الفصل الثامن
نظرتُ إلى وجهه، ذاك الوجه الذي قد يُبكي حتى التماثيل، وتمتمت في نفسي:
‘لقد مات الشاه. وإن لم يكن، فسأقتله قريبًا.’
لقد خُرّب كل شيء. كل شيء خُرّب.
لقد فعلتُ كل تلك الأفاعيل المجنونة، ومع ذلك خرجت من فم هذا الرجل كلمات: “لنتزوج.”
نظرتُ إلى يديّ المبتلتين بريقي كأنني في غيبوبة.
خمس سنين من حياة العزوبية، جرّبتُ فيها كل شيء، لكن للأسف… راحت سكينتي إلى غير رجعة.
رفعتُ رأسي أحدّق في روبيليان، الذي بدا لا يعلم ما يدور في عقلي، وسمعته يقول بهدوء:
“لِمَ، ألَا يعجبكِ الأمر؟”
‘أيعجبني إذن؟ لو تزوجتُك لوجب أن أحمل تابوتًا معي كمهر. أيعجبني هذا؟’
خفضت رأسي وملامحي تنضح مرارة.
‘جدّتي شامان، قالت إن قدري منحوس، وها هو يتحقق حقًا.’
عضضتُ على أسناني وسألته بأقصى ما استطعت من لطف:
“أستطيع أن أكون سيدتك.”
آه، لا، هذا خطأ. مكشوفٌ جدًا. هززت رأسي وقلت:
“المعذرة يا صاحب السمو، أظن أن الزواج ينبغي أن يكون بعد أن يفهم المرءُ الآخر حق الفهم.”
فجأة تغيّرت وجوه من حولي إلى ملامح قاسية. حاولت تجاهل نظراتهم التي تقول ‘كيف تجرئين على رفض سيدنا!’ ثم ابتسمت ببهجةٍ زائفة.
لا، حتى لو كنتَ دوقًا، فالزواج أمرٌ عظيم، أليس من الطبيعي أن يُمنح المرءُ مهلةً للتفكير؟
لكن روبيليان بدا غير مكترث باعتراضي، وردّ ببرود:
“ليس بالضرورة. أليس من الممكن أن يتعرّف المرء على الآخر رويدًا بعد الزواج؟”
“ليس هذا المقصود…”
“وأنا أظن أني أعرف الآنسة جيدًا.”
متى؟ متى عرفني وأنت لم ترني إلا مرتين؟
لكن روبيليان واصل الحديث دون أن يعبأ بتجهمي.
“الابنة الوحيدة لعائلة كلودا، مشهورة في الطبقة العليا بعلاقاتها مع الرجال، وتاريخها في أن ولي العهد نبذها جعلها حديث الناس الدائم.”
“عفوًا، يا صاحب السمو… أتحاول الشجار؟”
“تحب الأكل، وتحب الأشياء الجميلة، وتحب البهرجة، ولا تبدو بصحةٍ جيدة، كما أنها ليست على قدرٍ عالٍ من الذكاء.”
“هل تتحداني الآن؟”
“وأهمّ من ذلك كلّه… قذرة جدًا.”
“…!”
“أظنكِ واثقة الآن أنكِ تعرفين نفسك جيدًا.”
“أغغ…”
ما إن أنهى كلامه حتى أمسكت مؤخرة عنقي. لا أدري أأُعجب بمهارته في تلخيص جوهر الجوهر أم أدفن نفسي في الحفرة التي حفرتها بيدي.
صُدمتُ حتى خارت قواي عن النطق. مَن الذي جعلني أبدو هكذا؟ مَن حوّل امرأةً ذكيةً مثلي إلى هذا المخلوق البائس الذي لا يريد سوى أن يهرب من الزواج؟
لكن ارتجافي بدا مختلفًا في نظر روبيليان. أمال رأسه قليلًا وسأل بقلقٍ متردد:
“ما بالك ترتجفين هكذا؟ أأنتِ مريضة؟”
“آه، آه، إن كنتُ مريضة، فلا حاجة للزواج، أليس كذلك؟”
“كلا. سأستدعي أمهر طبيبٍ في الإمبراطورية ليُعالجكِ.”
سؤالي ذاك، الذي طرحته بأملٍ يائس، رُفض في الحال.
أنزلتُ يدي كأنني لم أتردد قط. انتهى الأمر.
لقد تقرّر الزواج، مهما حدث.
وحين أدركت ذلك، غادرتني كل قوةٍ في بدني.
في تلك اللحظة، امتلأت عيناي بالدموع. أردتُ أن أفعل كل فعلٍ شنيع وأقول كل قولٍ قاسٍ في وجه هذا الرجل الواقف أمامي.
