4
خرجتُ من الغرفة مرتديةً أفخر ما على جسدي، مرفوعة الرأس في تيهٍ وكبرياء، أتلقّى أنظار الخدم في اعتداد.
‘ها، ما رأيكم؟ أليس مظهري غريبًا؟ كالمهرّج؟ أجل، هو ذاك!’
“آنستي، لا ترتبكي!”
توقّفتُ أمام قاعة الاستقبال، وأشرقت ابتسامة على وجهي عند كلمات أيدا. ثم رفعتُ قبضتي على هيئة من يستعدّ للقتال، وأخذت نفسًا عميقًا، وما إن فتح الخادم الباب، حتى نشرت مروحتِي البيضاء، ودخلت القاعة.
“آه، لقد حضرت إيف!”
غطّيت وجهي بالمروحة، فإذا بأبي يهرع إليّ وقد ارتسمت على محيّاه ابتسامة عريضة تكاد تبلغ أذنيه. كان فرحه بي ظاهرًا حتى لم أملك إلّا أن أضحك.
‘أيروق له أني قد تأنّقتُ وتزخرفتُ هكذا؟ لكن مهلاً، ألم يكن يكره هذه الزينة؟ أنظروا إلى تلك النظرة… ازدراء؟ أهذا حقًّا؟ لحظة…؟’
رمقتُ روبيليان من وراء المروحة، فبدت ملامحه مغايرة لما توهّمتُ، حتى عبستُ قليلًا.
‘ما هذا؟ أهو…؟’
كان يبتسم. نعم، يبتسم! بل كان ثغرُه يفيض بابتسامة خافتة فاتنة. مهما أعدتُ النظر، ومهما أضفتُ السوء إلى ظنّي، لم يتغيّر واقع أنّه يبتسم لي.
‘نعم، لقد كان يضحك. لكن، لِمَ؟ لِمَ؟ أليس يبغض كلّ بذخٍ وترف؟! وكم رششتُ من عطر قبل خروجي! وكم لبستُ من حليٍّ وزينة حتى صرتُ متجرًا متنقّلًا للجواهر! لِمَ إذاً؟’
وإنْ كانت مجرّد ابتسامة، فإن قلبي قد أطبق عليه يأسٌ عظيم. أليس يُقال: إن ابتدأتَ البداية على غير وِفق، فكلُّ ما بعدها يفسد؟ عضضتُ على شفتي تحت غطاء المروحة.
“إيف، اجلسي.”
أجلسني أبي على الأريكة، فرمقته بعينٍ تستغرب إفراطه في ودّه، فاعتراني ضيق، ثم تذكّرتُ أين أنا، فأرغمت نفسي على ابتسامة.
‘ربّما يتعمّد إظهار ذلك أمام أبي. لا تجزعي بعد، لم تفشل الخطة بعد.’
هززت رأسي وابتسمت ابتسامة الحمقاء العاشقة، التي طالما مقت أمثالُه رؤيتها.
“يبدو أنّ ابنتنا إيف قد اعتراها بعض الارتباك عند لقاء سموّكم، هاها.”
“لعلّه كذلك.”
“هي ابنتي، لكنّها طفلة محبوبة. وقد عانت ضعفًا منذ صغرها، لكنّها اليوم بخيرٍ تعتريها العافية وتتنقّل.”
“أجل.”
ومع إفراط أبي في تمجيدي، ظلّت على شفتي روبيليان تلك الابتسامة الغامضة. جلستُ إلى جانب أبي، وأنا أحدّق في روبيليان، مبتسمةً ابتسامة جامدة كابتسامة الدمى.
حتى أنا – وقد كنتُ في حياتي الماضية مولعة بالحليّ – بدوتُ لنفسي مُبالِغة، فكيف لرجلٍ يمقت الإسراف والغباء أن يقبل هذا المنظر؟ ومع ذلك لم يقطّب وجهه، بل ظلّ ينظر إليّ في هدوء.
‘ما الأمر؟ لِمَ؟’
بقيت صامتة. لا ريب أنّ الأخبار عن كراهيته للبذخ صحيحة، فهو بملبسه اليوم زاهد، بل مهذّب متقشّف كنبلاء يزدرون الإفراط.
‘فلماذا إذًا؟’
قال فجأة:
“رؤيتكِ على هذه الهيئة تثير في نفسي مشاعر جديدة.”
كان ذلك غريبًا حقًا، فابتسمتُ وأومأت برأسي.
“لقد كنتُ جافية يوم لقائنا الأوّل، أليس كذلك؟ هيهي.”
‘من الآن، سأكون ابنةَ ثريّ مدلّلة، حمقاء ساذجة، تتظاهر بالعفّة والفضيلة، لكنها تخفق لجهلها. آه، يا لها من شخصية مركّبة تحتاج تمثيلًا.’
طويتُ المروحة بعناية، ولعقتُ شفتي في حركةٍ متصنّعة مستفزّة، كمن تحاول الإغواء في ابتذال. ظللت أحدّق فيه بعينٍ تُظهر الافتتان.
‘ألستَ معتادًا على هذا في الحفلات؟ فليكن، أكون أنا إحدى أولئك الكثيرات.’
لكنّ نيّتي كأنها سُحقت بلا رحمة، إذ لم يُبدِ روبيليان ضيقًا ولا نفورًا. ولو كان تمثيلًا، لاستحقّ جائزة الأكاديمية.
“لو علمتُ أنّ سموّ الدوق سيأتي هكذا، لانتظرتُ في حجرتي في هدوء.”
ثبت بصره عليّ. تردّدتُ للحظة إذ بدت عيناه فاتنة لو شئنا مدحة، وموحشة إن أردنا ذمه. أجبرت نفسي على ابتسامة، فإذا بصوته المنخفض يملأ القاعة:
“أحقًّا؟”
‘…ماذا؟’
أملتُ رأسي. لم يكن تمثيلًا، بل صدقًا. لم أفهم مراده. فتابع:
“أتساءل هل كانت الآنسة ستنتظر حقًّا مطيعةً في حجرتها.”
‘…هاه؟ هذا الرجل…؟’
اهتزّ قلبي في صدري.
‘أيعلم شيئًا؟ مستحيل. ومع ذلك يبدو واثقًا!’
ابتسمتُ خجلًا وهززت رأسي.
“وكيف يكون ذلك؟ ولمَ أفعل ذلك وسموّ الدوق قادم؟”
فقال أبي:
“لطالما ظلّت إيف تقول إنّها تشتاق لرؤية سموّ الدوق.”
ثم أخذ يفيض في وصفي، مدّعيًا أنّي حتى في أحلامي أبكي شوقًا لرؤيته.
‘…ماذا؟ أبي، هذه مبالغة! بكاء في المنام من أجل رجل لم أرَ وجهه بعد؟ هذا ليس حُمقًا بل جنون!’
ومع ذلك، وافقته قائلة:
“نعم. لقد كنتُ أترقّب لقاءكم.”
‘حقًا لم أكن أريد لقاءك البتّة. لكن إن لم نقطع الطريق على الكليشيه المقيتة “أنتِ أول امرأة تعاملتِ معي هكذا”، فلن أرتاح.’
طال حديث أبي حتى أنهكه، فارتشف من فنجانه. أمّا روبيليان فابتسم ابتسامة جانبية:
“أرى، وهذا حسن.”
‘حسن؟ ليتك تمثّل هذا أمام والدي فقط. أما إن كنتَ تعني ما تقول، فأنت ذو خلل!’
“كنتُ قلقًا من أن تبغضني الآنسة.”
وكان وجهه خاليًا من أي قلق. هممتُ بالسخرية في نفسي، لكن أبي عاجله بالقول:
“وكيف يكون ذلك؟”
فأردف روبيليان:
“سنلتقي كثيرًا، وسيشقّ علينا الأمر إن بقينا على بغضاء.”
كان يبتسم، لكن برودة تسري من عينيه، ودفء مصطنع يعلو محيّاه. ابتسمتُ بدوري، وداخلي يمور بالانقباض.
‘كثيرًا؟ عبارة غريبة!’
رفع الكوب إلى شفتيه، وإذا بأبي يشرع في موضوع لا علم لي به. وبقيتُ بعده بقية النهار جالسة كالمزهرية على الأريكة، أُدخل جملة وأُسقط أخرى، حتى انقضى المجلس.
—
“آنستي، ما رأيكِ بسموّ دوق فلورنس؟”
“أه، أهذه القائمة التي أعطيتني إيّاها صحيحة؟”
“بلى! وإن بدا مظهري متواضعًا، فشبكتي واسعة!”
بعد لقائي القصير بروبيليان، عدت إلى غرفتي، فألقيت بجسدي على السرير عابسة.
“لكن… لمَ لم يظهر أي ردّة فعل؟”
“أي ردّة فعل؟”
“ألم تقولي إنّه يمقت البذخ والزهو؟ فلم لم يُظهر نفورًا وقد خرجتُ بتلك الهيئة؟ أما كان يجدر به أن يعبّر عن اشمئزاز؟”
انتفخت وجنتاي هواءً، وحدّقتُ في أيدا. فأطرقت رأسها متحيّرة:
“اعذريني يا آنسة، لم أفهم مقصدكِ جيدًا. أليس الأحرى ألا يُظهر نفورًا؟”
“آه، لا… هذا صحيح، لكن….”
