5
إن تساءلتَ يومًا: إلى أيّ مدى قد يبلغ يأس امرئ؟ فإني أقول: ارفع بصرك وانظر إليّ.
ما كنتُ أحسب أنّ أُمنية حياتي كلّها ستكون أن أثير اشمئزاز امرئٍ إلى أقصى حدّ. ففي حياتي السابقة كنتُ كالتابع الوضيع، محتاجةً إلى محبّة الجميع ورعايتهم، وما كنتُ أظنّ أنّ أحدًا قد يصل إلى هذا المبلغ من النفور.
لكنّ الناس يعمرون طويلًا – بل يعيشون كثيرًا ويرون كثيرًا.
“إيف، أأنتِ متوترة؟”
وأنا واقفةٌ أمام قصر الدوق الفخم، هززتُ رأسي نافيةً جوابًا لقول أبي. لقد كان أبي يبتسم منذ أن جاءنا كتاب الدعوة من الدوق ابتسامةً جعلتني أظنّ أنّ فكه سيسقط من فرطها.
“لا.”
‘هراء.’
ففي الحقيقة كنتُ واجفةً. وكيف لا أكون، وهذه المحاولة إن فشلت، انقطع الطريق نحو نهاية هذه الزيجة.
سرتُ خلف أبي، أكرّر في نفسي ‘قوانين القذارة’ التي درستها بعناية في الأيام الخالية.
فإن نجحتُ، والله لأؤلفنّ كتابًا أسمّيه: ‘القذارة أهون أمر في الدنيا!’
“وصل سيد كلودا.”
وما إن دخلتُ دار الدوق بهدي الخادم، حتّى بهرني ما رأيت، إذ كان أوسع وأفخم مما قدّرتُه في خيالي. لقد ظننتُ أنّني، وأنا ابنة بيتٍ ثريّ، قد رأيت كلّ شيء، غير أنّ العين إذا أمعنت النظر بان لها مقدار ما تفصل الطبقات بين الناس.
‘تلك الشمعدانة! يا للروعة. ليتني أستطيع أخذها. إنّها على ذوقي.’
“إيف، تمالكي نفسك.”
نبّهني أبي حين رآني أمشي وفمي مفتوح كالأبله. وما كنتُ لأغضب، فربّما كان حسنًا أن أبدو غِرّة.
“حاضرة.”
ولكنني ابنةٌ مطيعة، فلا أقلّ من أن أتظاهر بالإصغاء.
لن يطول المقام قبل أن نبلغ مكتب روبيليان. يا له من فتى! دعاني، وحبس نفسه في مكتبه. هززتُ رأسي تعجّبًا.
“من هنا فصاعدًا، يحسن أن تدخل السيّدة وحدها.”
توقّف الخادم فجأةً ونحن نمشي وقالها لي ولأبي. فأطلق أبي ابتسامةً طبيعية، وفكّ ذراعيه، فشعرتُ بالحرج.
“أبي؟”
“إيف، أبلِي بلاءً حسنًا. ولا تنسي أن تسعدي سمو الدوق.”
وكانت نبرته العاطفة لا تزيدني طمأنينة، بل كأنّني بيل المسكينة وقد بِيعت للوحش، لولا أنّها فتاة صالحة لا أظنها سبت أباها.
ابتسم الخادم لي ابتسامةً عريضة وهو يهديني السبيل، وأبي يرمقني بضحكةٍ فيها عبء.
‘ما الأمر؟ لِمَ تصنع هذا بي؟’ كدتُ أبكي، لكن لم يكن أمامي إلا أن أتبع الخادم.
“ها نحن وصلنا.”
انحنى الخادم.
‘وهل هذا مشهد من حكايات الشرق، يوم تدخل وصيفةٌ إلى مخدع الإمبراطور؟ إنّه شعوري بالضبط. بل المعاملة نفسها. الأمر كلّه كاختيار.’
لا، بل الأمر معاكس. أولئك النسوة يُنتقين، أمّا أنا فجئت اليوم لأُطرَد.
وبينما أعقِد العزم، انفتح الباب ببطء أمامي.
“أأنتِ هنا؟”
دخلتُ المكتب فإذا بروبيليان قائمٌ أمام رفٍّ عامر بالكتب.
كان وجهه صورةً من الجمال، فأدهشني مرّةً أخرى، لكني، وقد جئتُ في مهمّة، حيّيته رغم ذلك:
“مرحبًا؟ هيهي.”
والآن، سنشهد سعي فتاةٍ وضيعة لأن تصير شريرة.
‘والحقّ، إن أردتِ التميّز، أليس من الأدب أن تحاولي إفساد الصورة؟’
“أيمكنني الجلوس هناك؟”
ابتسمتُ ابتسامة الحمقاء، وجلستُ متهاوية على الأريكة، أجاهد لأبدو أجهل ما أكون، بأفعال لا تلائم المقام.
“اجلسي.”
تأمّل روبيليان أفعالي قليلًا ثم أومأ.
وكان هادئ الطبع، خصمًا لا يُستهان به. أومأتُ وجلست.
“يشرّفني لقاؤك اليوم، سيّدة كلودا.”
“وأنا كذلك.”
قهقهتُ.
وروبيليان، على قهقهتي، لم يتجهّم، بل قال في سكينة وهو يرفع قدح الشاي:
“اشربي. هذا شاي تتلذّذه فتيات المجتمع الراقي في هذه الأيام.”
“يا للعجب، أعددته لي؟ شكرًا لك.”
ما إن فرغ حتى تناولتُ القدح. وكان وجهه يشرق بهدوء وهو يحتسي الشاي في وقار، بهيّ الطلعة.
‘يا للأسف على هذا الوجه الجميل!’
هززتُ رأسي، ونظرتُ إلى القدح. سواءٌ شابه روبيليان نيكولاس هولت أو غيره، فإنّ عليّ أن أُرفَض اليوم.
م. صورهم آخر الفصل
رفعتُ القدح إلى شفتيّ وأخذتُ أترشف –
“بفففففف!”
اندفع الشراب كالنار المندفعة من فم تنين.
‘أحسنت! زاويةٌ جيّدة، وكمية مناسبة.’
“أوه، أوه، ماذا فعلت؟أنا حقا آسفة.”
نظرتُ إلى المزيج من لعابي والشاي وقد لطّخ ثوبي والمائدة، فتحسّرت. لمّا حدّقتُ بروبيليان، وجدتُ وجهه قد تغيّر كما تخيّلتُه.
‘وكيف لا؟ وقد أصاب شرابي وجهه البهيّ!’
“يا إلهي، ماذا أصنع؟”
‘وهل ثمّة ما هو أروع من هذا؟ هذا عظيم!’
تململتُ ولم أفكر في مسح وجهه، بل ذهبتُ أبعد، فنفختُ عليه وقلتُ بإخلاص:
‘إن استمرّ الأمر، فسيبتلّ وجهه كلّه!’
“ماذا أصنع؟”
نظر إليّ روبيليان مليًّا، وأنا أكرّر: “ماذا أصنع!” دون أن أجد حلًّا، ولا أفكّر به أصلًا. بدا كأنّ لديه كلامًا كثيرًا، لكنه كبته.
فلمّا رأيتُه هكذا، أظهرتُ وجه البريئة:
” سيّدي، أكنتُ جافية الأدب؟”
“…لا. كانت هفوة، ولا حيلة فيها.”
‘أهذا الرجل وليّ صالح؟ أذكرتُ اسمه خطأ؟ أم هو بوديساتفا؟ أهناك خدعة؟’
م. آخر الفصل
‘بلغتُ هذا الحدّ ولم يكفِ؟ أأذهب وألحس وجهك كالكلب؟ أفتصرخ فيّ قائلًا: قذرة؟’
“لنبدأ بثوب السيّدة.”
“ها؟ ها؟ ثوبي… يا ويلي.”
نظرْتُ إلى ثوبي، فتذكّرتُ أنّني اليوم – في هذا اليوم بالذات! – ارتديتُ فستانًا من حرير رقيق.
كان فمي أوسع مما ظننت، فانسكب الشراب على المقدّمة. وما كنتُ لأفكّر أنّه سيظهر ما تحته.
‘آه، لو علمتُ هذا، لارتديتُ المخمل!’
وضعتُ يدي على جبيني، ألوم نفسي على حماقتي، وإذا بروبيليان يقول:
“سأعطيك ثوبًا تبدّلين به.”
“أوه، لا. دعه، لا حاجة.”
ربّتُّ على ذقني. فما زالت عندي خطط باء وجيم ودال وهاء وواو وزاي. ما كنتُ أنوي الرحيل حتى يأمرني بالخروج. وفي هذا الخاطر، تناولتُ المعطف وألقيتُه على كتفيّ.
“وهكذا، إن ارتديتُ المعطف، لا يُرى شيء.”
“….”
“ما الأمر؟”
رفعتُ رأسي بعد أن أزررتُ المعطف فإذا بعيني روبيليان، حمراوين كالجمر.
“لا أدري ما الذي يدور في بالك.”
“…هاه؟”
‘ماذا تقول؟’
أملتُ رأسي، ثم تنبّهتُ أنّ إظهار صادقي الآن خطر، فضحكتُ ثانية.
فإذا بابتسامةٍ تظهر فجأة على وجهه.
‘ابتسامة؟ ما هذا؟’
“كيف وجدتِ الشاي؟”
“أوه، كان لذيذًا.”
‘لا أعلم طعمه، فقد بصقته كله، لكن لا بأس.’ ابتسمتُ قسرًا وأنا أراه يمسح وجهه بمنديله.
“في الحقيقة، أنا أحبّ الطعام جدًّا.”
“أحقًّا؟ لا يبدو عليك.”
“ما كنتُ أحبّه أوّلًا، لكنّي أكلتُ لأشبع.”
وهذا حقّ، قبل أن آتي قبل خمس سنين، كانت إيفانجلين كلودا طريحة الفراش لا تغادره.
لكن بفضل جهدي لأتفادى الزواج بلوبيليان بعد أن حللتُ في جسدها، صرتُ قويّة.
وإن كانت ملامحها بريئة بائسة.
“حسنٌ أن تأكلي جيّدًا.”
“أجل.”
“طباخ الدوق ماهر، سيشبِعك عشاءً فاخرًا.”
“أجل، شكرًا… عفوًا؟”
عند قوله استغربت، فنظرتُ إلى النافذة.
النهار ما زال باكرًا، لم يبلغ الزوال. فلِمَ يتحدّث عن العشاء؟ أملتُ رأسي.
“أليس الغداءً لا العشاءً؟”
“أما قال لكِ أبوكِ شيئًا؟”
“…ماذا؟”
أربكني قوله، وسألته بقلق لا أدري سببه: ما الذي يحدث في هذا اليوم الجميل؟
فإذا به يجيب متعجبًا:
“ظننتكِ ستقضين اليوم كلّه هنا.”
“هاه؟”
قفزتُ من مكاني.
‘أبي!’
كدتُ أمزّق أبي. أيجوز لامرأة بالغة أن تبيت في دار رجلٍ لم يتزوّجها؟!
فتحتُ فمي دهشة، ثم شعرتُ بمبالغتي وجلستُ ثانية.
“آسفة، لكن أرى أنّ الأمر عسير.”
“لِمَ؟”
“فثمّة عيون المجتمع، وسيّد الدوق أعزب، وأنا ابنة عوام…”
كانت حجّةً ضعيفة، لكنني، وقد عرفتُ ما يأتي، خفتُ. فأنا في أعين القوم: ‘الفتاة التي غازلت وليّ العهد فردّها.’ إن نمتُ في قصر الدوق اليوم، فالله أعلم ما سيُقال غدًا.
بل قد تصدق الإشاعة.
“لا أرى بأسًا. زار قصر الدوق كثير من الضيوف.”
“لكنّك تعلم أنّ لي سُمعة سيّئة… أخشى أن أكون وبالًا على سمو الدوق…”
ولم يُبالِ، بل قال في هدوء:
“لن يحدث.”
“…!”
“سنتناول غداءً في الحديقة، ثم شاي العصر، ثم عشاءً فاخرًا.”
‘وماذا عن رأيي؟’
“فلا داعي للقلق.”
‘هذا عين القلق! أنت السبب الأكبر!’
أخذتُ أرمش في ذهول، إذ تُتجاهَل رغباتي تمامًا.
أما وجهه فظلّ ساكنًا، لم يُبدِ أدنى اشمئزاز مما فعلت.
ولوهلة قطّبتُ حاجبيّ وأنا أحدّق في عينيه الغائرتين.
‘عجيب! وسبب العجب…’
“سموك.”
ناديتُه ببطء، وأوقفتُ كلّ ما كنتُ أفتعله، وعدتُ إلى طبعي.
وعلى وجه روبيليان مر تعبيرٍ خفيّ.
قلتُ ببطء:
“أكانت لك صفقة مع أبي؟”
أتذكّر شخصية روبيليان جيّدًا بين كلّ روايات الغرام، إذ لم يزل في أولها مثال النبل واللطف.
فتخيّل صدمتي لمّا تمرّد في النصف الآخر، يريد قتل البطل وليّ العهد والبطلة معه.
وإذ اتّضح أنّ ابتساماته وأحاديثه المعسولة كانت كلّها خداعًا ليوقعهما في اليأس.
‘يا للخيانة! حسبتُه طيّبًا، فإذا به المدبّر، أصل الداء!’
والآن أشعر بالخيانة ذاتها.
من هذا الرجل نفسه.
“همم؟”
أطلق روبيليان صوتًا ذا معنى. فابتلعت ريقي وأنا أراه يبتسم ابتسامة ماكرة.
‘هذا الوجه ليس وجه طيب.’
وبقيت أشهر قلائل قبل أن يظهر حقيقته، ومع ذلك بدا هكذا…
ارتعدتُ من غير شعور.
“صفقة… لِمَ ظننتِ ذلك؟”
لا. لا يجدر بي أن أجيب الآن.
كلّ الظنون تدلّ أنّ بين هذا الرجل وأبي أمرًا خفيًّا، وإلا لما تحمّل هذا، وأنا أبصق الشاي في وجهه.
لكن لا شيء ثابت بعد. عليّ الآن أن أجعله يمقتني.
فابتسمتُ ابتسامة باهتة وقلتُ:
“هيه، خطر لي أنّه قد تكون هنالك صفقة.”
“ماذا؟”
“وإلا، فكيف لرجلٍ عظيم مثلك يا سيّد الدوق أن يدعوني؟”
واصلتُ الكلام نصف ضاحكة:
“إنها دعوةٌ مشرّفة، لكنك أبقيتني حتّى العشاء – وأبي ليس من حاشيتك…”
“ليس أنّه لا شيء البتة.”
‘هكذا إذن.’
“يا للعجب، إذًا أنا ممتنّة أيّما امتنان.”
غطّيتُ وجهي بكفّيّ وتبسّمتُ بخجل، لكن في داخلي كنتُ كبركانٍ يفور.
‘لو علمتُ هذا، لاغتلتُ أبي. فهو أبو إيفانجلين، لكنه عندي شيخٌ عرفته خمس سنين.’
فنظر روبيليان إلى وجهي مليًّا ثم نهض.
“إذًا، يحسن بك أن تبدّلي ثوبك ثم نخرج لغداء سريع في الحديقة.”
‘يا رجل، ما باله مهووس بثوبي؟’
“لا يصحّ شرب الشاي وأنتِ بمعطفك هكذا.”
أومأتُ وأنا أنظر إلى ملامحه. وإن كانت عقليتي تقول: ‘فات الأوان’، فإن عاطفتي تصرخ: ‘لا شيء يستعصي إن حاولتِ!’
قمتُ أخيرًا، ومضيتُ إلى غرفة الضيوف بهدي الخادم الذي لا أدري متى حضر.
***
كلمة بوديساتفا مصطلح بوذي أصله من اللغة السنسكريتية:
بودي = الاستنارة أو التنوير الروحي.
ساتفا = الكائن أو الكائن الحي.
فالمعنى الحرفي هو: “الكائن الساعي إلى التنوير”.
في البوذية:
البوديساتفا هو شخص بلغ مستوى عالٍ من الحكمة والفضيلة، وقادر على الوصول إلى حالة بوذا (أي التنوير الكامل).
لكنه بدلاً من أن يدخل حالة “النيرفانا” لنفسه، يختار أن يؤجل خلاصه لكي يساعد جميع الكائنات الأخرى على التحرر من المعاناة.
لذلك يُنظر إلى البوديساتفا باعتباره رمزًا للرحمة غير المحدودة والإيثار.
في البوذية المهايانا خصوصًا، البوديساتفات لهم مكانة روحية عظيمة، مثل:
أفالوكيتسفارا (رمز الرحمة).
مانيـوشري (رمز الحكمة).
كشيتغاربه (المُنقذ من الجحيم).
بإتختصار طلاسم شرقية وإلحاد فككم منه
التعليقات لهذا الفصل " 5"