إلى الأمير آرتشي الهادئ أبداً، الذي يجعلني أقفز طرباً كلّما تذكّرته،
ألا تكون جالساً هكذا بلا حراك، تنتظر رسالتي أن تصلك، أليس كذلك؟
أسرع وأرسل نويل إلى السيّدة جوزفين.
ولْتكن بركات الناسخ بَيدَر ملازمةً للسيّدة جوزفين، تشجّعها على أن تفيض علينا بجرعةٍ أخرى من القيل والقال.
لقد متُّ شوقاً ولا يغمض لي جفن، أتقلّب فضولاً وأنا أفكّر في رسائل الأميرة إدُوِينا، وفي ما وراء الكواليس من حكايات الأمير راينر.
كيف غدا الأمير راينر هو نفسه السير آرثر غيلن؟
أهو «سير آرثر غيلن» مجرّد رمزٍ سرّي بينهما، لعلّه يشبه ما بيننا نحن من عبارة «أنا على قيد الحياة»؟
ملحوظة: بالمناسبة، أترى من المقبول أن أُطلّ على هذه الرسالة التي أذِنت بها السيّدة جوزفين لابنة إدُوِينا وحدها وإبن أديلايد؟ أيّها الأمير الحبيب آرتشي ألبرت، أيّها اللصّ الأظرف، إنّني أزعم لنفسي معايير أخلاقية أرقى من معاييرك، كما تعلم.
في مطلع قمر الثمار،
ــ كورديليا، المنتشية بعد قراءة رسالة لم أتسلَّ بها بمثلها منذ حين طويل.
* * *
إلى صديقتي المراسلة، كورديليا، التي لا تتورّع عن إظهار قلّة اعتمادها على رسائلها،
سلام من صديقك بالمراسلة، آرتشي، المحبط لكونه لا يحسن أن يخطّ رسالة أظرف من رسالة السيّدة جوزفين.
فلنترك عبارات التحايا جانباً ولنأتِ إلى ما أمرتِ به رأساً.
إنّ نويل في هذه اللحظة ذاتها في قلعة السيّدة جوزفين. كنتُ أعلم أنّك ستأمرين بهذا، فأرسلتها ما إن وصلتني رسالتك. ولا شكّ أنّها الآن قد وجدت سريراً ألين ألف مرّة من أسرّة الدير، وأقلقت الليدي جوزفين باندفاعها.
في الحقيقة، يا كورديليا،
رغم أنّي لم أبُح لك من قبل بتفاصيل الأمر، فإنّ صغيرتنا نويل بمنزلة الابنة المدلّلة، تحظى بحبّ الجميع في دير لِيثي إلى حدّ يكاد يبلغ الهوس.
والشيخ بَيدَر لا يكفّ عن القول إنّ على نويل أن تُبعث إلى بيتٍ كريم قبل أن يفوت أوانها، لكن أفعاله كلّها تُظهر أنّه لا ينوي تزويجها البتّة.
ومؤخّراً جاءت امرأة ثقيلة الظلّ من القرية، تعرض أن تأخذ نويل لتساعدها في الأعمال المنزلية ورعاية صغارها، لكن بَيدَر رفض رفضاً قاطعاً، قائلاً إنّ نويل قد أُودِعت عنده من أسرةٍ نبيلة ولا يصحّ أن تُسخَّر لمثل هذا.
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ.
فأشرس نَهَمي الدير، فيليب ولويس، رفضا أن يلمسا الدجاجة التي جاءت بها تلك المرأة، ثمّ «سهواً» سكبا عليها دلواً من الماء ليطرداها!
وبقدر ما يحوط بَيدَر وكتبة الدير السبعة نويل بالحماية، لم أتوقّع قط أن يُجيزوا طلب السيّدة جوزفين في استعارتها مرسلةً للرسائل. لكنّي، على أيّ حال، قلتُ: فلأسأل الشيخ بيدر …
وتبدّدت كلّ توقعاتي. فما إن أخبرت بيدر أنّ السيّدة جوزفين ترغب في رؤية نويل مرّة أخرى، حتى ارتسمت على وجهه ملامح غريبة. ثم استدعى تيلبرت وشرع يهمس له بشدّة، فيما كان تيلبرت يردّ عليه بإشارات وحركات لا يفهمها سواه.
لا أعلم أيّ مؤامرة كانا يحيكان، لكن بعد نقاش جادّ بين الراهبين، أُذِن لنويل ـ ولأوّل مرّة في حياتها ـ بمغادرة الدير.
