لو لم يكن لدينا خزانة كتب، ولو أن رسالتي احتاجت أيامًا لتصل إليك بعد أن أرسلتها، لأوجدتِ حتمًا سبيلًا لتكوني بقربي، أليس كذلك؟
وربما كنتِ ستنضمين إلى دير، متخفّيةً في زيّ الرجال مثل فلين، محاوِلة أن تصبحي ناسخة. غير أنّ العجوز بيدر دقيق أشدّ الدقة حين يقيّم أهلية الكَتَبة، وبخطّك ذاك، لربما انتهى بك الأمر إلى ملازمتي لا لشيء سوى شحذ الأقلام.
لكن الأرجح أن يكون القدر أن أزور أنا عالمك. فلقد سمعتُ غير مرّة، حتى وأنا أمير، أنّني من ذلك الصنف الذي لا يعرف الجوع حيثما ارتحل—وهي عبارة لا تُقال عادةً لرجل في مقامي.
أتراكِ قد بدأتِ تغتاظين، تتساءلين في ضيق: لِمَ أُطنب في الهذر؟ ولكن لو قرأتِ كل رسائل السيدة جوزفين، لبدأتِ تتخيّلين مثلي، بل ربما تخيّلتِ أنّه في يوم ما قد نلتقي، عابرين حدود الزمان والمكان.
غير أنّني، الآن، سأكتم في قلبي ما وددتُ أن أفضي به إليك، وأضع بين يديك رسالة الليدي جوزفين.
في ليلة اليوم الخامس من قمر الحصاد.
—راجياً أن تصلك هذه الكلمات قبل أن ينفد صبرك، آرتشي ألبرت.
* * *
إلى ابنة إدْوِينا،
وإلى ابن أديلايد،
لا شكّ أنّ الأمير آرتشيبالد قد ارتبك من مطلع هذه الرسالة. فالذي طلبته منّي الدوق فلوريان إنما هو أن أكتب رسالة تقرؤها ابنة إدْوِينا.
غير أنّني، يا صاحب السمو، في اللحظة التي التقت فيها عيناك —اللتان تشبهان عيني تشارلز ويلزلي— بعيني وعيني الدوق فلوريان، أدركتُ الحقيقة: أنّك، مهما كتبتُ، ستكون أول من يقرأه.
أتُراك تحب أن أقصّ عليك بعض ما كان بين آن وأديلايد وأنا، يوم كنّا صغارًا في مدرسة إعداد العرائس؟ في تلك الأيام، كان تشارلز ويلزلي معبود قلوبنا، أديلايد وأنا. إذ لم يكن في مملكة وِنترتون رجل يجاري الدوق ويلزلي أناقةً ورقّة.
لقد كانت حركاته الرشيقة تتجلّى لا في الرقص أو المبارزة فحسب، بل في كل ما يفعل. وكان بارعًا على نحو خاص في أن يختلس بمكر مناديل أديلايد، أو مشروعات التطريز التي أنهكنا فيها أيادينا، ثم يفتننا بابتسامة ماكرة قائلاً:
«كنت أعلم أنّك ستفقدينه، فاحتفظتُ به من أجلك.»
ثم يعيده في اليوم التالي بهذه الحجّة، فتكتفي أديلايد بهزّ رأسها شاكرة كأن شيئًا لم يكن. وإنني إذ أستعيد الماضي، أرى أنّ المودّة كانت بينهما منذ تلك الأيام. أمّا إن كانت آن قد أدركت ذلك أو غفلَت، فمسألة أخرى.
كانت آن لا تُخفي استياءها من ليونة أديلايد تجاه ويلزلي. لم يكن الأمر غيرة فحسب، بل شيئًا أشدّ وقعًا. فقد كانت دائمًا تُسميه:
«ذلك اللصّ الحقير.»
فنحن، أديلايد وأنا، كنّا نلوم آن ونقول لها: لا يليق أن تصفي خطيبك بمثل هذا القول. غير أنّ آن لم تكن يومًا ممن يتراجعون. أمّا أنا، فكنت صغيرة عن أن أدرك جوهر ما كان بين أديلايد وويلزلي، ولم تكن لي عزيمة آن، فاكتفيتُ أن أُعجب بوسامة ويلزلي لحظةً، ثم أنضمّ إلى آن في التنديد به في اللحظة التالية.
