1 - . متجر التحف ذو اللافتة الخضراء في شارع بورتوبيللو(1)
01. متجر التحف ذو اللافتة الخضراء في شارع بورتوبيللو
في هذا العالم نوعان من الكُتّاب.
كاتب يواصل الكتابة بلا توقف،
وكاتب لا يستطيع في حياته كلها أن يكتب سوى عملٍ واحد.
كانت آن سيلين بلا شك من الصنف الثاني.
قبل أكثر من عشرين عامًا، حقق أول عمل كتبته آن سيلين، <الأميرة والفارس>، نجاحًا مدوّيًا غير مسبوق.
كانت القصة بسيطة إلى حدٍّ لافت، ولم تضم سوى شخصيتين فقط.
أميرة جميلة بشَعرٍ أحمر متّقد كاللهيب،
وفارس أشقر يقع في حبّها من النظرة الأولى.
يركع الفارس أمام الأميرة ويطلب يدها.
فتجيبه الأميرة قائلة: “إن انتظرتَ تحت شرفة غرفتي مئة يومٍ وليلة، سأُصدّق حبك وأتزوجك.”
ومنذ ذلك اليوم، يجلس الفارس أمام قصرها لا يتحرّك، لا يفعل شيئًا سوى التحديق في الأميرة.
لا يبرح مكانه، سواء تساقط الثلج أم هطل المطر.
و هكذا تمرّ تسعة وتسعون يومًا،
ولا يتبقّى أمام الأميرة والفارس سوى ليلة واحدة فقط.
لكن في ذلك اليوم بالذات، ينهض الفارس للمرة الأولى.
ثم يمضي بخطواتٍ بطيئة،
ويختفي في الغابة العميقة خلف القصر.
وهناك… تنتهي القصة.
نهايةٌ فارغة إلى حدٍّ صادم.
لكن الناس ازدادوا اشتعالًا بسببها.
اندلعت النقاشات في كل مكان حول الخاتمة.
‘لماذا غادر الفارس قبل يومٍ واحد فقط؟’
‘هل كانت الأميرة تحبه فعلًا؟’
‘هل التقيا مرة أخرى؟’
انهالت رسائل القرّاء المطالبين بجزءٍ ثانٍ على دار النشر.
لكن الكاتبة لم تُجب عن أي سؤال.
مرّت عشر سنوات، ثم عشرون سنة.
وبدا أن اسم الكاتبة مجهولة الوجه، آن سيلين، يتلاشى في غياهب النسيان.
لكن بعد عشرين عامًا، أمسكت آن سيلين بالقلم من جديد.
وكتبت القصة التالية لـ <الأميرة والفارس>.
وكان وصول تلك المخطوطة إلى يد محرّرة مبتدئة تخرجت حديثًا من الجامعة تُدعى كورديليا غراي…
أقرب إلى معجزة.
كانت هذه أول مخطوطةٍ تصل باسمها،
وإذا بها تتمّة لعملٍ شهير يعرفه الجميع!
حين أمسكت كورديليا بالمخطوطة للمرة الأولى،
كانت يداها ترتجفان من فرط الحظ الذي لا يُصدَّق.
لم تعد تتذكّر الآن بأي مشاعر قرأت النص وكتبت المقترح.
كل ما تتذكره أنها قرأت مرارًا وتكرارًا بداية المخطوطة وملف إعداد الشخصيات المرفق معها،
حتى اهترأت الصفحات بين يديها.
وعندما أفاقت…
كانت قد وصلت إلى هذا المكان.
نعم، هذا المكان بالذات.
كانت كورديليا قد سلّمت المخطوطة والمقترح إلى رئيسة التحرير ماريان،
وتنتظر الآن أمام مكتبها.
هل مرّت ساعة كاملة وهي تتجوّل قلقًا أمام الباب؟
في المكتب الذي كان يعمّه الصمت، بدأ أخيرًا صوتٌ ما يُسمع.
بسرك.
بسرك.
بسرك.
ثم…
بَخ.
صوتٌ يعرفه جميع موظفي دار نشر بلومزبيل.
صوت ماريان، رئيسة التحرير، وهي تُجعّد مخطوطة لا تعجبها وترمي بها جانبًا.
***
“هذا عملٌ رديء.”
“لكن العمل السابق حقق نجاحًا هائلًا.”
“كان بفضل الرسومات التوضيحية. الرسّام كان ممتازًا.”
“النص كان جيدًا أيضًا.”
“ربما وفق منظورٍ من قبل عشرين سنة.”
“لكنها ظلت تُباع طوال عشرين سنة. هل تعرفين كم نسخة بيعت منها العام الماضي؟”
مدّت كورديليا الأوراق التي أعدّتها، لكن ماريان لم تنظر إليها حتى، واكتفت بابتسامة ساخرة.
“هذا لا يعني أن العمل التالي سينجح.”
“سيدتي، الناس ما زالوا يتساءلون عن التتمة.”
“فليواصلوا التساؤل. كورديليا غراي، هل تعرفين لماذا ظل هذا الهراء يُباع كالنار في الهشيم طوال عشرين عامًا؟”
“…لأنه ممتع؟”
“لا. لأنه انتهى بعلامات استفهام.
لماذا غادر الفارس؟ ولماذا قبل يومٍ واحد فقط؟ هل التقيا مجددًا؟ هذا ما يثير فضول الناس.”
“بالضبط! ولهذا نحتاج إلى التكملة، أليس كذلك؟”
“لا نحتاجها. إصدار هذا أسوأ من عدم إصداره أصلًا. إن نُشر، ستنهار مبيعات العمل الأول.”
لم يكن هذا الاحتمال نادرًا.
وبينما كانت كورديليا تفكّر في ردّها، تابعت ماريان:
“لا أحد يريد أن يقرأ قصة أميرة تنطلق للبحث عن فارس.”
“أنا أردتُ ذلك.”
“ماذا؟”
“عندما قرأت لي أمي هذا الكتاب في طفولتي، لم أستطع النوم من شدّة فضولي لمعرفة سبب رحيله.”
“أجل، ولهذا أنتِ هنا، محاطة بالكتب.”
“لستُ الوحيدة. جيلي بأكمله كان مولعًا بهذه القصة. كثيرون انتظروا التتمّة. سيحبّونها.”
“إن كانت منطقية، نعم.
لكن أميرةٌ تقوم بعمل فرقةٍ خاصة؟ تخرج وحدها؟ حافية القدمين في الغابة؟ تسبح في بحيرةٍ لعشرة أيام؟ يا له من هراء.”
“هذا… أليس ترخيصًا شعريًا، بل روائيًا؟ على أي حال، أليست هذه طبيعة الحكايات الخيالية؟”
“يا لَسَعَة صدركِ.”
“يجب أن يكون تعاملنا مع الأدب جليلًا ومتسامحًا.”
قالت كورديليا ذلك وابتسمت ابتسامة مشرقة.
تنهدت ماريان بعمق وحدّقت بها.
“لماذا تُصرّين هكذا؟ هل كتبته أنتِ؟”
“لأنه عملٌ جيد.”
“أين الجيد فيه؟ لقد كرهته قبل عشرين عامًا، وما زلتُ. إنّه يفتقر للتماسك، و مليء بفجوات الحبكة…”
“…لكنه رومانسي، أليس كذلك؟ ولهذا نجح.”
لم تنكر ماريان ذلك.
اكتفت بالنقر بلسانها قائلة: “رومانسي… لكاتبٍ ميت.”
كاتب الضربة الواحدة. (one-hit wonder)
كاتب ميت.
لينا: كاتب الضربة الواحدة هو تعبير يُطلق على الكاتب الذي يحقق نجاحًا كبيرًا بعملٍ واحد فقط، ثم لا يستطيع تكرار ذلك النجاح لاحقًا، إمّا لأنه لم يكتب أعمالًا أخرى، أو لأن أعماله التالية لم تلقَ الصدى نفسه.
هكذا يُطلق في عالم النشر على من ينجح بعملٍ واحد ثم يختفي.
وكانت ماريان تعلم جيدًا أن عودة كاتبٍ كهذا إلى النجاح أمر نادر.
لكن كورديليا غراي، المحررة الجديدة التي ما زالت تبتسم رغم كل التوبيخ،
لم تكن تبدو معنيّةً بهذه الحقائق.
“أعرف أن الحالات قليلة، لكن هذا العمل مختلف. إنه ‘حقيقي’.”
“ومن أين تعلمتِ هذا التعبير؟ ‘حقيقي’؟”
“إن كان إصدار كتابٍ مجازفة، فلنبدأ بنشره في مجلة إلكترونية. الضغط سيكون أقل، وإن لاقى نجاحًا، نصدره كتابًا. أليس كذلك؟”
في عيني كورديليا الخضراوين الواسعتين،
توهّج حماس لا يملكه سوى المحررين في عامهم الأول.
هزّت ماريان رأسها.
“حسنًا.”
“حقًا؟ تقصدين…؟”
“جرّبي. لكن أعمالكِ المعتادة باقية. على الأقل لن نخسر شيئًا.”
“سأعمل ساعات إضافية! شكرًا! شكرًا جزيلًا!”
“لا داعي للشكر. كنتِ ستعملين ساعات إضافية على أي حال.”
“بالطبع، بالطبع.”
آنذاك فقط، وهي تهز رأسها بحماس،
لم تكن كورديليا تعلم أن الكاتبة آن سيلين ستصبح مصدر إزعاجٍ حقيقي لها.
كان يجب أن تتوقّع ذلك عندما وصل أول إرسالٍ بالبريد لا بالإيميل.
يبدو أن البريد الإلكتروني لا وجود له في قاموس هذه الكاتبة.
كتبت كورديليا رسالة تطلب فيها عنوان بريد إلكتروني ورقم هاتف، وتوقّعت ردًا عمليًا خلال يومين.
لكن بعد أسبوع كامل، وصلها رد داخل ظرفٍ أصفر أنيق، مختوم بختم البريد، على ورقٍ باهت.
“لا أملك رقم هاتف. ولا بريدًا إلكترونيًا…”
هل هو عدم امتلاك فعلًا،
أم طريقةٌ ملتوية لقول: ‘لا مكان للإيميل في حياتي’؟
“لا تقل لي…إنّها بلا كمبيوتر..؟”
تمتمت كورديليا، فلوّح غاريت الجالس بجانبها بيده.
“كثير من الكتّاب الكبار ما زالوا يكتبون يدويًا.”
“في هذا الزمن؟”
“آخر عملٍ لها قبل عشرين سنة، أليس كذلك؟ الكتابة حينها كانت بالقلم.”
“لكن بلا إيميل ولا هاتف؟ هذا غريب.”
“ربما هذا بسبب الفوبيا. لا مفر، ستقابلينها وجهًا لوجه.
ثم لا يوجد موعد نشر بعد، فلا تستعجلي.
لكن لا تقولي لي إنها بلا منزل أيضًا؟”
“هذا مستحيل.”
لكن ذلك المستحيل أمسك بكورديليا بعد أسبوع.
وصل ظرف آخر أنيق، وفيه عبارة مكتوبة بآلة كاتبة.
“لا أملك عنوان منزل.”
‘هل أنتِ موجودة أصلًا، سيدتي الكاتبة؟’
كتمت كورديليا صرختها وواصلت القراءة:
“لحسن الحظ، لدي مكان أترك فيه المخطوطة.
في آخر شارع بورتوبيللو متجر تحف بلافتة خضراء.
تعالي مساء الأربعاء الساعة السابعة.
لا يوم آخر، لا وقت آخر.
سيكون هناك موظف رجل أنيق بانتظارك.
خذي المخطوطة منه.”
“انها تعيش في حكاية خرافية.”
ضحك غاريت من خلف الحاجز.
استمرّت النكات طوال اليوم،
وماريان تنقر بلسانها استنكارًا.
“على الأقل قالت إن هناك موظفًا وسيمًا.
تبدو بارعة في إغواء القلوب.”
“ربما.”
“أأرافقكِ؟ لأحمي محررتنا الجديدة؟”
“لا داعي. بعد الدوام وسآخذ المخطوطة وأعود.”
“لقد تورّطتِ يا كورديليا غراي.”
“الغريب أنني لم أعد أشعر بالإزعاج.
بدل الإيميل، تترك مخطوطة عند موظف أنيق في متجر تحف…
أليس هذا رومانسيًا؟”
“رومانسي؟ ما زلتِ طازجة! محررون يونيكورن!”
ضحك الجميع.
لكن كلمة ‘رومانسي’ لم تكن مزحة.
مخطوطة مودعة في متجر تحف…
أليس هذا أشبه بالبحث عن كنز؟
كتمت كورديليا ابتسامتها،
وأخفت قلبها المنتفخ شوقًا،
واكتفت بانتظار موعد الخروج.
التعليقات لهذا الفصل " 1"