وطبعًا لم يكن مسموحًا لها بالذهاب وحدها، فانتُدبت فْلين لتكون رفيقتها. وقد انطلقا معًا نحو قلعة السيّدة جوزفين قبل يومين.
ومع ذلك لم تُبدِ أيّ إشارة على العودة. وقلعة السيّدة جوزفين قريبة من الدير، بل كان يمكنهما قطع المسافة في يوم واحد، ويبدو أنّهما يُستقبلان هناك بحفاوة عظيمة.
والآن، يا عزيزتي كوكو، التي لا بدّ أنّها تعبس ساخطًة في هذه اللحظة،
لقد تمكّن مراسلك ـ بطريقة ما ـ من الحصول على رسالة الليدي جوزفين. والحقّ أنني لم أبذل جهدًا يُذكر، فالأمر كلّه كان بفضل كرمها؛ إذ إنّها لم تُعِد فْلين ونوال، بل بعثت أحدًا آخر ليحمل الرسالة.
وكان مكتوبًا على الظرف: «إلى ابنة إدوينا النافدة صبرًا»، ممّا يوحي بأنّ فْلين لا بدّ أنّها كانت تحثّها على العَجَل. وهذا يلائم طبعكِ العجول، أليس كذلك؟
والآن، اطوي هذه الرسالة المملة منّي، وافتحي تلك التي كتبتها الليدي جوزفين وزيّنتها بشريط أنيق. لقد فرغت من قراءتها آنفًا، وأعترف بأنني لا أستطيع مجادلتك.
إنها أمتع بكثير من رسالتي. وإن لم يأتِ ليامكِ بخاتمةٍ جيّدة، فإني ميّال إلى اقتراح طباعة رسائل السيّدة جوزفين في كتاب.
– مراسلك الفضولي على الدوام، آرتشي ألبرت.
ملحوظة:
دعكِ من تلك المعايير الأخلاقية السامية. فإنّ فلوريان، التي تسلّمت الرسالة، قالت بالحرف الواحد: «تأكّد أن ترى كورديليا هذه».
* * *
إلى ابنة إدوينا، التي تقرأ هذه الرسالة الآن على الأرجح مع ابن أديلايد،
يسرّني أن أعلم أنّ رسالتي السابقة قد أشبعت فضولكِ.
وإن كنتُ أعلم أنّكِ ستتشوّقين لمعرفة ما جرى بعد ذلك، فقد امتنعتُ عمدًا عن قول المزيد. اعتبريها حيلة ماكرة من عجوز يزداد دهاؤها بمرور السنين. فقد شعرتُ أنه لو لم أفعل، لما سنحت لي فرصة رؤية نويل الصغيرة مرّة أخرى.
وقد نجحت خطّتي تمامًا؛ فها هي تلك الفتاة تقفز فوق الفراش الوثير كأنّه حقلٌ عشبي، بينما أجلس في الغرفة المجاورة، أكتب هذه الرسالة وأنا أصغي إليها. وهذا ردّ لكرمكم.
أما وقد سألتِ: كيف أصبح الأمير راينر السير آرثر غيلن؟
فلنعد إذن إلى أيّام رُويتلنغن.
فمنذ أن اكتشفت الأميرة إدوينا سرّ الأمير راينر، تحسّنت حياتُنا في وينترتون كثيرًا. على الأقلّ، لم نعد نخشى الجوع. إذ كان الأمير راينر، وفيًّا بوعده، يجلب لنا البطاطس والخبز وحتى اللحم بشكل شبه يوميّ.
ومع ضخامة جسده، لم يكن حمل كلّ ذلك أمرًا عسيرًا عليه، لكن بوجهه الشاحب، كأنّه لم يذق طعامًا طيّبًا بنفسه، وبملامحه الرقيقة، أشبه بزهرةٍ من بيت زجاجي، بدا دائمًا كأنّه يعاني مشقّة في أداء هذه المهام.
في المقابل، كانت الأميرة إدوينا، على صغرها، سريعةً وخفيفة الحركة. وقد بدت أوثق اعتمادًا من الأمير راينر حين يتعلّق الأمر بتدبير المؤن.
فكلّما رتّبت الأميرة المؤن ووزّعتها على الآخرين، جلس الأمير راينر مسندًا ذقنه إلى يديه، يحدّق بها بإعجاب عميق، كأنّه يشاهد سحرًا حيًّا. ولم يكن يلبث أن تلتقط الأميرة تلك النظرة حتى تنهره قائلة:
فننفجر جميعًا ضاحكين من منظر الأمير راينر وهو يهرع مسرعًا لمساعدتها. ورغم أنّه كان أميرًا من دولة منافسة، لم نملك إلا أن ننسى تلك الحقيقة ونحن نراه هكذا.
فمن ذا الذي يمكن أن يكره إنسانًا يبتسم ببراءة، حتى ونحن نضحك على حسابه؟
وكان يقول وهو يجلس بين الخدم، مازحًا في فخر طفولي:
«كلوا كثيرًا. وإن لم يكفِ الطعام فأخبروني، حسنًا؟ آه، على فكرة… اللحم! لم أستطع أن أجيء به بسهولة، فأعطيتكم حصّتي. لكن لا بأس! فأنا لا أحبّ اللحم أصلًا…»
فمن ذا الذي يستطيع مقاومة مثل هذا الأمير الساحر؟
وهكذا، أصبح الأمير راينر صديقًا للجميع في وينترتون.
غير أنّ هذا المموّن الأخرق لم يكن يكاد يأكل لنفسه شيئًا. وبرغم حدّة لسان الأميرة إدوينا، فقد كانت ذات قلب رحيم، لا تكفّ عن القلق على ضعف شهية الأمير راينر.
«لِمَ لا تأكل؟»
…ومهما حاولت أن تُخفي ذلك بلهجتها الجافة، فقد كان القلق بادياً على ملامحها. ومع ذلك، لم يكن الأمير ـ مهما ألحت عليه ـ يتناول الكثير دفعةً واحدة.
«لا، لا، أنا بخير.»
«هيا، تناول شيئاً على الأقل.»
«إدوينا، لا تشغلي بالك بي. يكفيني أن أشعر بالشبع وأنا أراكِ تأكلين.»
وإذ يقول ذلك بابتسامة رقيقة، كدتُ أقع في هواه أنا نفسي. لكن الأميرة إدوينا لم تكن تنظر إليه كرجل؛ بل كما لو كانت سيّدةً تتحسر على كلبها الذي يأبى الطعام.
«ألستَ تعطينا كل طعامك وتجوع نفسك؟»
«وإن فعلت؟ ما دام أنتم شِبْعانين، فذلك يكفيني.»
«مع ذلك، تعال إلى هنا.»
فيمتثل الأمير لأمرها مطيعاً، كجروٍ صغير يُهرع إلى صاحبته.
«هاه؟»
«كُلْ حبّة بطاطا على الأقل. كيف ستقود الإمبراطورية وأنت على هذا الحال؟ أيّ أمير أنت؟»
ثم تدسّ حبّة البطاطا في فمه قسراً، غير أنّ الأمير كان يتلقّى هذا الإكراه كما لو كان لفتة حانية تطعمه بيدها، فيحمرّ وجهه من الفرح.
«إدوينا، هذه البطاطا لذيذة.»
«حسنٌ، والآن كُلْ كما ينبغي.»
«لكن، تعلمين… إنكِ غبية. كيف أكون أنا إمبراطوراً أصلاً؟ بطبيعة الحال سيصير أخي إمبراطوراً، وعندها قد أُقتل.»
فتجيبه الأميرة في ضجر:
«يا للسماء… لِمَ يعاملونك على هذا النحو؟»
«هكذا هي الأمور. لكنك، يا إدوينا، لا تختلفين عني كثيراً…»
كانت حكاية محزنة حقاً، وفي مثل هذه اللحظات كنّا ـ أنا والخدم الآخرون ـ نتغافل متعمّدين ونشيح بنظرنا بعيداً. أمّا من كانا يجرؤان على الضحك على ذلك فهما الأمير راينر والأميرة إدوينا فحسب.
«صدقتَ. نحن الاثنان أبناء ثوانٍ منبوذون، أليس كذلك؟»
«حقاً. لا بُدّ أنّنا خُلقنا لبعضنا، ما رأيكِ؟»
فينفجر الأمير ضاحكاً بملء فمه، مستبشراً بهذا التشابه بينهما. بينما تجد الأميرة ضحكته مثيرة للسخرية، فتجذب وجنتيه بيديها وتشدّهما في مزاح يائس. كان مشهدًا كأنّه بين كلبٍ مُدرَّب وصاحبته.
أمّا أميرتُنا إدوينا، فلم ترَ في الأمير آنذاك إلا جروًا وفيًّا يتبعها حيثما ذهبت، لا مفرّ لها من إطعامه والاعتناء به. نعم، هو الذي كان يجلب لها الطعام، لكنّ ملامح العلاقة لم تتغير.