الأمير آرتشيبالد، إنك لتشبه تشارلز ويلزلي وأديلايد شبهًا عجيبًا.
أما الدوق فلوريان، فهو صورة مرآةٍ كاملةٍ لآن.
ومع رحيل كليهما، يبعث على الغرابة أن أُترَك أنا لأكتب هذه الرسالة.
لكن، حتى لو سَلِم الآباء من قدر الموت باكرًا، فهم نادرًا ما يروون لأبنائهم قصص صباهم.
ولهذا، فقد قصدتَ الحكّاءة الصائبة. قصدتني أنا، التي أعرف كل شيء عن والديك، والتي انتظرتُ طويلًا فرصة لأقصّ حكاياتهما.
لقد صرتُ وصيفةً لصديقتي آن—الأميرة إدْوِينا—وأنا بعدُ في الثانية عشرة من عمري.
كان أمرًا غير مألوف أن تتولّى فتاة تكبر الأميرة بعامين فقط مثل ذلك الدور، لكن ذلك حدث لما كان بيننا من رباطٍ خاص. وقد عُدّ ذلك شرفًا لأسرة ييلنغ؛ بوابةً إلى البلاط الملكي، وسبيلًا لتعلّم آداب السلوك إلى جانب الأميرة، وإعدادًا لزواجٍ مرموق.
ومع ذلك، ظلت الأميرة إدْوِينا سنواتٍ بعدها تُبدي شعورًا بالذنب لتعييني وصيفةً لها. كانت تظن أنّه لو لم يكن ذاك القرار، لما انتهى بي المطاف أسيرةً في رُويتلنغن.
أفترض أنك قد سمعتَ من بيدر كيف انتهى بنا الأمر في إمبراطورية رُويتلنغن، وكيف عشنا هناك، والكيفية الغريبة التي عدنا بها.
لا رغبة لي في إعادة تلك الحكاية. فالذكريات مثقلة بمشاهد رهيبة، واستدعاؤها لا يجلب إلا الألم.
ومع ذلك، حتى وسط العذاب، كان ثَمّة لحظات فرح. يوم التقت الأميرة إدْوِينا السير آرثر غيلين لأول مرة كان واحدًا من تلك اللحظات. فلا تأسَ كثيرًا إن طلبتَ مني أن أسردها لك.
إن الحياة التي عشناها كرهائن في تلك الإمبراطورية كانت أذلّ وأقسى مما عرفناه في وِنترتون. لم يكن لدينا حتى فسحة من الوقت لنتكيّف مع عادات رُويتلنغن قبل أن نُقذَف في واقعٍ عنوانه: “العدم”—ولا سيما “العدم من الطعام”.
الذي أنقذني من وطأة تلك المِحَن كان علامة الاستفهام الراقصة في رأسي: فضولي الطفولي عن الأمير الثاني لرُويتلنغن، راينر سيلين فون رُويتلنغن.
كان شخصية عجيبة. طويل القامة لكن نحيل الجسد، يبدو أصغر من عمره بكثير. عرَجُ خطاه جعله يبدو ناقصًا، غير أن جماله الملائكي كان يمحو كثيرًا من تلك الصورة.
لكن الأعجب من شخصه كان مسكنه.
فنحن أبناء وِنترتون أُسكنّا في الجناح الشمالي القاتم الكئيب من قلعة الإمبراطورية الفخمة المزخرفة—أكثر أجزائها عزلة وظلمة، حيث لا تطأه أشعة الشمس. وبمحاذاته، كان ينتصب قصر رمادي غريب، كأنه بُني على عجل، سقف فوق سقف، بلا نوافذ. هناك كان يقيم الأمير الثاني للإمبراطورية، راينر فون رُويتلنغن.
وكان من الغريب أن يُجبر أمير تحبه الإمبراطورة على العيش في مكان كهذا. والأغرب من ذلك أنه كان يزورنا كل يوم تقريبًا.