“فلنكتفِ بالأكل اليوم. هل أكلتِ كل شيء؟ أأُعطيكِ مزيدًا؟”
نظرتُ إليه بوجهٍ مفعمٍ بالنقمة.
نهض روبلييان من مقعده، ثم حين همّ بأن يمدّ يده ليُرافقني تذكّر كيف كنتُ منذ قليل ألعق أصابعي بحماس، فسحب يده سريعًا.
“إن كنت لا تحتمل ريقي، فكيف تتزوجني إذن…؟”
تمتمتُ بصوتٍ خافت:
“ما معنى هذا الكلام؟”
وفي الأثناء حرّك روبيليان حاجبيه وقد سمع شيئًا منّي.
“ماذا تعنين؟”
“بعد الزواج، سترى كل ما تريد أن تراه. أفالريق أمرٌ عظيم؟ إنه مجرد ريق.”
موروها. الرحمة بديت انغث
تجهم الوجوه من حولي، لكنني لم أعبأ بهم، بل أخرجتُ شفتَيّ إلى الأمام ونظرت إلى روبيليان.
“إن كانت في يدك بقايا الكريمة، فسأُمسك بها بسرور.”
“ما الذي تقولينه؟”
“لكن ثَمَّ كريمة، وتارت، وفتات خبز أيضًا…”
“أغغ—”
عند وصف روبيليان لتلك المناظر بهدوء، علا حامض المعدة في جوفي الممتلئ. أطبقتُ عينيّ بقوة أمام موجة الغثيان التي ارتفعت بغير إرادتي.
“آه، كفى، كفى… سأعود إلى غرفتي. هذا يكفي.”
غلبني الغثيان حتى كدتُ أتقيأ، فانصرفت فورًا دون أدنى اعتبارٍ للآداب أو المراسم.
———
فلنبدأ الآن بتلاوة تعويذةٍ تجلب السكينة إلى النفس.
“العجوز إكس.”
“…؟”
“إنها إف إكس إكس.”
“…؟”
“شا إكس.”
“آه، آنستي؟”
“لويس إكس سونغ.”
“عذرًا….”
“إكس للجميع!”
“ما الذي تقولينه…؟”
كانت تلك أول ليلةٍ لي في قصر الدوق.
وفي النهاية، تخلفتُ عن تناول العشاء متذرعةً بعسرٍ في الهضم، وجلست على سريري في الغرفة التي خصصها لي الدوق، أتلو ما يشبه ترنيمةً بوذيةً بوجهٍ متصوفٍ يحاول تهذيب نفسه.
لكن لم يكن ثمّة جدوى من تكرار تعاويذ لا تملك حتى أن تبلغ القلب. سرعان ما انفجرت.
“إر إكس، كار إكس، تي إكسني، أرما إكس، كلو إكس، جيمي إكس، إيف إكسرانغ، إيل إكسسابوااااه! لا أستطيع أن أهدأ!”
ارتجفت الخادمة المسكينة وانكمشت في زاوية الغرفة، تحدق بي بذهولٍ وقد شبكت كفيها كأنها تتضرع. أما أنا، فما كنت في حالٍ يسمح لي بأن ألتفت إلى أحد.
ولا أدري كم مضى من الوقت على تلك الحال حتى أغمضت عينيَّ أتنفس بعمق، أكتم غضبي وحدي.
“عذرًا؟”
“نادِني من فضلك ‘ليريس’.”
“نعم، إنه اسمٌ جميل. أيمكنك أن تقصي شعري؟”
جلست أمام منضدة الزينة.
ومهما يكن، لم يتغيّر شيء. حتى وإن جننتُ، فلن يتغيّر شيء… فما أنا فيه وضعٌ لا مفرّ منه سوى الموت.
البطلة لم تظهر بعد. هاه، لو أنهما التقيا في الشارع وأصبحا صديقين لكان خيرًا… لا، بحق الخالق، ألم يكن ذلك ليكون أفضل؟ لماذا في كل قصص التقمص تلتقي البطلة وصديقتها في حكاياتٍ غريبة؟
نهضت فجأةً من مقعدي، ثم أدركت أنني لا أعلم أين هي، فعُدت أهوِي على رُكْبَتيّ.
رمقتني ليريس بطرف عينها ثم أمسكت بشعري تمشطه برفقٍ وحذر.
وبينما أفكر، قلت في نفسي: يا لهذه الخادمة! إنها بارعةٌ بحق، مهارة تمشيطها تفوق آيدا بمراحل.
