لم أكن أدري ما الذي يجري حتى اقتحمت امرأة في منتصف العمر غرفتي، وقد قدّمت نفسها باسم السيدة جينا، رئيسة خدم منزل الدوق، وكانت ترافقها جماعة من الوصيفات.
لكن سرعان ما أدركت السبب الذي جعل روبيليان في عجلة من أمره لتبديل ثيابي، حين رأيت الوصيفات يدخلن وهن يحملن عدداً من الفساتين المعلّقة على علاقات الثياب.
‘هذا الخبيث، يحاول رشوتي بثوب.’
كما لو أنّه بطل رواية عاطفية، أو ممثل في دراما قصيرة، أو أحد أولئك الأبطال الرجاليين في روايات “هارلكين” الذين أزعم أنني أعرف أصلهم، بدا وكأنه أمر أتباعه أن يشتروا لي عشرات الفساتين.
كنت مذهولة، فمي مفتوح من الدهشة، حين أدركت أنّ الأمور تسير في منحى غير مألوف، وقد رمقتني السيدة جينا بنظرة باردة وقالت:
“آنستي، سأساعدك في تبديل ثيابك. أيّ الفساتين ترغبين؟”
كانت ملامحها تقول: ‘هنيئاً لك أيتها العامية، إذ نلتِ شرف ارتداء ثوب بهذا الثمن!’
غير أنني شعرت باختناق أكثر من إحساسي بالإهانة، لأنني علمت أنّني إن خرجت مرتدية هذا الثوب، فسوف يُشار إليّ بوصف “دوقة” لا محالة.
لا، لحظة… أليس من المعروف في هذا العالم أن إهداء الرجل للمرأة ثوباً له معنى خاص للغاية؟
“هيه، هيه… إن جففتُ هذا الثوب قليلاً وارتديتُه فحسب…”
“هذه أوامر صاحب السمو الدوق.”
“حسناً، سأكلّمه بنفسي وأشرح له الأمر.”
“أتنوين حقاً عصيان أوامر صاحب السمو؟”
‘ها؟ الآن تحاولين الضغط عليّ بالمقام والمنزلة؟’
لكن في هذا العالم الذي لا يسوده سوى منطق القوة والهيمنة، وجدت نفسي مضطرةً للبكاء في قلبي وأنا أختار ثوباً.
كنت أنوي أن أختار ثوباً فاخراً صارخ الألوان حتى يكرهه لوبيليان أشد الكره، غير أنني، وقد تعلمت درسي من آخر مرة، اخترت ثوباً بسيطاً إلى حدّ التقشّف.
لكن عندها حدث ما لم أكن أتوقعه.
“هوه—”
الثوب الذي اخترتُه كان بتصميمٍ بيج باهتٍ بسيط، ليس مما ترتديه سيدات النبلاء عادة، بل لم يكن حتى من ذوقي. فأنا أحبّ الأثواب الباهرة اللافتة.
ومع ذلك، أطلقت السيدة جينا تنهيدة إعجابٍ خفيفة حين رأت اختياري.
رمشتُ بارتباكٍ وأنا أتابعها، فإذا بها تقول:
“إن ذوقك يا آنستي يشبه ذوق الدوقة السابقة كثيراً.”
“عفواً؟”
“هذا الثوب هو أعزّ ما كانت الدوقة السابقة تحتفظ به. من كان يظن أنّ الآنسة ستُعجب بشيء كهذا أيضاً؟”
‘انتظري قليلاً… ألم تقل إن والدة روبيليان قد توفيت منذ زمن؟ لحظة، ما هذا بحق الخالق؟ أتعطونني ثوب امرأةٍ ميتة؟ أهو اختبار؟ أم حكاية الأميرة وحبّة البازلاء؟’
كاد عقلي أن ينفجر من الارتباك.
كانت والدة روبيليان، الدوقة السابقة لفلورنسا، امرأةً من عامة الشعب صارت دوقةً بزواج عن حب. و على غير رغبةٍ منها محظية الإمبراطور بعدما لفتت نظره فأجبرها على أن تكون عشيقته.
ثم اضطرّت للعيش في القصر، بل وحملت بروبيليان نفسه. أي إنّ وليّ العهد الحالي وروبيليان في الحقيقة أخوان لأبٍ واحد.
وبعد أن أنجبت روبيليان، أنتحرت.
في الواقع، كانت هذه الحادثة هي السبب الذي جعل كثيراً من القرّاء يتفهّمون، إلى حدّ ما، شخصية روبيليان.
فقد كانت الكراهية التي يكنّها للإمبراطور، وللإمبراطورة التي عذّبت أمّه، ولابنها وليّ العهد، أمراً مفهوماً.
لكنّ ذلك لا يعني أبداً أن أفعاله كلّها مبرَّرة.
صحيح أنّ الإمبراطور كان وغداً من الطراز الأول، ولكن… أليست المصيبة الكبرى في بطلي الرواية نفسهما؟
ومن جهة أخرى، كان هذا أيضاً هو السبب الذي جعلني أوقن بأنني، وقد وجدت نفسي في هذا العالم، لن أستطيع “إعادة كتابة” شخصية روبيليان أو إصلاحها، إذ لم أرغب في أن أستخفّ بغضبه أو أعبث بجراحه لأعيش بسلام.
“هل هذا الثوب من اختيار صاحب السمو الدوق؟”
سألتُ السيدة جينا، فهزّت رأسها نافية.
“لا.”
“إذن أزيليه. اختاري شيئاً آخر.”
مهما كانت القصة مظلمة، لم أرد أن أثير غضبه بهذه الصورة. فبالنسبة لي هذه مجرد رواية، أما بالنسبة له فهي حياة حقيقية.
عند كلماتي، قطّبت السيدة جينا حاجبيها قليلاً. لا أعلم ما العلاقة التي كانت تجمعها بالدوقة الراحلة، لكنّها تصرّفت بجرأةٍ متناهية، وكأنها تختبرني عمداً، ولو كنت من النبلاء لصفعتها على وجهها.
‘أتريدين أن تختبري إن كنت سأختار ثوباً صارخاً أم بسيطاً؟ تباً لك.’
“ألستِ راضية عن الثوب؟”
“قلتِ إنه من الأثواب التي كانت تفضّلها الدوقة الراحلة.”
“نعم.”
“إذن لا أرغب في ارتداء مقتنيات المتوفاة بلا روية، كما أنّي لا أرى في ذلك أدباً لائقاً تجاه الدوق نفسه.”
حدّقت بي السيدة جينا مليّاً وأنا أتكلم، ثم أومأت برأسها بعد لحظةٍ قصيرة، كأنّها فهمت شيئاً في خاطرها.
وفي النهاية، اخترتُ ثوباً لا هو بالبسيط جدّاً ولا هو بالفخم الزائد.
“جلالتك، أشكرك على هذا الثوب.”
أعرف تماماً لِمَ أهديتني هذا الثوب.
عضضت على أسناني وأنا أحيّي روبيليان بابتسامةٍ تشبه الفراشة التي تحوم حول النار. لا، لم أُخطئ الفهم، لقد حيّيته فعلاً كما تفعل الفراشة المهووسة بالضوء.
كان روبيليان يحتسي الشاي حين رآني أهرول نحوه بكعبٍ عالٍ، ثم أتوقف فجأةً أمامه وكأنّ أحداً ضغط على المكابح. أما الوصيفات المصطفات على الجانبين فقد قطّبن حواجبهنّ ونظرن إليّ بازدراء.
‘آهٍ يا للعار، لقد بدأن بالعبوس منذ البداية! لكن الحقيقة كلّها من ورائي.’
جلست على الكرسي كما لو أنني كنت أجري للتوّ، فأومأ روبيليان إيماءةً خفيفة. وما هي إلا لحظات حتى بدأ الخدم يضعون على المائدة الصحون البراقة وأطقم الشاي الفاخرة، فوجدت نفسي أحدّق في بريقها بلا قصد.
‘يا إلهي، هذا ليس تمثيلاً… هذا حقيقي.’
“آه، ما أجملها!”
كان الشيء الوحيد الذي أسعدني منذ جئت إلى هذا العالم أنني أستطيع أن أرى بعينيّ أطقم الشاي الجميلة التي لم أرَ مثلها إلا في الصور على الإنترنت. لطالما كنت ضعيفة أمام الأشياء الجميلة.
“أتحبين هذا النوع من الأشياء؟”
“نعم، أحبّه.”
الأمر لا يهمّ كثيراً، ولم أظنّ أنه سيُثير اهتمامه، لذا أومأت بخضوع.
عندها، ظهرت على وجه روبيليان الهادئ ابتسامة طفيفة.
“في بيت الدوق أشياء كثيرة جميلة. ستجدين ما يُرضيك.”
“آه، في الحقيقة، رأيتُ حين دخلتُ المنزل شمعداناً غايةً في الجمال!”
ما إن قال ذلك حتى سارعت بفتح فمي. حتى لو كانت جلسة شاي، كنت أودّ أن آخذ معي ذلك الشمعدان الجميل على الأقل.
“إن أعجبك، فخُذيه.”
كدت أُبدي دهشتي، لكنني تجمّدت من جديد حين سمعت كلماته التالية:
“فمالُ الزوج هو مالُ الزوجة.”
‘هاه؟ مهلاً… ماذا قلت؟’
لم أستطع إخفاء صدمتي، وبينما كنت أبحث عن طريقةٍ مناسبةٍ لرفض كلامه، غيّر روبيليان الموضوع فجأة.
“لابدّ أنكِ رأيتِ أشياء كثيرة جميلة في القصر، أليس كذلك؟”
“أوه، نعم، حسناً…”
“هل كانت مبهرة؟”
“نعم، كثيراً.”
لم أدرِ كيف أتصرف أمام هذا التبدّل المفاجئ في الحديث.
‘إن دققت النظر، فهذا الرجل من النوع الذي يفرض سيطرته بالقوة، يسحبك وراءه من دون استئذان.’
تنفست بعمقٍ وأنا أفكر في كيفية تنفيذ الخطط باء وجيم ودال وهاء وواو وزاي دفعة واحدة.
لكن روبيليان واصل كلامه:
“سمعتُ أنك تقدّمتِ بطلب يد وليّ العهد.”
‘هيه؟! أيمكنك أن تقذف قنبلة كهذه دون أي تمهيد؟!’
أحقاً علينا أن نفتح جراح الماضي على هذا النحو؟
حين سمعتُ من فم شخصٍ آخر أكثر اللحظات إذلالاً في حياتي كلها، احمرّ وجهي حتى لو حاولت إخفاءه بصفائح من الحديد. شعرت بالحرج الشديد فأنزلت رأسي.
أما روبيليان فأمال رأسه قليلاً، كأنما يحاول فهم موقفي على طريقته الخاصة.
“لقد رُفضتِ، ومع ذلك… ما زلتِ تحبينني؟”
“…لا، مهلاً، هذا-“
‘كيف وصلت إلى هذه النتيجة؟!’
كانت العبثية تتراقص في الهواء. صُدمتُ إلى درجة أن لساني انعقد. وبعد جهدٍ جمّ تمكنت من لملمة أفكاري التي صارت كعصيدة الفاصولياء الحمراء، ونطقت أخيراً:
“قطعاً لا.”
“ألستِ كذلك؟”
“كلا.”
قطّب روبيليان حاجبيه قليلاً.
نعم، أعرف تماماً الصورة التي يرانيني بها. لكنني، وإن كنت أرى وليّ العهد آنذاك كمنقذي، لم أحبه قطّ.
“لم أحبه يوماً، يا صاحب السمو.”
“الحبّ… إذن، لعلّك كنت تحملين مشاعر نحوه.”
‘آه… ضغطي يرتفع… هل أستسلم؟ هل أقول إنني تجسدت؟ وبما أنك العقل المدبّر لكل هذا، هل أقول إنني سأموت بسبَبك؟ أم أقول فقط لا تتزوجني؟’
كنت أختنق، فبدأت أتنفس على طريقة الولادة “لاماز*”.
موروها. تقنية تدعم الحامل خلال الولادة باستخدام التنفس والاسترخاء والحركة لتقليل الألم
ثم قررت أن أفضل حلّ هو إنهاء هذا الموضوع سريعاً، فابتسمت وسألت:
“عفواً، هل أعددت كلّ هذا لي؟”
حين تعجزين عن مواجهة الموقف، حوّلي الحديث إلى الطعام.
“نعم، أمرتُ بإعداد الكثير لأنك قلتِ إنك تحبين الأكل. هل تحبين الحلويات؟”
لم يهمّ إن كنت أحبّها أم لا، فكلّ هذا سيكون وسيلةً لمشهد اليوم الكبير الذي حضّرته.
وسرعان ما امتلأت المائدة بكل ما لذّ وطاب.
للمشهد الكبير، رفعتُ أكمام ثوبي حتى المرفقين، شبكتُ كفّيّ، وحرّكت معصميّ. كان من الأدب أن أُهيّئ جسدي قبل أن أبدأ التمارين الشاقة. غطّيتُ وجهي بيديّ، فتحت فمي على وسعه، وضحكت ضحكةً طبيعية.
“يبدو لذيذاً!”
“طاهي المعجنات في بيت الدوق ماهرٌ جداً. آمل أن يروق لك فمستقبلاً—”
لكن لم يُكمل كلامه، فقد أمسكت بقطعة الكعك الصغيرة التي أمامه بأصابعي مباشرة.
لا، لم تخدعه عيناه، لقد التقطتها فعلاً بأصابعي.
“آه، أُه…”
فتحت فمي على وسعه، وغرزت قطعة الكعك فيه حتى كادت تختفي. لم أهتم إن لطّخت الكريمة زاوية فمي أم لا، بل قضمتها وبدأت أمضغها مبتسمةً بوجهٍ مفعمٍ بالسرور.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"