بدأت زياراته بلا تمهيد ولا إنذار. فمنذ يوم وصولنا، دخل إلى مقرّنا الشبيه بالسجن بابتسامة مشرقة وقال:
«إدْوِينا، هل أنتِ هنا؟»
أترى هل لقيَ الأميرة إدْوِينا يوم قدومها؟
أترى هل وقع في حبّها من النظرة الأولى؟
أذكر أنّني ظللتُ أتساءل عن ذلك طويلًا في جوف الليل، وقد عدتُ فجأة إلى نفسي الطفلة. على أنّ الحقيقة أنّني كنتُ أنا من يثرثر عن جمال الأمير الشبيه بالدمى، فيما بقيت الأميرة إدْوِينا غير مبالية.
«يا له من أحمق مجنون»، تمتمت قبل أن تغفو.
لكن ذلك الأحمق المجنون ظلّ يتردّد علينا، في زياراتٍ مباغتةٍ لا معنى لها، يومًا بعد يوم.
وما لبث أن انقضى يوم أو يومان حتى تلاشى الخوف من أن نقول ما لا يليق فنلقى العاقبة. ثم حمل إلينا أحد رفاقنا الأذكياء خبرًا: أن الأمير الثاني قد سقط من عين الإمبراطور، وأُبعد تمامًا عن سُلَّم الوراثة، وأنه بنى قصره الخاص، يقضي فيه وقته يجري تجارب غريبة.
عند سماع ذلك بدا الأمير شخصية عجيبة، لكن حين رأيناه عن كثب لم يكن سوى…
…شيءٍ تافه.
قلتُ في نفسي: «هذا الأمير أو مهما يكن، يمكن أن نعامله بغير تكلّف، بل قد نتجاهله قليلًا. أشبه بكلبٍ وديعٍ لن يعضّك مهما فعلتَ به.»
ومع ذلك، لم ينطفئ فضولي نحوه. كان السبب في ذلك تصرّفاته الغريبة.
فهو كان يقترب منّا دومًا بعفوية، بلا سابق إنذار، ثم يبدأ في سرد الحكايات. والمثير أن حكاياته كانت، على نحوٍ عجيب، تتقاطع دائمًا مع اهتمامات الأميرة إدْوِينا.
كان يظهر فجأة فيلقي إلينا كتابًا عن السير آرثر غيلين، الفارس الذي كانت الأميرة تعجب به،
أو يأتي بالشاي الذي تحبّه قائلًا إنّه شرابه المفضّل، عارضًا عليها أن تتذوّقه،
أو يحمل عنقودين من العنب الأبيض—فاكهتها المفضّلة—كل يوم،
أو يُخرج خوخًا أو برقوقًا أو مشمشًا في غير موسمه ويقول: «أليست هذه فاكهتك المفضلة؟ إنك تبدين كشخصٍ يحبّ مثلها»، قبل أن يرميها إليها.
وأحيانًا كان يجلب حصانًا أسود، كالذي اعتادت الأميرة أن تركبه، ويقول إن الخيل السوداء أحبّ إلى نفسه، ثم لا يلبث أن يسقط عنه سقوطًا مضحكًا وهو يتظاهر بالركوب…
كانت هذه الأشياء، في واقع الأمر، ذات نفعٍ لنا وسط عيشنا البائس، فلا بد أن الأميرة إدْوِينا رأت في الأمر مفارقة كيف كان يأتي دومًا بما تحبّه.
غير أنّ الناظر من بعيد كان يجد أفعاله مشوبة بالارتباك، كأنما يشاهد لاعبًا على الحبل المشدود ترتعش قدماه. وحتى حين كان يردّ على كلمات الأميرة القاطعة بردودٍ صائبة، كان شعورٌ ما يداهمنا: أن حديثه قد ينحرف فجأة إلى أفقٍ بعيد.
ومرّةً، أطال الأمير راينر الحديث عن السحر، وكان ذلك أغرب ما يكون.
قال: «إدْوِينا، أترغبين حقًّا أن يمرّ الزمن سريعًا لتعودي إلى وِنترتون؟»
قالت: «طبعًا، ولِمَ لا أرغب؟»
قال: «لا تتكلّمي هكذا، تحدّثي بحرية.»
كانت شفتاه، الرقيقتان كأيّ امرأة فاتنة، تحملان إصرارًا طفوليًّا. ثم كانت الأميرة إدْوِينا تجيبه كما لو كانت أبرَد الرجال قلبًا وأكثرهم لا مبالاة.
«لا.»
«هيّا، قولي “لا” كما يجب. إن فعلتِ، ربما أساعدك على العودة إلى وِنترتون.»
«لا.»
«ألا تريدين حقًّا العودة إلى وِنترتون؟»
«ألستَ أنت من قال لي أن أقول “لا”؟»
في مثل تلك اللحظات، بدت الأميرة إدْوِينا وكأنها لا تخشى على الإطلاق أن تجرح مشاعر الأمير الثاني. كانت تزأر في وجهه من غير ذرة خوف. أمّا الأمير راينر، فكان كأنّه يرتاع حقًّا من كل كلمة تنطقها الأميرة الصغيرة، فيسارع إلى تغيير الحديث.
قال: «إدْوِينا، هل سمعتِ يومًا عن السحر العنصري؟»
فردّت: «أتظنني غبية؟»
«لا، لستِ غبية. صحيح، أنتِ ذكية جدًّا. لكنني اعتدت أن أبدأ حكايتي هكذا، إذ رويتها مراتٍ كثيرة من قبل.»
«لا أريد أن أسمع شيئًا إن كنت ستثرثر.»
«تمهّلي، اسمعيني يا إدْوِينا. في السحر العنصري، يمكن للمرء أن يتحرك بسرعة خارقة، أليس كذلك؟ هل تفاخرْتُ أمامك من قبل بمدى براعتي في ذلك؟»
«كل ساحر عنصري يقدر على ذلك.»
«نعم، لكنني أستطيع أن أفعلها بسرعةٍ خيالية، هل تفهمين؟»
«وما الجدوى؟ أستستعمل تلك السرعة لتهرّبنا إلى وِنترتون؟ ومن سيتحمل التبعات؟»
«ليس هذا ما أعنيه، يا إدْوِينا. إنْ تحرّكتِ بسرعة هائلة، بسرعةٍ لا يمكن لعقلك أن يتخيّلها، ينطوي المكان ويتوقف الزمن. وعلى النقيض، إن تحرّكتِ ببطء شديد، ببطء لا يُتصوّر، يلتوي المكان ويمضي الزمن إلى الأمام.»
«أفأنت تقول إنك تستطيع أن تقفز ثلاث سنوات إلى المستقبل؟»
وهكذا انطلق الأمير راينر يهذي فرِحًا كطفل، ينثر الكلام جزافًا وهو يتلقى وابلًا من الردود اللاذعة من الأميرة، ثم ينكفئ أخيرًا إلى حجرته.
كان معروفًا، حتى في وِنترتون، أنّ الأمير راينر كان سقيمًا منذ طفولته، ولم يحظَ يومًا برضى الإمبراطور. ولذلك لم يكن مستغربًا أنه، بعد أن يفرغ من ثرثرته، يبدأ بالسعال فجأة ويعود إلى غرفته.
ولهذا، لم تكن زياراته تطول، غير أنه ما دام يأتينا كل يوم، ألفنا حضوره. وفي الأيام القليلة التي لم يظهر فيها، كنتُ أجدني أفتقد شيئًا من الحماس.
بل حتى الأميرة إدْوِينا، أحيانًا، كانت تفتح الباب وتغلقه كأنما تنتظره، لا حبًّا فيه، بل لشيء آخر لا يُفصح عنه.
وكان بين حينٍ وآخر يجلب الفاكهة التي تحبّها الأميرة—عنقودًا من العنب، أو خوخًا، أو برقوقًا، أو مشمشًا. وبعد أن قضينا على هذا المنوال ما يقارب المئة يوم، كنّا قد بلغنا من الجوع مبلغًا لا يُطاق، وكان لا بدّ من فعل شيء.