تأفّفتُ في ضيق.
‘آه، ما أشدّ إحباطي! لا أحد أكاشفه همّي!’
تقلّبتُ على الفراش، ثم جلستُ متنهّدة.
‘قال: سنلتقي كثيرًا في المستقبل. لِمَ؟ أتُرى الزواج قد حُسم دون علمي؟ ولمَ يرغب بالاقتران بي أصلًا؟’
أمسكتُ رأسي متذمّرة:
“آه، هذا جنون.”
قالت أيدا:
“ما بكِ آنستي؟”
“آه… مزعج، مزعج، مزعج!”
‘ألا يحقّ لي أن أعيش حياتي كما أشاء؟ في حياتي السابقة اعتمدت على نفسي في كلّ شيء، ولم أقبل أن أكون كأخي المدلّل التافه، بل فارقتُ بيتنا وأعنتُ نفسي وحدي. وهنا… يُراد لي أن أُساق إلى موتي!’
قالت أيدا فجأة:
“آنستي، أترى سموّ الدوق غير راضٍ عنكِ؟”
فنظرتْ إليّ بقلق كمن يعزف وحده طبلًا ونايًا، كادت عيناها تدمعان. فتنهّدتُ وأجبتها بفتور:
“لا، ليس الأمر كذلك.”
فابتسمتْ منشرحة:
“كما توقّعت! كنتُ واثقة أن سموّ الدوق قد أعجب بكِ!”
فتجهّم وجهي.
‘آه، كأنني ابتلعت مئة بطاطا حلوة! لا، كفاني. عليّ أن أعيد التفكير في خططي.’
صحيح أنّ اللقاء لم يجرِ كما رسمت، لكن لا يزال ثمة أمل ما دام لم يُبدِ ميلاً إليّ. والآن وقد أصبحنا نلتقي، فلا سبيل لتجنّبه، إنما عليّ أن أُكثر من الأفعال الممقوتة. أجل، فالحبّ عسير، أما الكراهية فسهلة المنال!
واستجمعتُ نفسي، وسرتُ نحو منضدة الزينة.
“أزيلي مساحيقي.”
“سمعًا وطاعة!”
اقتربت أيدا متهلّلة، ووقفت خلفي تتهامس:
“مع ذلك… كنتِ اليوم باهرة الجمال.”
“ماذا؟”
“قلتُ، كنتِ فاتنة حتى كدتُ أصرخ من شدّة الدهشة!”
فضحكتُ مستهزئة.
‘جميلة وأنا غارقة في الريش والجواهر؟ هذا كذب!’
لكن كلماتها التالية جعلتني أتجمّد.
“صدّقيني، مع كثرة ما لبستِ، لم يغطِّ الحُليّ جمالك، بل زاده رونقًا، ألف عام من الكراهية سيختفي في لحظة!”
“ها؟”
“نعم! كثيرًا ما تطغى الزينة على الحُسن، لكن معكِ يا آنستي، أدركتُ اليوم أنّ جمالك هو الذي يُبطل بريق الجواهر!”
كانت عيناها الصافيتان تصدقان. عندها فقط فهمتُ لمَ كان الموظفون يتطلّعون إليّ في الممرّات.
‘أيعني… أنّهم لم ينظروا استغرابًا، بل إعجابًا؟’
آه! لقد قللتُ من جمال إيفانجلين! كان كلّ همّي أن أراعي ذوق روبيليان، فغفلتُ عن بديهة أنّ الزينة تزيد الحسناء جمالًا.
‘روبيليان فلورنس، عدوّي الأعظم!’
صرخت في نفسي مئة مرة. لم يعد صالحًا أن أستمرّ بخطّة الترف والبدخ. لا بدّ من تغيير.
“إذن… سأجعل هيئتي قذرة!”
“ماذا؟”
“لا شيء.”
عضضتُ شفتي وابتسمتُ انتشاءً. ‘لا أزال أملك أملاً. فما دام كارهًا للبذخ، فالنظافة المفرطة حليفه، والقذارة عدوّه. سأكون من القذارة بحيث أنفرُ الناس جميعًا!’
وانتظرتُ اللقاء القادم، وأنا أبتكر في ذهني كيف أبدو أبشع ما أستطيع.
وبعد أيام قلائل، جاءتني دعوة من قصر الدوق.
—
إيف غبية🙂↕️
التعليقات لهذا الفصل " 4"