حاولت أن أستعيد وقاري، فرفعت قدح الشاي عن المنضدة وقلت:
“هل أنتِ من العامة أم من النبلاء؟”
فمع أنها خادمة، فهي خادمة في بيت الدوق. ظننتها ليست عادية فسألتها، فأجابت بصوتٍ خافت:
“أنا أصغر بناتِ كونت بولتون.”
“كـو، كونت… كونت؟!.”
“آنستي! أأنتِ بخير؟”
“لا، بل يجدر بي أنا أن أسألكِ ذلك… يا هذه! يا آنسة! أبخيرٍ أنتِ؟”
أأصاب كبرياؤكِ خدش؟ أهي كرامة النبلاء التي لم تنكسر بعد؟
نظرتُ إليها في ذهول. كنت أظن الخادمة التي وُكلت إليّ مجرد خادمة، لكن أن تكون ابنة كونتٍ…؟
لقد تجاوز الأمر الحدود!
ما الذي يدور في رأس روبليان إذ يبعث لي شابةً من آل بولتون لتخدمني؟ نظرت إلى ليريس مشدوهة.
“ولكن، لِمَ جئتِ إليّ؟”
“لقد أرسلني جلالته. قال إن عليّ أن أخدمك جيدًا، لأنك ستكونين سيدة بيت الدوق.”
“لكن لِمَ هذا الأسلوب الرسمي؟! لعلني أُخطئ السمع…”
“لكنّكِ يومًا ما ستصبحين سيدة الدار…”
“لا، لم يحدث شيء بعد، فلماذا تقولين هذا؟ لقد خُطِبتُ هذا العصر فقط!”
أمسكت مؤخرة رقبتي من شدّة الصدمة، لكن ليريس رمشت وقالت بدهشةٍ رقيقة:
“لكن ذلك سيحدث عاجلًا أم آجلًا، أليس كذلك؟”
“هاه؟”
“سيحدث يومًا، لذا أتعامل معكِ مسبقًا كما يليق بالسيدة.”
ثم احمرّ وجهها قليلًا.
ولِمَ هذا الاحمرار الآن؟ دهشت.
“يا فتاة، ما بالكِ تخجلين هكذا؟”
“لا، إنكِ جميلة للغاية.”
“…؟”
“واو، إنكِ فاتنة حين أنظر إليكِ عن قرب.”
“…؟”
“لقد رأيت نساءً كثيراتٍ جميلات، لكنكِ، آنستي، أجمل منهنّ جميعًا.”
“أكنتِ في حفل الشاي هذا العصر؟”
“آه؟ نعم، نعم.”
أتقول إنها جميلة بعد كل ما رأته؟ أهذه آنسة غبية حقًا؟ نظرت إليها شزرًا.
لكن ليريس تابعت بنبرةٍ جادةٍ كأنها تذكّرت أمرًا مهمًّا:
“على فكرة، لا تكرري ما فعلتِه هذا العصر.”
“أعلم ذلك أيضًا….”
ولمّا سرحتُ أتذكّر أحداث النهار، بادرت ليريس تشير بيدها معتذرةً:
“لم أكن أوبّخك، إنما فقط ظننت أن ما فعلتِه كان… غير لائق قليلًا. ربما في المرة القادمة، امسحي يديكِ بمنديلٍ بدلًا من فمكِ؟ وسيكون أرقى لو استعملتِ الشوكة بدلًا من يديكِ!”
قالت ذلك بصوتٍ حذرٍ كأنها تلقّن إنسانةً بدائية آداب المدينة.
لم أستطع أن أشرح لها السبب، فاكتفيت بإيماءةٍ بائسة.
“ها قد انتهيت. أتنوي أن تنامي باكرًا؟”
“آه، نعم. لا بأس، فقط أشعر بالتعب.”
ابتسمت ليريس ابتسامةً خافتة.
لكن في هذه المرحلة، ألا يُفترض أن الخادمات يزدَرِين الدوقة لأنها من العامة؟ لِمَ هنّ لطيفاتٌ هكذا؟
رمشتُ مترددةً، ثم شكرتها على ترتيب الفراش، وتمددت.
“إذن، ليلة سعيدة.”
قالت آنسة آل بولتون: “ليلة سعيدة.”
أحقًا سأصير دوقة؟ إذن ماذا أفعل؟ الزواج؟ من ذلك الداهية؟ ثم إنجاب أطفال؟ لا، لا يصلح هذا. إن متّ، فمن سيرعى أطفالي؟
تنفّست بعمق، إذ بدت الأفكار معقدةً أكثر مما ينبغي.
لم أستطع النوم. فكرة الموت وحدها كانت كفيلة بأن تجعل دمي يغلي. وأخيرًا جلستُ ثانيةً على السرير أتنفّس بعمقٍ طويل، ثم التفتُّ نحو النافذة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"