلة حبًا لا يُوصَفُ، رأيتها تنهض من رماد المصاعب، تطفئ النارَ بقبضةٍ من عزيمة، وتزرعُ في قلبي بذورَ الأمل والشجاعة والإيمان بأنَّ النهاياتَ السعيدة ممكنةٌ، فكيف يُسلبونها ذلك؟!
مسحتُ دموعي بعنفٍ، لكنَّ الأرض كانت قد رتبت مفاجأةً أخرى: خانتني ساقاي فجأة، تعثرتُ.
“آآآه!”
وبلمحِ البصر انسلَّ جسدي من بين يديَّ واندفع يتدحرج على الدُرج؛ صوتُ الارتطامِ ألقى صدىً مدوِّيًا في رأسي، ثم أسدل الليلُ ستائره على بصري، كما لو أنَّ حبراً أسودَ فاضَ وسكبَ على العالم.
“آه…”
ألمٌ مبرحٌ اجتاح رأسي، وكأنَّني مررت في ساحةِ قتالٍ حيثُ تصرخُ كل ذرةٍ في الجسدِ وجعًا؛ بأشدِّ ما أملك من قوةٍ فتحتُ عينيَّ فإذا بالمشهد أمامي غريبٌ حتى حدَّ الهلع.
“آنستي! لقد استيقظتِ!” صرخت امرأةٌ في زيِّ خادمةٍ أزرق قاتم، فارتدَّ صدى صوتها في تلك الغرفةِ الفاخرة التي لم ألمس مثلها مطلقًا.
قبل أن أستوعب، اندفع نحوّي رجلٌ ذو حضورٍ مسحورٍ، وسيمٌ حتى أن الكلمَاتَ بدت عاجزةً عن الإمساكِ بجماله.
“لايلا، لقد كنتُ على وشك فقدانكِ أيضًا…” قال، وعيناه الزرقاوان كحبات ياقوتٍ نادرٍ نَسَجَت فيهما الدموعُ حكايةَ شعورٍ جارف.
‘لا أفهم لماذا يبكي، لكن دموع الرجال الوسيمين دائمًا ما تبدو في محلها.’ تبادرت الفكرةُ إلى بالي كلمحٍ من سخريةٍ لا توقظ سوى الدهشة، ثم عاد الوعيُ ليصطدم بي.
أنا يتيمة… فكيف له أن يناديني بابنته؟! لبِثت أحاول أن أتشبث بآخرِ خيطٍ من وضعي المعتاد.
بجهدٍ كاد أن يُنقضَّ عليّ، فتحتُ شفتيّ المتصلبتين، وتمتمت بصوتٍ مجهد: “من… أنت؟”
تجمدت ملامحه للحظةٍ كما لو أنني غرستُ في صدره سيفًا حادًّا؛ ثم جاء صوتُ الطبيبِ المسنِّ الذي أجرى الفحص، قولهُ هادئًا ممهورًا ببعضِ الاحتياط: “يبدو أنَّ السقوطَ على الدرج سبب فقدانًا مؤقتًا للذاكرة.”
“فقدان الذاكرة؟!” ردَّ صوتٌ آخر داخل الغرفة وكأنه انتزع منه الروح.
“لا توجد إصاباتٌ خطيرة، ستعود ذاكرتكِ قريبًا، لا داعي للقلق.” قال الطبيب محاولًا طمأنة الحضور، لكن الرجل الذي يدّعي أنه والدي بدا غير مقتنعٍ، انحنى نحوي ومسحَ وجهي بأناملٍ دافئةٍ كأنها تعلّقُ بالنجاة نفسها.
“لا تخافي، يا صغيرتي، حتى لو اضطررتُ لقلب الإمبراطورية رأسًا على عقب، سأجد ذكرياتكِ. وإن لزم الأمر… سأحضر البابا نفسه!” همسَ وهو يغمر كلامه بلهفةٍ أبَويةِ مُتأجِّجة.
ما كان منّي إلا أن ظللتُ أحدق فيه بذهولٍ أبكم؛ كيف تختلطُ عليَّ الأشياء؟ لقد سقطتُ من الدرج للتوّ… وفجأةٌ رجالٌ وأثاثٌ ومراياٌ وثيابٌ لم أعرفها تجثمُ حولي، ورجلٌ يبكي ويعلنُ أنه والدي؟!
قشعريرةٌ تسلَّلت إلى عمودي الفقري، تساءلت: ‘هل تعرَّضت لإصابةٍ خطيرةٍ؟’ قبضتُ يدي ثم بسطتها مرارًا، وغرابةُ اليدِ الصغيرةِ التي رأيتها جعلت السَّراب يعظم: لقد بدت يدي كيد طفلٍ، رقيقةٌ وحساسة.
“المرآة… لا، الحمام!” انفجرت داخلي رغبةٌ ملحَّةٌ بالنظرِ، فقفزتُ قادرةً على الجلوس بسرعةٍ مفاجئةٍ، حتى أن عيني الرجل اتسعتَا كأنهما مصباحانِ مندهشان.
“سآخذكِ إلى هناك بنفسي.” قال بصوتٍ ملآنٍ بحزمٍ لطيف.
ماذا؟ إلى أين؟ لا تقل إنه… الحمام؟! حاولت التحجج، لكن قبل أن أنهي كلمتي، رفعني بحذرٍ كأنه يحمل إناءً زجاجيًّا ثم جعلني أتمسَّك بعنقه بارتعاشٍ غريزي، فقد كان الحضنُ أولَ شيءٍ يمنحُني شعورًا بالدفءِ منذ زمنٍ بعيد.
خطواته الطويلة قادَتْه إلى باب الحمام، وأنزَلني بلطفٍ فوق أرضيته المزخرفة، ونظر إليّ قائلاً: “إذا شعرتِ بصداع مرة أخرى، نادي عليّ أو على أولغا.” صوته لطيفٌ، ونظراته حانيةٌ بطرفٍ لا عهد لي به.
الحمام كان أسطوريًّا في فخامته؛ رخامٌ يلمع كأنه حكاية، ولمساتُ ذهبٍ تهمسُ بتاريخٍ نبيل، وأبعاده أكبرُ بأضعاف من الغرفة التي اعتدتُ عليها؛ اقتربت من المرآة المزخرفة بنقوش معقَّدةٍ حتى كاد قلبي أن ينفجر.
“هــاه!” صرخت، واضعةً يدي على فمي لأخمد صيحةٍ كادَت أن تفلت مني.
في المرآة كانت تقف فتاةٌ صغيرةٌ لا تتجاوز الثامنة من عمرها: شعرٌ ذهبيٌّ لامعٌ كأنَّ الشمس قد غسلت خيوطَه بعسلٍ ناعم، وبشرةٌ بلُّورِيَّةٌ نقية كقلبِ بلُّورٍ لم يمسّهُ الزمن، وعيونٌ زرقاءٌ مثل سماءٍ خريفيةٍ صافيةٍ، وملامحُها كأنَّ لوحةً فنيةً رسمت ملاكًا بهمسِ فرشاةٍ إلهية.
“يا إلهي… كم هي جميلة.” همست، وكأنني أُشيِّدُ تمثالَ دهشةٍ في داخلي.
تساءلتُ، عبثًا أم عن جدٍّ: هل متُّ وتحولتُ إلى ملاك؟ لكن الانبهار لم يدمُّ طويلًا؛ إذ انهمرت موجةٌ من الألمِ على رأسي كأنَّ مطرقةً سقطت من علياءِ السماء.
آه! هرعتُ نحو الرجلِ والخادمة، فمسكاني بسرعةٍ قبل أن أَسقط، وفي لحظةٍ خاطفةٍ هَطَت عليَّ الذكرياتُ كأنها سيلٌ مُختلطٌ بالمصباح الذي أضاء في داخلي.
تذكرتُ كل شيء: كنتُ أقرأ الرواية الإضافية لـ “السيف المحاط بالظل” عن ابن بطلتِي المفضَّلة لافينا، وها أنا الآن أُوقِفُ نفسي وقد مَلَكت جسدَ “ليلى بريلسـتون” — الشريرة التي ينتظرها قطعُ الرأس على يد كاليكس نفسه.
همست باسم الجسد الجديد، وفورًا انبَذَ الظلامُ على مرٍّ آخرٍ ففقدتُ وعيي.
عندما فتحتُ عينيّ ثانيةً كان الفجرُ قد بدأ بالكاد يُهِلُّ، وأحسست بجسدي مُتعبًا كقطعةٍ مبللةٍ من القطن، ثقيلًا وممزقًا من أثر حلمٍ طويلٍ لم يرحمني؛ خطر في بالي سؤالٌ بائس: هل مات جسدي الحقيقي؟
كآبةٌ غريبةٌ غمرتني، وعضضت أظافري بقلقٍ، ثم نطحتُ نفسي بعزمٍ وقلت: “لا، لا… أنا الآن ليلى. يجب أن أتماسك.” وابتدأت تتداعى في ذهني شظاياُ الرواية كلوحةٍ تُعرض ببطءٍ: “السيف المحاط بالظل” حكايةُ لافينا — البِطلةُ التي خرجت من مولودٍ غير شرعيٍ لتصبح سيدةَ سيفٍ عظيمة، التي وقعت في حبِّ دوقٍ اسمهُ غارين، وبسيرها انتصرت على المصاعب.
كنتُ مهووسةً بلافينا؛ قوتُها واصرارُها ألهماني وأنا التي نشأت يتيمةً مهمَلةً، وها أنا الآن أجد نفسي في مفترقِ طرقٍ لا يُشبهُ كلّ ما عرفته من قبل.
لكن حين راودتني فكرةٌ واحدة، هَلَّت عليّ مفاجأةٌ مدهشة: إذا كان جسدي الآن بعمرٍ صغيرٍ (ثمانيةِ سنوات)، وكاليكس بعمر إحدى عشرة، فهذا يعني أنَّ لافينا لم تمت بعد — بل أنا في الماضي، قبل الحدثِ الذي أذهلني!
اتسعت عيناي بدهشةٍ تاهت في شوارعِ الرجاء، ووضعتُ يدي على فمي. لم تكن هذه فُرصة النجاة فحسب، بل فرصةٌ ذهبيةٌ لإنقاذِ لافينا ذاتها.
فورا اتخذتُ قرارًا واضحًا يقطرُ ثباتًا وجموحًا:
١- سأنجو بأيِّ ثمنٍ كان.
٢- سأحمي لافينا مهما كلفني الأمر.
أما كاليكس… فليقع في حبِّ إيفيـليا كما يشاء، طالما أنني لا أتورطُ معه، وسأُحاذر كلَّ خطواتِ المصيرِ التي قد تُجرّني إلى حبٍ يُفضي بي إلى الهاوية.
وهكذا، بينما تتشكّلُ خططي في قلبي كشبكةٍ من نورٍ رفيعةٍ وبارعة، ألقت عليَّ ظلالٌ غامضةٌ من بعيد، تحملُ وعودًا وخطرًا معًا — كأنَّ الزمانَ نفسه يتنفَّس أمامي، مُعدًّا براهينَ اختبارٍ قادمٍ لا مفرَّ منه.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"