فقالت الأميرة: «الأجدر بك أن تجلب البطاطس أو الخبز بدل هذه الأشياء.»
أذكر أن قلبي انقبض حين رمت الأميرة إدْوِينا تلك العبارة عرضًا، لكنني وجدتني أومئ موافقة قبل أن أدرك شعور الذنب. أمّا الأمير راينر، فابتسم ببراءته المعتادة وأجاب بتلك الابتسامة المشرقة على وجهه:
«لطالما كان شهيّتكِ صغيرة يا إدْوِينا، أليس كذلك؟ أنا أعلم ما تحبّين.»
ثم ناولها، وهو يحتفظ بملامحه الملائكية، سلّةً من العنب الأبيض والمشمش. كان الجوع يومها ينهشنا بشراسة، والأميرة متوترة الأعصاب، قبل أن تفكر جديًّا في أن تبادلنا أماكننا.
لم يكن العنب الأبيض ولا المشمش ممّا يسدّ الرمق، لكننا كنّا نتلهف إلى التهامهما. خطتنا أن نتقاسمهما بعد مغادرة الأمير. غير أنّه في ذلك اليوم بدا في حيوية غير معتادة، وأبى أن ينصرف حتى يراها تأكل.
قال: «هيا يا إدْوِينا، كُلي.»
فأجابته: «لا، سأأكل لاحقًا.»
«لا، أنا أعلم. ألم تنشدي عن رغبتك في العنب الأبيض؟»
كان الأمير راينر مولعًا بتخيّل أشياء لم تقع قطّ، ثم يتعامل معها وكأنها حقائق ثابتة. وقد ذكرتُ هذه الغرابة غير مرّة للأميرة إدْوِينا، فما كانت إلا تهز كتفيها وتقول: «أظن أنّ عقله مختلّ قليلًا أيضًا، كما أن جسده سقيم.»
لا أدري لماذا اختارت الأميرة أن تجادله ذلك اليوم. ربما كانت متعجّلة لتصرفه كي تشاركنا العنب.
مدّ الأمير آخر الكلمات كأنه يغنّيها، فيما ظل وجه الأميرة صلبًا لا يتزحزح.
قالت: «لاحقًا.»
فأجاب: «ليس لاحقًا.»
«قلتُ لك لاحقًا. أما عندك بطاطس؟ أو خبز؟ ولو كان خبزًا أسود. شيئًا يسدّ الجوع.»
«ألستِ لا تأكلينه عادةً لأنه غير لذيذ؟»
«متى قلت ذلك؟»
«في المرة السابقة. قلتِ إنك لا تحبين الخبز، ولا الخبز الأسود، ولا البطاطس. وقلتِ إنك تفضّلين الفاكهة: العنب الأبيض، أو الخوخ، أو البرقوق، أو المشمش.»
«لم أقل ذلك أبدًا.»
«جرّبيه، لا تكوني عنيدة.»
«سآكله لاحقًا.»
«متى ستأكلينه إذن، يا إدْوِينا؟ هذه فواكه طازجة قُطفت للتو. باردة، ندية.»
بدأ صوت الأمير يمتزج بنفَس طفولي نافد الصبر، فيما ازدادت الأميرة برودةً وصلابة.
ولو أنه قال ببساطة: «حسنًا، سأذهب»، لرحّبت به الأميرة من جديد في الغد. لكن عناد الطفولة في قلب الأمير راينر لم يكن يسمح له بالانسحاب بتلك السهولة.
«حسنًا، سأرحل. لكن قولي لي تلك الكلمة.»
«أيّة كلمة؟»
«تعلمين… حين أجلب شيئًا. تقولين: “أحسنت، أحسنت.” هيا، قولي إنني أحسنتِ، وربّتي على رأسي.»
قال ذلك وهو يمدّ وجهه إلى الأمام كحيوانٍ أليف ينتظر المداعبة. ولعلّ أي إنسان كان سيبتسم في تلك اللحظة، لكن أميرتنا لم تفعل. كان كل ما يشغلها أن تُعجّل برحيله لتظفر بالعنب الأبيض لنا.
قالت بصرامة: «خُذْهُ واذهب.»
فألحّ: «افعليها يا إدْوِينا.»
«خُذْهُ وانصرف.»
«لا تكوني هكذا. إن تحدثتِ بهذه الطريقة، فإنك تجرحين مشاعري. اربتي على رأسي مرة واحدة فقط، وسأنصرف. قولي إنني أحسنت، يا إدْوِينا.»
إنه لأمر طبيعي أن يساورك القلق حين تستجدي المودّة ويصدّك الآخر ببرود. حتى لو علمتَ أنّ الأجدر بك أن تمضي دون التفات، فإن ذلك القلق المتسلّل يجعلك تعيد الطلب مرة بعد مرة. وقد وجدته منظرًا يُثير الشفقة.
وربما شعرتُ هكذا لأنني ضعيفة القلب مثله، على عكس الأميرة إدْوِينا القوية، التي لا ترى في ذلك إلا مظهرًا بائسًا.
فقالت الأميرة مجددًا للأمير راينر: «اذهب. سأفعلها في المرة القادمة إن جلبتَ بطاطس.»
«سأجلب البطاطس. افعليها الآن، يا إدْوِينا.»
«هيه! قلتُ لك اذهب!»
هنالك نفد صبر الأميرة إدْوِينا وصاحت. وكان من الطبيعي أن يثور غضبها؛ فالأمير في نظرها لم يكن إلا طفلًا يتلهّى، يعبث بشيءٍ نحن في أمسّ الحاجة إليه.
لكن الأمير راينر، من جانبه، كان ساخطًا على عجز الأميرة عن منحه كلمة شكرٍ بسيطة لقاء كل ما قدّم. فتقابلا واقفين، يرمق أحدهما الآخر بنظراتٍ مشتعلة، لا يتنازل أيّ منهما. وكان لا بدّ أن يكون راينر هو أوّل من تكلّم.
قال محتجًّا: «لماذا تفعلين هذا؟ في المرة السابقة أعجبك الأمر! قلتِ إن العنب فاكهتك المفضلة!»
ثم همَّ بالمغادرة، لكن شعورًا بالظلم الجارف أعاده أدراجه، فانطلق يُفرغ كلماته دفعةً واحدة في سيلٍ هائج:
«لقد فعلتُ كل شيء تحبينه. تذكرتُ كل ما قلتِ إنك تحبينه، وفعلتُه كل مرة كما في السابق، كما كنتِ تبتسمين! كرّرت الأمر سبع عشرة مرة! أتعلمين كم هو صعب؟ أتعلمين كم هو مُنهِك؟ في كل مرة أعود، يضربني أخي. ومع ذلك، أستمر بالعودة. لكنك لا تنظرين إليّ؟ لا تربتين على رأسي حتى؟ أنتِ لا تعرفين، لا تعرفين ما الذي…!»
بعد أن أفرغ الأمير راينر سخطه كلَّه، جلس على الأرض يلهث أنفاسًا متقطّعة، وجهه شاحب وعيناه متّقدتان بالانكسار. ظلّت الأميرة إدْوِينا واقفة للحظة، وفي ملامحها أثرُ من يستحضر ذكرى بعيدة أو يحاول القبض على خيطٍ مفقود.
كنتُ أنا أيضًا حائرة، أتساءل عمّا يعنيه بكلماته تلك، وما الذي فعله سبع عشرة مرة كما زعم. عندها، دفع الضجيج بعض الخدم إلى فتح الباب، غير أنّ الأميرة التفتت إليهم بحدّة وأشارت أن يخرجوا، ثم أغلقت الباب بيدها بإحكام.
ساد صمت ثقيل لبرهة، لا يُسمع فيه إلا أنفاس الأمير المتقطّعة. ثم التفتت الأميرة نحوه، عيناها ضيّقتان كأنهما تنفذان إلى أعماقه، وقالت بصوتٍ حادٍّ بارد:
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات