الفصل السابع
“ممم!”
“…”
“آه—”
ثم وضعت قطعة الكعك التي بيدي، والتقطت كعكة الشاي الأخضر أمامه. لحسن الحظ كانت صغيرة.
أدخلتها كلها في فمي وبدأت أمضغها بصوتٍ واضح، حتى كاد احتكاك لساني بسقف فمي يُسمع.
“يا إلهي، لم أتخيل أن الطعم قد يكون بهذا الجمال!”
غطّيت وجنتيّ بكلتا يديّ الملطختين بالكريمة وصرخت نشوةً.
لكن ما عداي، تجمّد الجميع في أماكنهم، بمن فيهم روبيليان نفسه.
كان وجهه بالذات أشدّ ما أثار الفزع. لم أرَ ملامحه تفيض اشمئزازاً كهذا منذ لقائنا الأول.
صحيح أنّي لا أكره القذارة، لكن حتى أنا كنتُ على يقين بأن منظري الآن فاق الحدود. والحقيقة أنني كنتُ محرَجة غاية الإحراج.
أما السيدة جينا، فظلت تحدّق بي بعينين واسعتين، وقد جمدت وهي تحمل إبريق الشاي للدوق. وحين لم أبدُ أنوي مسح الكريمة عن يديّ، ناولتني منديلاً بصمت.
لكنني لوّحت بيدي ورفضت:
“أوه، لا بأس، لا بأس.”
‘حسناً، انتهت الخطة باء، والآن نبدأ بالخطة جيم.’
نظرتُ إلى أصابعي، ثم أدخلت يدي الملطخة بالكريمة والمربى في فمي. لا بأس، فكلّنا كنّا نمصّ أصابعنا ونحن صغار، أليس كذلك؟
‘آه… لكن لمَ أشعر بالغثيان؟’
“هممم.”
بدأت ألعق أصابعي واحداً تلو الآخر بصوتٍ مسموع، مستمتعةً – على الأقل في الظاهر – بطعمها. لكن قبل أن أشعر بحلاوة الكريمة، داهمني الاشمئزاز رغم أنها يدي. ومع ذلك، أصررتُ على إنهاء ما بدأتُه، ثم رمشت وقلت بابتسامة:
“آه، لذيذ!”
“…أصابعك؟”
التوى وجه روبيليان من التقزّز.
‘ها قد حصل! إنه أخيراً يهتزّ!’
هززت رأسي بخوفٍ مصطنع وأنا أحدّق في عينيه:
“لا، إنها الكريمة.”
“…”
“أيمكنني أكل ذلك التارت أيضاً؟”
وحين تبع نظري نحو التارت، ابتسمتُ بمرحٍ والتقطتها.
“يم يم!”
‘يا للخجل، يا لي من حمقاء!’
ومع ذلك، ورغم الإحراج، واصلت الأكل، إذ كانت حياتي على المحكّ.
صار الخدم ينظرون إليّ بنظرات احتقارٍ خالصة، كأنهم جميعاً اتفقوا على ذلك.
وهذا مفهوم. فمن المزعج أن تتجول عامية في بيت الدوق، فكيف إذا كانت بهذه الفظاظة وانعدام التهذيب؟ من ذا الذي سيحب امرأةً قذرة إلى هذا الحدّ؟
غير أن الغريب كان أن روبيليان، الذي توقعتُ أن ينهض صارخاً “اخرجي!”، كان ينظر إليّ بنظرةٍ جادةٍ بعض الشيء.
‘هل هذه طريقته في التعبير عن الغضب؟’ فكرت وأنا أكاد أضحك.
“آه، أكلتُ جيداً.”
“أأنهيتِ كل شيء؟”
استند روبيليان إلى ظهر كرسيه وطوى ذراعيه، بينما ربتُّ أنا على بطني الممتلئ وضحكت بمرحٍ، حتى إني صفّيت حلقي استعداداً للجولة التالية.
كانت نظرته تقول: “أانتهينا أخيراً؟”، لكن الحقيقة أنني لم أكن قد انتهيت بعد؛ ما زالت الخطط دال وهاء وواو وزاي تنتظر. رفعتُ زاوية فمي وقلت:
“سآكل قليلاً بعد.”
“…بهذه الطريقة؟”
تصلّب وجه روبيليان لحظة، ثم نظر إليّ بعينين كأنما تنظران إلى أقذر وأغرب مخلوقٍ على وجه الأرض.
وبينما أحدّق فيه، كدتُ أصفّق طرباً.
‘ها قد تزلزل أخيراً! هذا الرجل تزلزل!’
“نعم.”
“أخبروهم أن يحضروا المزيد.”
لكنني لوّحت بيدي سريعاً وابتسمتُ ابتسامةً مشرقة:
“لا، لا داعي.”
“…؟”
“قال أبي إن ترك الطعام في الصحن يجلب عقوبة عليك”
طبعاً، أبي لم يقل شيئاً كهذا قط، لكنني أنا الوقحة المروّجة للزهد والتقشف، رفعت الصحن ببطء وأنا أواجه نظرة روبيليان المتحيرة بين الغضب والذهول.
وفي تلك اللحظة، انسكبت نظرات الدهشة عليّ من كل صوب.
‘لحسة—’
“آه!”
ما إن التقطت الطبق ولحسته بلساني، حتى لم تحتمل إحدى الوصيفات المشهد أكثر، فشهقت ثم تقيأت خفيفاً.
رغم أنها سارعت لتغطية فمها، إلا أن تعابير وجهها نطقت بما في نفسها.
وكما كان متوقعاً، أخرج روبيليان منديله، لفّه حول يده، وأمسك معصمي بقوة.
—–
حين فتحتُ عينيّ على اتساعهما أحدّق به، أفلتَ يدي مرّة أخرى.
“آه، المعذرة. هل آلمك؟”
“كلا.”
لا سبيل لذلك. أومأت برأسي نفيًا.
بدا عليه بعض الارتياح بعد ذلك، ثم قال بوجهٍ مرتجف التعبير:
“سأأمرهم أن يُحضِروا حلوى أخرى.”
“كلا، تعجبني هذه.”
“ليس عليك أن تلعقيها.”
“ألَا ترى أنها لذيذة؟”
“ألَا ترينها قذرة؟”
“ولهذا قلتُ إنني سألَعقها لأجلِك حتى تلمع.”
كما قلت، كانت قذرةً حقًا. غير أنّني كنتُ قد اخترتُ هذا الطريق، ووجب عليّ أن أُكمله ولو كنت باكيةً، لذا لعقتُ الصحن حتى النهاية رغم محاولات روبيليان لثنيي.
وحين وضعتُ الطبق اللامع على الطاولة، مرّرت لساني داخل فمي وابتسمت ابتسامةً باهتة.
“آه، إنها لذيذة. لذيذة حقًا، حقًا.”
“…يسرّني إنها راقت لك.”
عند قولي ذاك، أومأ روبيليان كما لو أنه استسلم للأمر. لم يكن هذا نوعًا من الوسواس القهري، بل شيئًا منفرًا لأي شخصٍ سويّ.
“هيهي، رجاءً، ادعني مرةً أخرى في المرة القادمة.”
حسنٌ إذن، الفتاة القذرة تطلب أن تُدعى مجددًا. أليس ذلك كافيًا لرفضها تمامًا؟
رفعت رأسي وأنا أفكّر على هذا النحو، فإذا بعينيه الحمراوين تتجهان إليّ مباشرة.
‘يا للعجب، ما أوسمَه!’
أيُّ بشرٍ ذاك الذي يُمكن أن يكون بهذا الجمال؟ والآن وقد شبعتُ، غدت الدنيا بأسرها جميلةً في عيني. وزاد سروري لأني على مشارف النصر.
ظلّ روبيليان يُحدّق بي بنظرةٍ كأنها تخترقني. نظرتُ إلى وجهه وكأنني مأخوذةٌ به، ثم هززت رأسي.
نعم، هذا جنون. أيّ جنونٍ يجعل أحدًا ينظر إليّ على هذا النحو؟
بصراحة، كان روبيليان رجلاً لا بأس به إن نظرتَ إليه بموضوعية. لكن ذلك لا يُغيّر من الحقيقة شيئًا، فهو سيمسكٌ بكاحلي ويسير بي إلى الموت، ولهذا لم يكن لي بدّ من المضيّ في خطّتي.
ثم قلتُ بابتسامةٍ نصف ساخرة:
“هل ستدعوني في المرة القادمة أيضًا؟”
وعلى سؤالي المتردّد ذاك، لم يُجب روبيليان بكلمة. بل ظلّ يحدّق بي بعينيه المثيرتين وكأنّه غارقٌ في التفكير.
ضحكتُ كالأبله قدر استطاعتي. لا يهم كم كان هذا الرجل عظيمًا، فلن يُفتن بي وأنا أتصرف بهذه السفاهة. لذا ناديته بقلبٍ يفيض بالرجاء.
“يا صاحب السمو؟”
قلها! قل إنك لا تريد رؤيتي ثانية! قل إنك تكره هذا النوع من النساء! أسرع وقلها!
صرخت في داخلي أكثر من خمس مئة مرة وحرّكت جسدي باضطراب. ومع ذلك، لم ينبس روبيليان ببنت شفة.
وبعد أن مضى زمنٌ طويل في الصمت، وبدأت أترقّب منه كلمة، فتح فمه أخيرًا وقال:
“كلا.”
مرحى! مستحيل! لن يدعوني ثانية! إنه يكرهني! آااه!
انفجرت الألعاب النارية في قلبي، ودخلتُ عصرًا ذهبيًّا جديدًا من حياتي. لكن لم أستطع أن أُظهر ذلك، فسألته بدموعٍ متصنّعة في عينيّ:
“لِمَ، لِمَ لا؟ لقد كانت لذيذة جدًّا…”
آه، حتى أنا أرى نفسي امرأةً غريبة الأطوار.
جاءت إلى بيت الدوق، أكلت خمس أطباقٍ من الحلوى، ولعقت أصابعها، ثم لعقت الصحون ثلاث مرات، وبعد كل ذلك تطلب أن تُدعى مجددًا، وعندما يُرفض طلبها، تتصرّف وكأن بيت الدوق متجرُ حلويات!
لقد أُعجبتُ حقًا بطريقة بناء شخصيتي هذه.
بالطبع قلتُ ذلك وأنا أنكمش على نفسي والدموع تسيل على وجهي.
“آه… لِمَ، لِمَ لا أستطيع… لِمَ لا أستطيع أكل شيءٍ لذيذٍ كهذا؟”
آه، هذه هي الخطة حاء.
بحسب معلوماتي الخاصة، روبيليان يكره النساء الباكيات. فإذا بدأتُ بالبكاء، سيغضب وسينظر إليّ بازدراء ويطردني قائلًا: اخرجي من هنا—
“فأنت من ستدير الزيارات من الآن فصاعدا.”
“آه، آه… حسنًا، سأ… ماذا؟”
—ما الذي يجري؟
تجمدتُ عند سماع تلك الكلمات غير المتوقعة. ماذا يعني؟ ما الذي أفعله؟
توقفتُ عن البكاء ورفعت رأسي.
“ماذا… ماذا يعني ذلك؟”
“يعني تمامًا ما قلت. من الآن فصاعدًا، ستكونين أنتِ من تُرسل الدعوات من بيت الدوق.”
“ماذا… ماذل تعني؟”
حدّقتُ في روبيليان بوجهٍ مرتعد. أيمكن أن يكون الأمر حقًّا كما أظن؟ لا، لا يمكن. لا يُعقل! لقد وصلتُ إلى هنا، فلا بدّ أنني أُخطئ الفهم!
“جميع شؤون منزل الدوق تقع على عاتق سيدة الدار.”
يا إلهي…
“ولذلك، فمثل هذه الولائم ينبغي أن تُقام على يد مَن ستُصبح دوقة المستقبل.”
لا يا رجل، لستُ مهتمةً بذلك أصلًا!
“فمن الطبيعي إذن أن تتزوجيني.”
سقط السقف عليّ. ذُهلتُ حتى غاب النطق عني.
لا، ما الذي تهذي به؟ تريد الزواج بي؟ بعد كل ما رأيتَ مني؟ بعد كل ما اقترفتُ أمامك من حماقات، وتريد الزواج بي؟!
هذا جنون.
دفعتُ بإنكارٍ متصاعد من داخلي، وقلتُ له بحذر:
“أنا… لا أفكر في الزواج بعد…”
“سمعتُ أنكِ قد عرضتِ الزواج على وليّ العهد.”
لاااا، لِمَ تقول هذا الآن!
لهذا إذن جئتَ بهذا الموضوع؟ يا لك من خبيث ماكرٍ!
ارتجفت يدَيّ خجلاً، وحاولتُ أن أحدّق في وجهه وأنا أتلعثم.
“ذاك، ذاك كان مجرد مزاح…”
“أنْ تتقدم ابنةُ ثريٍّ لوليّ العهد بخطبةٍ، أكان مزاحًا؟”
طبعًا لا. في هذا العالم لا يُمكن لابنة رجلٍ ثريٍّ أن تمزح بمثل ذلك.
أخفض وجهه أخيرًا، ثم واصل روبيليان كلامه:
“سأمنحكِ كل ما يملكه الدوق. ولأنكِ قلتِ إنكِ تحبين الترف، فأنفقي كما تشائين.”
‘لا حاجة بي إلى ذلك.’
“وإن رغبتِ بشيءٍ تأكلينه، فبلّغي الطاهي.”
‘ألستَ تعتبرني خنزيرة؟’
“لكن عليكِ أن تتخلي عن حياتكِ الخاصة الفوضوية.”
‘لماذا يا هذا قلبتَ كل ما قيل عني رأسًا على عقب؟ صرتُ الآن خليعةً ومسرفةً ونهمةً؟’
نظرتُ إليه بعينين دامعتين، غير أنّ روبيليان ظلّ هادئًا، ثم أطلق الضربة القاضية:
“تزوجيني، إيفانجلين كلودا.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"