غير أنّ الأمير راينر، لم يكن يرى أميرتنا بتلك النظرة قط.
وقد أدركتُ ذلك بعد زمن غير بعيد…
في ذلك الحين، أخذت زيارات الأمير راينر تقلّ شيئاً فشيئاً. يأتي يوماً، ثم يغيب يومين، ثم يحضر ثانيةً ليختفي ثلاثة أيام أخرى.
وحين كان يزورنا، كثيراً ما بدا مترنّحاً في مشيته، أو يسعل أثناء حديثه، أو يعلو وجهه حُمّى.
وبرغم اعتلاله الظاهر، ظلّ يجرّ لنا المؤن، بل ويحمل أكثر مما اعتاد. لكن للأمر حدوداً، ومع العيون المتلصّصة من كل صوب، لم يكن ممكناً أن نبعث بغيره ليأتي بالطعام.
ثم، بعدما تجاوز غيابه عشرة أيّام، بدأت مؤونتنا تنفد.
ومن العجيب هشاشة المشاعر البشرية؛ فبعد يوم، يومين، ثلاثة بلا طعام، أخذ القلق الذي كنّا نُكنّه لصحة الأمير يتلاشى شيئاً فشيئاً، ليحلّ محلّه إلحاح الجوع. فلم يعد في وسعنا أن ننتظر عودته إلى ما لا نهاية، ووجب علينا أن نفعل شيئاً.
هنا بدأَت لعبة الأميرة إدوينا المسماة “لعبة وصيفتها”.
تقدّمت الأميرة بنفسها لتجوع بدلاً عنّا. وكانت أوّل من ارتدى ثيابها وأكل مكانها أنا.
ولم يكن ذلك لأنني أرفع مقاماً، ولا لأنني كنت الأضعف أو الأكثر طمعاً.
إنّما كان فينا بعدُ شيء من الحياء والتورّع والرهبة، فلم يجرؤ الخدم على ارتداء ثياب الأميرة والجلوس موضعها إلى المائدة.
بل إنّ بعض الفتيات الصغيرات غُشي عليهنّ لمجرّد أن طُرحت عليهن الفكرة. عندها نقرت الأميرة بلسانها، ثم رمت إليّ بثيابها قائلة:
«أنتِ أوّلاً. إن فعلتِها، تجرأوا كلهم من بعدك.»
وأما أنا، فلم يكن في الأمر عناء. فقد قضيت من العمر ما يكفي وأنا أناديها باسمها وأؤدي دور صديقتها. وكم من مرة في صبانا نزعت تاجها لتضعه على رأسي أو على رأس أديلايد.
هكذا بدأنا تبادل الأدوار. في اليوم الأول، جاء أهل رويتلنغن بالفطور، فملأتُ بطني الخاوية بقدر ما استطعت. وبينما آكل، احتشد الجميع من حولي، ينهالون عليّ بالأسئلة.
«ألم يشكّ أحد في شيء؟»
«كيف كان؟ كيف مذاق طعام رويتلنغن؟»
«دعيني أجرّب ذلك الغطاء، يا جوزفين.»
وفيما كنت محاطة بهم، على وشك خلع الغطاء عن وجهي، إذا بصوت طرق مفاجئ يهزّ المكان، وينفتح باب الملحق بقوة. فتجمّدنا جميعاً: أنا والغطاء نصف مرفوع، الخدم ملتفّون حولي، والأميرة إدوينا متنكرة في هيئة وصيفة.
كانت المرأة التي دخلت عجوزاً أحدودب ظهرها، توحي ثيابها بأنّ لها منزلة رفيعة.
ساد الصمت الغرفة حتى خُيّل إليّ أنّي أسمع خفقان قلب الوصيفة الصغيرة الجالسة إلى جواري.
ولم تكن الأميرة إدوينا، ولا أحدٌ من أهل وينترتون، هم من قطعوا ذلك الصمت، بل كانت العجوز الصارمة الملامح، القادمة من رويتلنغن، أوّل من تكلّم.
قالت بلهجة جافة:
«ما بالكم مجتمعين هكذا؟»
كانت تتحدّث بلغة وينترتون. نبرتها، أسلوبها في الكلام—كلّ شيء كان مشابهاً تماماً للأمير راينر.
وهكذا التقينا مُربية الأمير راينر، العجوز “هيلدا”.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات