الفصل العاشر
“قلتَ إنك ستجعلني إمبراطورة، أليس كذلك؟!”
اتّسعت عينا روبيليان دهشةً من كلماتي المفاجئة، فشعرتُ في داخلي بشيءٍ من الظفر وأنا أرى حاجبيه يرتجفان. نعم، هذا هو بيت القصيد!
“لقد عقدتَ صفقةً مع أبي، أليس كذلك؟ إنك، حين تُسقط جلالتَه وتغدو الإمبراطور، فسـ ـ أااااه!”
ما كدتُ أُكمل حتى رفع روبيليان يده سريعًا وأطبقها على فمي، وقد تجمّدت ملامحه فجأةً بعدما كانت هادئة. حينها أدركتُ أنني أصبتُ الهدف تمامًا.
تبادلنا النظرات، وتردّد قليلًا قبل أن يُخفض صوته ويهمس غاضبًا:
“احذري ما تقولين.”
“ممم! ممم، مكو!”
“ينبغي أن تبتعدي عن هذه الأمور، فهي فوق طاقتك.”
“كنه، اعهم هقد عكفها ههكه!”
“ماذا تقولين؟”
“كهن، لكوا!”
“لا أسمعك جيدًا.”
“من الهديهي ألا تفمع! أنف! أنف فمسك بفمي!”
“ماذا؟”
“ألا تفهم؟ أفكني؟”
“أهذه الفتاة حمقاء؟”
“أنف من فمسك بفمي! دهني! “
‘آآآه! من تظنّ نفسك تخدع؟ إن أردتَ أن تسمع، فاتركني! دعني! دعني!’
هل يفعل هذا عمدًا؟ كيف يفهم تمامًا ما يقوله لنفسه ولا يفهمني؟!
تنفّستُ بعسرٍ، وشعرتُ بأنّ ضغطي يرتفع حتى كاد الدم يغلي في رأسي. وبعد أن هدأ الجوّ قليلًا، قال روبيليان مجددًا بنبرةٍ صارمة:
“إيّاكِ أن تتفوّهي بمثل هذه الأمور الخطيرة عبثًا.”
“أفلفني!”
ولحسن الحظ، بدا أنه فهم هذه المرّة، فأرخى قبضته عن فمي. وبين نسيم الليل البارد وأنفاسي الساخنة، قلتُ له ببطء:
“إذن، لا يمكنك أن تُخبرني إياه؟ الشيء الذي قدّمه والدي مقابل زواجنا؟”
“لا وجود له.”
“أهو شيء ماديّ؟”
“قلتُ لكِ، لا حاجة لكِ بأن تعرفي.”
“أما يمكنك أن توضّح لي هذا على الأقل؟”
“إن كان شيئًا، فهو شيء. وإن لم يكن، فليس كذلك.”
تنهدتُ بعمق. اللعنة، لا جدوى من هذا أبدًا. من المستحيل أن ينجح الأمر على هذا النحو. أبي مستميتٌ ليجعلني إمبراطورة، وهذا الرجل سيتزوجني حتمًا ليحصل على ما عنده.
بمعنى آخر… عليّ أن أتزوجه مهما حدث.
الأصل! تبا لهذا الأصل! لِمَ يصعب كسره إلى هذا الحدّ؟!
في الرواية كان الأمر يسيرًا جدًا! والمنطق يقول إنّ أولئك اللاتي تبعن الأصل حرفيًا لا بدّ أنهنّ شوّهنه…
مهلًا، لحظة.
تطلّعتُ إلى روبيليان وقد خطرت لي فكرةٌ كالصاعقة.
إذن، التاريخ موجود ليُورّث التجارب للبشر اللاحقين… وإذا أخذتُ دروسَ أولئك اللاتي تلبّسن بالأعمال قبلي، ففعلي الآن يُخالف فلسفتهنّ في العيش…!
أهذا هو السرّ؟! أهذا؟!
اتّسعت عيناي كأنّي بلغتُ كشفًا عظيمًا.
في معظم القصص، كانت الطريقة بسيطة: أن تدخلي في الأصل ثم تكافحي لئلا تُخرّبيه.
فهل أنا أحاول تدمير الأصل بدفعه ليجري على نحو الأصل ذاته؟ أم أنّي لم أدخل الأصل بعد، ولذلك لا تسير الأمور كما أريد؟
إذن، إذا دخلتُ الأصل فعلًا ثم حاولتُ ألا أُفسده، فستزداد الأمور سوءًا!
“لِمَ تنظرين إليّ بتلك النظرة؟”
حدّقتُ بروبيليان طويلًا. لم يكن الأمر مستحيل التصديق تمامًا. ابتسمتُ ابتسامةً خفيفة وقلتُ في نفسي إنّه لابدّ لي من فعل شيءٍ الآن.
“لا شيء. فقط… فكّرتُ أنه ربما لا بأس بالزواج الآن.”
“هكذا فجأة؟”
“أجل، ألم تقل إنك ستجعلني إمبراطورة؟!”
لم يكن ذلك السبب الحقيقي، لكن لا بأس أن يظنّني طامعةً في العرش. ضحكتُ عاليًا لأبدو كأنّي امرأةٌ حمقاءُ مسحورةٌ ببريق الإمبراطوريّة.
رمقني روبيليان بنظرةٍ متضايقة وقال:
“ألعلّكِ خطبتِ وليّ العهد من قبل لا حبًّا به بل طمعًا في عرش الإمبراطورة؟”
“تلك صفحةٌ مظلمةٌ من حياتي! إن كنتَ تريد الزواج بي، فلا تذكر كلمة وليّ العهد أمامي بعد الآن!”
صرختُ بوجهه دون أن أدري أيّ سوء فهمٍ وقع فيه.
أمال رأسه قليلًا ثم أومأ كمن لا يريد أن يُتعب ذهنه.
“إذن لا تفعلي مثل هذا ثانية.”
“حسنًا، لن أفعل.”
ولم يكن ثمة داعٍ لأفعله أصلًا.
تنفّستُ بعمق وبدأتُ أبتعد، لكنّ روبيليان مدّ يده فجأة وقال:
“فلنذهب.”
“لا حاجة لي بمرافقٍ.”
“كاحلكِ مصاب بالالتواء.”
هاه؟ كيف عرف؟! اتّسعت عيناي.
أن تسقطي من الطابق الثالث وتخرجي سالمةً أمرٌ لا يحدث إلا في أفلام هوليوود، ولحسن الحظ لم يكن بي إلا التواءٌ طفيف في الساق. لا أعلم كيف أدرك ذلك، لكنّي أمسكتُ بيده، إذ كان المشي وحدي مؤلمًا فعلًا.
وبينما كان يسير بي عائدًا إلى غرفتي، وأنا أُراقب ظهره في ضوء الممرّ الخافت، عقدتُ العزم في سرّي:
من الآن فصاعدًا، سأغدو واحدةً من حُماة الأصل.
وفي صباح اليوم التالي، حين عدتُ إلى المنزل من قصر الدوق، وقد رافقني بعض رجاله، كان في استقبالي فمُ أبي وأمّي المشقوقان من الفرح.
لم أستطع إلا أن أشعر بالارتباك وأنا أرى وجه أبي، فقد كان من فرط وضوحه وطمعه المادي ما يجعل المرء يتساءل: أيُعقل أن يكون أحدٌ هكذا منغمسًا في الدنيا إلى هذا الحدّ؟
“لقد أحسنتِ يا ابنتي!”
ضحك أبي ملء فيه، وربّت على كتفي.
فصُدمت، وسرعان ما انصرفت إلى غرفتي متذرعةً بالإعياء.
ولم تمضِ برهة حتى دخلت عليَّ آيدا، وقد بدت على محيّاها فرحة أشد من فرحة والديّ، تهتف بحماس:
“آنستي، آنستي، هذا رائع! عرضُ زواج! عرضُ زواج!”
“كُفّي عن هذا.”
“ولِمَ؟ الآن ستُصبحين دوقة! ستغدين من النبلاء!”
‘دوقة؟ لو حدث هذا لمرة أو مرتين فسأهلك لا محالة.’
غطّيتُ رأسي بكفّي وأغمضت عيني بشدّة.
أحداث الأمس لم تغادر خاطري.
كلما مرّ الوقت ونظرتُ إلى الوراء، ازددتُ حيرةً من نفسي: ما الذي جعلني أُقدم على فعلٍ كهذا؟ إلى أين بلغ بي الجنون؟ وهذا ما جنيتُه آخر الأمر… آهٍ ما أرعب القدر إذا عبث بالناس!
“هذا تجاوزٌ لكل حدّ…”
هكذا تمتمتُ في نفسي، وشعورٌ من الاختناق يثقل صدري.
‘لماذا يبدو أن حياتي وحدي هي القسر بعينه؟ أليست حياة الناس رواياتٍ تُروى؟ لكن حياتي مأساة تامة!’
“لا، لِمَ يحدث هذا كل مرة؟! كلما حاولتُ الفرار أُمسِكت! هل وضع ذاك الرجل جهازَ تتبّع في جسدي؟ أم أننا توأمان ملتصقان؟”
“هاه؟” قالت آيدا متعجبة.
“لا أستطيع حتى الهرب بعد الآن.”
لقد صار الأمر الآن واقعًا: روبيليان قد تقدّم لخطبتي، وإن حاولتُ الفرار هذه المرة فلن يطاردني بيتي وحده، بل لعلّ أسرة الدوق بأسرها ستسعى ورائي.
كانت آيدا تثرثر بمرح، غير عابئة بما أُكابده من همّ:
“إنه أمرٌ رومانسي جدًا! حبٌّ بين نبيلٍ وفتاةٍ من العامة؟ هذا حقًا أشبه بحكايات الخيال!”
“حكاية خرافية؟”
“نعم! كقصة الأمير الراكب جوادًا أبيض! صحيح أن سموّ الدوق ليس أميرًا، لكنه…!”
تألّقت عيناها ببراءة الفتيات، غير أنني لم أستطع أن أشاركها الضحك.
“آيدا، ليس الأمر كذلك.”
“هاه؟ ما الذي تعنينه؟”
“ذلك الراكب على الجواد الأبيض… ليس بالضرورة أن يكون أميرًا.”
“ولمَ؟”
“لا قاعدة تقول إن من يركب جوادًا أبيض أمير.”
نهضتُ من الفراش، تنفّستُ عميقًا، ونثرتُ شعري بأصابعي.
ثم التفتُّ إلى آيدا التي كانت تنظر إليّ بعينين حائرتين، وقلت:
“قد يكون راكب الجواد الأبيض هو الراهب تريبتيكا.”
ذاك الذي في رحلة إلى الغرب، الذي يُختطَف دومًا وينقذه سون أو-غونغ*.
*رواية صينيه واللي أقتبس منها الأنمي الشهير دراغون بول.
حقًّا، لا قاعدة تقول إن راكب الجواد الأبيض أمير.
كما أن أبي حين قاد سيارة فيراري* لم يكن المدير التنفيذي في المسلسل.
موروها. الله يرزقنا
مالت آيدا برأسها، لا تفهم ما أقصد، أما أنا فتركتها وعدتُ أجلس أمام منضدة الزينة.
لم يبقَ إلا أمرٌ واحد: أن أدخل مجرى القصة الأصلية.
لكن هذه المرة… سأُغيّر مجراها، وسألوِي عُنق القدر بيدي.
راودتني تلك الفكرة فارتسمت على شفتي ابتسامةُ ثقة.
نعم، ألسْتُ أنا تجسيد العناد والإصرار؟
لقد ارتكبتُ الموبقات، وتسلّطت على الناس، وعشتُ في النعيم، ثم خرجتُ من بيتي وأحرزتُ شهادة المحاماة من أول محاولة، وأنا أقول: “سأزُجّ بعائلتي كلّها في السجن!”
فأيُّ شيءٍ سيكون عسيرًا عليّ بعد هذا؟
وبعد قليل…
في السنة الخامسة من حياة إيف، أي قبل دخول القصة الأصلية بأسبوع، تقدّم دوق فلورنسا رسميًا لخطبتي.
لكن في اليوم التالي مباشرة، حين وردني استدعاءٌ مفاجئ من وليّ العهد، لم يسعني إلا أن أحدّق فيه ذاهلة.
‘ما هذا؟ أهذا أثرُ اندماجي في القصة بدأ يظهر؟ أَوَقَعَ البطلُ في غرامي فجأة؟ أأنا أصبحتُ البطلة؟’
‘لكن… لم أفعل شيئًا بعد!’
꧁نهاية الجزء الأول꧂
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"