غير أنّ التعامل مع هذا السيل من علامات الاستفهام دفعةً واحدة أمر ليس باليسير.
سأجتمع بــتيلبرت وبيدر حالما ينهضان، ثم أجيبك من جديد.
وما العجلة؟ اهدئي يا صديقتي.
صباح اليوم الأول من شهر الثمار، آرتشي ألبرت.
* * *
إلى الأمير الشرير، الأفعوانيّ، آرتشي،
أحيانًا يبدو أنّ فيك شرًّا يفوق حتى سيسيليا.
أفهم أنّ تسليتي وإثارة فضولي يُمتعانك، لكن تذكّر أنّك إن لم تحذر، فقد يكون ذلك سبب هلاكك.
ها قد علت الشمس في كبد السماء، أيها الأمير، وتيلبرت وبيدر استيقظا منذ وقت يكفي لكتابة أربع صفحات أخرى من نسختهما.
لقد غلبني الفضول حتى حملت خزانة الكتب معي إلى العمل.
أتعلم ما أعني، أليس كذلك؟
أيها الأمير الشرير، أجِب بسرعة، وإلا وجدتُ سبيلًا للقدوم إليك مهما كان الثمن.
صباح 7/28
صديقتك الغاضبة، كورديليا.
* * *
إلى عزيزتي أجمل كوكو حين يشتد غضبها،
مجرد التفكير فيكِ وأنتِ في غيظك، عازمة على العبور إليّ مع خزانة كتبكِ، لا يبدو فكرة سيئة.
صحيح أنّك قد تكونين فريسة لسحر الزمن في هذا الصندوق المسحور، فيبيضّ شعرك الأحمر، لكن عينيك الخضراوين ستظلّان تقدحان شررًا نحوي.
وأصابعك القاسية، التي عذّبتني بالكتابة، لن تفوّت فرصة الانتقام الأعظم: أن تُحكِم قبضتها على خنجر وتغرسه في قلبي. يا لها من ميتة حسنة! إنني أحب رؤيتك غاضبة، وإن متُّ على ذلك المشهد، فسيكون رحيلًا مثاليًّا.
كورديليا، أفلا تفهمين الآن؟ تهديداتك لا تخيفني أبدًا.
أخبِريني بما هو أفظع حقًّا؛ كأن تقولي إنكِ لن تجيبيني مرة أخرى، أو أنّك ستحطّمين خزانة كتبنا.
صباح نديّ من شهر الثمار،
إن هددتِ بمثل هذه الأمور، سأهبك حتى وثائق وِندسور السرّيّة، آرتشي ألبرت.
* * *
آرتشي ألبرت،
ما أدهى أمرك! تُعذّبني وفي الوقت نفسه ترفعني إلى السماء.
بالطبع. إنّه لأمر ممتع للغاية. إنني أعيش كل يوم من أجل متعة إغاظتك.
وما دمتِ لا ترين فيّ قيمة إلا بقدر ما أحلّ من ألغازك، فسبيل رفع شأني الوحيد هو أن أحتفظ بالأسرار وأدعك تضطربين، أليس كذلك؟
قد تكونين الآن تضربين الطاولة بقبضتك، وتطحنين أسنانك، وتحيطين اسمي بـ “آرتشي ألبرت” بلعنات في أول الكلام وآخره، غير أنّ هذا كان خياري الأجمل.
بفضله، أحظى بتبادل الرسائل معك حتى في وضح النهار. يا لها من سعادة!
آرتشي، مستمتعًا بعصر هادئ رغم انشغالك
ملاحظة: أوه، هل أخبرتك أنّني كشفت جميع أسرار تيلبرت؟ بل والأسرار التي تحيط بحكايات السير آرثر غيلن أيضًا. أجل، إنني أعلم كل شيء!
* * *
إلى مقلق ليلي، آرتشي،
تفضل واغزُ نهاري كذلك.
أعدك بهذا: حتى حين تفقد كل قيمة وكل غاية، سأظل أكتب إليك كل يوم.
وحين تُصبح محطّمًا تمامًا، أعمى، عاجزًا عن السير، سأحبسك في ركن غرفتي وأعتني بك برفق.
فأجِب، بقلبٍ يعتز بصداقتنا، عن حزمة علامات الاستفهام التي أرسلتها إليك، واحدة تلو الأخرى.
في 7/28، وأنا بانتظار الغداء وردّك،
كورديليا غراي.
ملاحظة: سأتناول الغداء بعد نصف ساعة. آمل أن تكون رسالتك في انتظاري حين أعود إلى مكتبي.
ملاحظة ثانية: يعجبني أيضًا أنّني أراك في وضح النهار.
* * *
إلى السيّدة الشريرة كورديليا،
كنتِ تنوين أن تُدمّريني بالكلية، تُصيبيني بالعمى والعجز عن المشي.
هذا مثير للإعجاب فعلًا.
صديقك الذي ما زال سليمًا، آرتشي.
* * *
إلى أكسل رجال وِندسور، الأمير آرتشي،
لا تنسَ أنّني أعمل الآن.
أتذكر أول كتاب أعرتُك إياه؟ مرتفعات وذرينغ؟
كاتبة تلك الرواية المجنونة، إميلي برونتي، لها أخت أكبر منها كتبت شيئًا لا يقل جنونًا.
إنه جين إير، حكاية فتاة يتيمة تُدعى جين.
ولو قلتُ هذا لك لاخطر ببالك آنِ الغابة الخضراء أو أبي طويل الساقين، لكن عليّ أن أكون أكثر دقّة: جين إير موحشة بقدر مرتفعات وذرينغ.
إن نظرة الأخوات برونتي إلى الرجال عجيبة فعلًا، ففي الحكاية أيضًا رجل فاتن للغاية لكنه مشوّه تمامًا.
ذلك الرجل، روشيستر، يصفونه مرارًا بأنه قبيح. وأنت تعلم كم أبغض الرجال غير الوسيمين، أليس كذلك يا آرتشي؟ ومع ذلك، يشدّك هذا الروشيستر حتى تتمنى لو تُمحى كل سطور قبحه.
ولماذا أخبرك بهذا؟ لأن الأخوات برونتي أشد مكرًا منا نحن الاثنين. ففي النهاية تتركنه أعمى ومُقعدًا.
وأنا الآن أعمل على نشر هذا الكتاب. ولسبب ما انتهى بي الأمر إلى التلميح بمصير روشيستر في رسالتي إليك.
لم يكن ذلك طُعمًا لأغريك بكثرة كتبي… لكن بما أنك ابتلعت الطُّعم، فدعني أسأل:
ألا يثيرك الفضول الآن لمعرفة مجريات جين إير بعد شرحي الركيك؟
أفضِ إليَّ بسرّك. فإن أرضيتني بإجابتك، الليلة ستقرأ القصة العاطفية العجيبة التي تجري في قصر ثورنفيلد، حيث تصدح الأصوات الشبحية.
ملاحظة: لو كنتَ أكثر لطفًا قليلًا، لأعطيتك الكتاب مباشرة. إنه ممتع حقًّا إلى هذا الحد.
* * *
إلى صديقتي التي لا تزال مفيدة،
أجل، لطالما كان لديكِ ما يكفي من الكتب لتهديدي وإغرائي بها، دون أن تُحطّم خزانة الكتب.
وكالعادة، وقعتُ في فخك، وسأجتهد في البحث عن الخيوط حتى تسلّميني الكتاب الليلة.
أولًا، شكّكِ في أنّ تيلبرت هو الكاتبة آن سيلين، خاطئ تمامًا.
لكن لا تقسُِ على نفسك، يا محققتي العزيزة. لو التقيتِ بتيلبرت ولو للحظة، لما قلتِ هذا.
تيلبرت لا يستطيع الكلام.
إنه من رويتلنغن، وقد جاء مع الأميرة إدويِنا حين أُرسلت رهينة إلى الدير.
الحرَس والخدم الذين رافقوها عادوا جميعًا إلى ديارهم، لكن تيلبرت لم يكن له وطن يعود إليه.
وبيدَر ذكر أنّه ظلّ لغزًا كيف رافقها ابتداءً، وهو من رويتلنغن.
ذاك اللغز لم يُحل بعد، رغم مرور عشرين عامًا. والسبب أنّ تيلبرت لا ينطق. لقد قُطع لسانه منذ زمن بعيد، ولم يَبقَ سوى أثر الندبة على موضعه.
آنذاك لم يكن يفهم حتى لغة بيدر، فحتى لو كان له لسان، لما استطاع أن يشرح بلغة وِندسور لماذا تبع الأميرة إدويِنا.
أما الآن فقد بات يفهم كل ما نقول، بعد أن أمضى عشرين عامًا في صحبة بيدر.
فقد التقطت أذناه من لغة وِندسور أكثر مما التقط أي شخص آخر.
لكن، وإن كان يسمع، فإن قراءته وكتابته ما تزالان ضعيفتين. ولو حاول لتعلّم، لكن لم يخطر ببال أحد أن يعلّم الكتابة لمن لا ينطق. وتيلبرت بدوره لم يسعَ يومًا إلى تعلّمها.
الورقة التي وصلتك من الرهبان الثمانية، والتي كُتب عليها: “مرحبًا، أنا تيلبرت”، هي الكلمات الوحيدة التي يستطيع كتابتها بلغة وِندسور.
مع أنّكِ قلتِ لي ألّا أنظر، فقد عرفتُ الأمر من قبل. كانت براعته ظاهرة جليّة حتى في تلك الجملة القصيرة. لقد خطّ كلّ حرف ببهاء، بخط مزخرف.
لكن… هذا أقصى ما يستطيع كتابته.
إنّه يزخرف الحروف بالألوان على نحو يفوق أيّ مذهبٍ خطّي، ويرسم من المنمنمات ما لا يستطيع أي مذهب فنّي أن يُضاهيه. أمّا أن يكتب أعمال “آن سيلين”؟ فذلك محال.
في هذه اللحظة لا بدّ أنّ علامات الاستفهام بدأت تنبت لديك من جديد، أليس كذلك؟
كيف لناسخ لا يقرأ ولا يتكلّم أن ينجز عمله؟ هكذا ستسألين.
ولو كان في أي مكان آخر، لما وُجد ما يفعله ناسخ لا يقرأ. فحتى المنمّق يحتاج إلى فهم النص ليوائم بين الرسوم وما يحيط بها.
لكن لا تنسي، يا كورديليا، أنّ في دير “ليثي” شخصًا مميّزًا للغاية. إنه صاخبنا الكبير بيدر، بالطبع.
وهكذا تجري الأمور: ما إن يجلس تيلبرت إلى مكانه، حتى يستقرّ بيدر بجواره ويشرع في شرح مطوّل لا يترك صغيرة ولا كبيرة في الكتاب المكلّف به.
يفسّر محتواه، ويبيّن كيف يرغب الكفيل أن تُزخرف الحروف، وما الرسوم التي ينبغي أن ترافق كل مشهد.
وتيلبرت يُصغي بكل جوارحه، عيناه الصغيرتان تتلألآن، يهزّ رأسه موافقًا، ثم يُحيي تلك الأوصاف في رسوماته.
وكما رأيتِ بنفسك، فإن رسوماته آية في الجمال.
ولهذا، حين ذهبتُ إليه صباح اليوم، لم أسأله عن “آن سيلين المؤلِّفة”. فقد كنت أعلم مسبقًا أنه ليس الكاتب، فانتقلتُ إلى السؤال التالي.
سألتُه مباشرة: «تيلبرت الناسخ، هل تذكر السير آرثر غيلن؟»
فأومأ برأسه صامتًا.
«هل أنت من زخرف رسوم حكاية السير آرثر غيلن؟»
ومرّة أخرى، تحرّك رأسه صعودًا وهبوطًا.
سحبتُ على عجل كتاب الأميرة والفارس الذي أهديتِني إياه وعرضتُه أمامه. «انظر، يا تيلبرت، أنت من رسم هذا.»
فتحتُ على الصفحة الأخيرة، أجمل الصفحات، ووضعتها بين يديه. راح يحدّق في الرسم بصمت، ثم هزّ كتفيه وأشار إلى جزء صغير من عُرف الحصان.
وهناك، حيث لم تلحظي أنتِ ولا أنا من قبل، كان منقوشًا حرفٌ صغير: “t”.
«إذن، يا تيلبرت، كأنك تقول: لقد ختمتُ عملي بعلامتي منذ البداية، فما جدوى سؤالك؟»
لكنّه لم يُجبني، بل اكتفى بالنظر إليّ بعينين تفيض بالشفقة.
عندها أخذ الضيق منّي مأخذًا، فدعوتُ بيدَر. ورغم ما بيننا من توتّر بسببك، لم يكن لي غنى عنه. فلا أحد يترجم إشارات تيلبرت وتعبيرات وجهه مثل بيدَر.
وما إن وقعت عين بدَر على وجهه، حتى اندفع في ثرثرته التي لا تنتهي:
«حسنًا يا أمير، يبدو أنّ تيلبرت يقول إنّه إنما كان يتّبع الأوامر. ومن الذي أصدرها؟ لنرَ… آه، كان ذلك منذ عشرين عامًا. نعم، عشرين عامًا تقريبًا، على ما يظن. صحيح أنّه لا يذكر التاريخ بدقّة… أليس كذلك يا تيلبرت؟ هزّة الكتفين تعني: لا أعرف. واضح أنّ صمته جواب. حسنًا، كيف انتهى به المطاف يتبادل الرسائل مع الأميرة إدويِنا عبر المكتبة، يا تيلبرت؟ لا؟ آه، تلك ليست الإجابة… إذن مَن أصدر الأمر؟ آه، ذلك الشخص… نعم يا أمير، تيلبرت…»
وهكذا بدأ حديث امتدّ ثلاث ساعات، يروي فيه بيدَر كل خطوة من خطوات حياة تيلبرت منذ قدومه إلى وِندسور وحتى اليوم.
والآن يا كورديليا، لعلّك تفهمين لِمَ أمسكتُ عن قول كل شيء دفعة واحدة، أليس كذلك؟ فلا تغضبي لتأخّر رسالتي.
سأكتب لكِ مزيدًا من التفاصيل الثمينة بعد العشاء.
في مساء اليوم الأول من شهر الثمار،
صديقك الوفي، آرتشي.
* * *
إلى الأمير آرتشي، الموهوب بالفطرة في إغاظتي،
أظنّك هذه المرّة قد أخفقت. لقد أغدقت عليّ بالقرائن أكثر مما ينبغي.
تيلبرت لا يستطيع الكتابة، ومن ثَمَّ فمستحيل أن يكون قد تبادل الرسائل مع الأميرة إدويِنا عبر خزانة الكتب.
أُحسّ أنّ الأميرة إدويِنا كانت تجيد لغة رويتلنغن، لكنّي لن أتمادى بخيالي إلى هذا الحد. فلو كانت مسألة التواصل بالغة الأهمية، لبذل تيلبرت جهدًا أكبر في تعلّم لغة وِندسور.
وفوق ذلك، لدينا شخص ثالث لا بدّ من حسابه.
السيّدة الغامضة التي تبادلت الرسائل مع الأميرة إدويِنا.
الناسخ بيدر لا يزال يتكتّم على هويتها. سألته صراحةً إن كانت الملكة أديلايد، لكنه تهرّب من الجواب بأسلوب مريب.
هل أخبرك بما أظنّه؟
الأميرة إدويِنا جاءت إلى عالمي مع خزانة الكتب. وظلّت تتبادل الرسائل عبرها مع تلك السيدة الغامضة.
وربّما كانت آن سيلين، الكاتبة، هي في الحقيقة الأميرة إدويِنا نفسها. لا أدري كيف وصلت إلى هنا، ولا كيف قررت نشر كتاب، لكن إذا افترضنا أنّ آن سيلين هي الأميرة إدويِنا، بدأت الأمور تتضح.
الأميرة إدويِنا، وقد كتبت قصتها بنفسها، كانت بحاجة إلى رسّام بديع يزيّنها بالصور. ومن الطبيعي أن يكون تيلبرت، الذي ارتبطت به منذ أيام الرهن، أوّل من يخطر في بالها.
لا أعلم إن كانت تلك السيّدة الغامضة هي أمّك أو شخصًا آخر. لكن من الجلي أنّها هي التي أمرت تيلبرت بإنجاز الرسوم.
إذن يا آرتشي، الأمر يسير. ما عليك إلا أن تضغط على بيدر ليكشف لك هويتها. فإذا عرفناها، انكشف كل شيء. وربما، كما كتبت الأميرة إدويِنا قصتها في هذا الجانب، تتمكّن أنت أيضًا من العبور إلى حيث أنا. ما رأيك؟ أما تشعر بالرغبة في الإسراع إليّ؟
7/28 – مساءً.
العائدة من عملها بصفتها المحققة، كورديليا.
ملاحظة: اسأل تيلبرت إن كان راغبًا في عمل جديد. وأبلغه أنّ له أن يطلب الثمن الذي يشاء. طبعًا، بما أنّي لا أملك عملة وِندسور واحدة، فعليك أنت يا أمير أن تغطي التكلفة. وإن اعترضتَ، سأقول ببساطة إنني سأردّها إليك في صورة كتب.
ملاحظة ثانية: وبالمناسبة، ما الذي جرى لقصة السير آرثر غيلن؟ أهو اسم شائع إلى هذا الحد؟ يا أمير، لديك عادة مزعجة: تجيب عن واحد فقط من أسئلتي الاثنين.
* * *
إلى المحققة التي تُخضعني لتدريب صارم،
لقد آذاني ما ورد في ملاحظتك الثانية، لذا سأقدّم لك ردًّا مفصّلًا.
أولًا: السير آرثر غيلن شخصية أسطورية في وِندسور. صحيح أنّ بعض الناس سمّوا أبناءهم “آرثر” تيمنًا به، غير أنّ اسم العائلة “غيلن” اندثر منذ زمن بعيد.
وحين ظهر رجل قدّم نفسه بلقب السير آرثر غيلن وتقدّم لخطبة الأميرة إدويِنا، ظنّ الجميع أنّه مجرّد دعابة من أحد النبلاء الشبان الجسورين، مثل تشارلز ويلزلي، يقوم بتمثيلية طريفة مستعيرًا اسم فارس جسور من الأساطير.
لكن عندما نزع خوذته، أصاب الجميع ذهول. كان شعره الأشقر وعيناه الزرقاوان آيةً في الجمال، وكانت حركاته وهو يركع أمام الأميرة إدويِنا رشيقة آسرة، غير أنّ أحدًا منّا لم يكن قد رأى شابًا بوجه كهذا من قبل.
وحتى يومنا هذا، تبقى الهوية الحقيقية للسير آرثر غيلن مجهولة. وسبب امتناعي عن إخبارك بذلك سابقًا أنّ الأمر في وِندسور يُعد من البديهيات، فلم يخطر لي أنك تجهلينه. لقد كان ذلك تقصيرًا ساذجًا منّي.
ثانيًا: نظريتك حول تيلبرت متقنة، باستثناء أمر واحد: السيّدة الغامضة لم تكن أمّي.
في الواقع، التقيتُ تلك السيّدة الغامضة في زفاف دَافني. هناك، حين وقع بصرها على فلوريان، شهقت الليدي جوزفين، عمة دَافني، وهي امرأة هزيلة، وسألت بدهشة:
«الأميرة إدويِنا؟»
وهكذا أثبتث فلين فائدتها.
فقد ارتبكت، فيما راحت عينا الليدي جوزفين تفقدان الأمل ببطء.
بعد الزفاف، أخبرتنا دَافني أنّ الليدي جوزفين كانت خادمة الأميرة إدويِنا ورفيقة قديمة لأمّي، الملكة أديلايد.
قالت: «كانتا قريبتين إلى حدّ أنّ عمّتي ظلت تزور دير ليثي كل يوم لفترة بعد اختفاء الأميرة إدويِنا.»
«دير ليثي؟»
«نعم، كانت تزوره مرة في الشهر تقريبًا، لمدّة سنتين أو ثلاث. قبل وفاة طفلها، كانت امرأة نشطة تحبّ التجوال.»
وأنا واثق أنّ ذهنك الوقّاد، حتى من هذه المعلومة الضئيلة، قد التقط الخيط الذي سرتُ وراءه، أليس كذلك؟
اشتدّ صخب الحفل المسائي وضجيجه، ثم اختفت الليدي جوزفين فجأة. رغبت فلين وأنا في البحث عنها ثانية لنتحدث معها مطوّلًا، لكن دَافني منعتنا قائلة:
«لقد ذكرتم أنّ في ديركم راهبًا قُطع لسانه. حسنًا، قلب عمّتي قُطع بالطريقة ذاتها. لا أعلم ما الذي تنوون سؤاله، لكن لا تُكدّروا قلبها من أجل فضول تافه.»
كان في نبرتها هذه المرّة قدر غير مألوف من الجديّة.
بل لقد أوشكت أن تجعلني أُصدّق تلك المقولة السخيفة عن أنّ الزواج يجعل المرء أكثر نضجًا.
إن جراح الحرب لا تزول أبدًا، حتى مع مرور الزمن.
تيلبرت بدوره قد يبدو كأنّه يعيش حياة مبهجة كرسّام زخارف، يبتسم صامتًا كأن لا شيء يثقل قلبه، لكنه يستيقظ كل صباح صارخًا من كوابيسه، ثم يتلقى توبيخ بيدر.
وما زلت لا أعرف كيف أقترب من جراح هؤلاء الناس. أمّا فلين، فتبدو أنّها أوفق مني، إذ ظلّت تحاول التقرب من الليدي جوزفين. وفي النهاية، وقبل مغادرتنا إلى الدير، تمكّنت فلين من اللحاق بها مرّة أخرى.
وهذا ما قالته فلين:
«خبز.»
«خبز؟»
«نعم، هناك خبز يا سيدتي.»
«ما الذي تقصدينه؟»
نظرت الليدي جوزفين إلى كلٍّ من فلين وإليّ بملامح يملؤها الارتباك.
وبين أنفاس متقطّعة إثر ملاحقتها لها، قالت فلين:
«الأمر ببساطة… هناك خبز. خبز… أحبه.»
فضحكت الليدي جوزفين، ولم أتمالك نفسي من شعورٍ بالذهول كذلك.
قالت: «دوق فلوريان. اجلسي. ماذا تحاولين أن تقولي؟»
فأجابت: «حتى أكثر الناس حزنًا، يشعرون بتحسّن إذا أكلوا خبزًا. الخبز… ليس شيئًا عظيمًا، لكنه حين يُؤكل، يساعد قليلًا، أتعلمين؟ هذه هي الحكاية يا سيدتي.»
«أكل الخبز يساعد؟»
«نعم. لذا… هل تأتين لتأكلي خبزًا في دير ليثي؟»
لقد بدا ذلك أشبه بلغز. رمقت الليدي جوزفين فلين طويلًا، بعينين حائرتين، ثم غرقت في التفكير.
قالت: «أأنتَ تدعيني لتناول خبز؟»
«نعم. أظنّه سيكون خبزًا حلوًا لذيذًا. وإذا أكلتِ منه، قد يخفّ حزنك قليلًا.»
ابتسمت الليدي جوزفين أخيرًا، وكأنها أدركت ما كانت فلين تحاول أن توصله.
قالت: «يا ابنة الأميرة إدويِنا، أأنا أبدو حزينة في نظرك؟»
«قليلًا.»
«وتظنين أن الخبز سيُجديني نفعًا.»
«نعم.»
«وأثناء أكل الخبز، ستسألينني عن الأسئلة التي تُلحّ عليك.»
«الكثير منها.»
«حسنًا إذن. فلنذهب إلى دير ليثي.»
وبذلك انصرفت الليدي جوزفين. أجل، لقد أنجزت فلين ما عجزت أنا عن فعله.
وفي طريق العودة، سألتها عمّا تعنيه كل قصة «الخبز» تلك. تلك الوغدة اكتفت بالابتسام بخبث، وقالت لي أن أسألكِ أنت، يا صديقتنا عبر خزانة الكتب، بعد أيام.
وأحسب أنّك تتساءلين الآن: لماذا لم أقصّ عليك هذه القصة المهمّة إلا الآن؟ حسنًا، ألم أقل إنني سأروي لك طرائف من حفل زفاف دَافني؟ لكنك لم تسألي قط، ولا حتى بدافع فضول يسير، إذ كنتِ مشغولة باستدعاء ثمانية رهبان واللعب بتبادل الملاحظات.
أنتِ تمامًا مثل مارك. ظللتُ أنتظر طوال هذا الوقت، كما انتظرت كورديليا القديمة، متى ستسألين أخيرًا. حقًا.
ثالثًا، هل تعطيني الآن جين إير؟
ليلة الأول من شهر الثمار. صديقك الموجز: آرتشي ألبرت.
ملاحظة: حفاظًا على الوضوح، لن أضيف أي ملحق لهذه الرسالة.
ملاحظة ثانية: باستثناء هذا الملحق، بطبيعة الحال.
* * *
إلى أميري الحبيب،
أجدك أكثر جاذبية حين تُرقِّم رسائلك.
حتى أكثر من روشستر.
سأعطيك جين إير.
لكن قبل ذلك، لا بد أن أُعطيك كتابًا آخر أولًا.
الكتاب الذي أرادته فلوريان، ذاك الذي فيه «خبز» بسيط لكنه مُعين.
القصة واضحة وقصيرة. زوجان يطلبان كعكة عيد ميلاد لابنهما سكوتي. لكن قبل أن يستلماها، يتعرض الطفل لحادث مفاجئ ويدخل في غيبوبة. يمكث الوالدان إلى جواره في المستشفى، متأرجحين بين الحياة والموت، بينما ينهال عليهم اتصال متكرر من رجل بصوت غريب يسأل: «أنسيتم سكوتي؟» فيستبدّ بهم الفزع، لكنهما لا يستطيعان مغادرة المستشفى.
في النهاية، يموت سكوتي. وبعد الجنازة، يعود الوالدان إلى منزلهما… ليصلهما اتصال آخر:
«أنسيتم سكوتي؟»
غاضبين، مرهقين من الحزن والسهر، ينفجران في وجه المتصل. وهناك يكتشفان الحقيقة: المتصل ليس سوى خبّاز، ساخط لأنهما لم يستلما الكعكة. يذهبان إلى المخبز ليشرحا له كل شيء. يعتذر الخبّاز بصدق. كان يمكن أن تنتهي القصة هنا كأي قصة عادية، لكن شيئًا آخر يحدث.
هناك خبز. في وقت متأخر من الليل، يجلس الخبّاز في متجره ليخبز لفائف القرفة.
يدعوهما للجلوس وتناول بعضها. رائحة القرفة تعبق في الليل المظلم الوحيد. يجلس الزوجان، الجائعان، في هدوءٍ داخل المخبز، يأكلان اللفائف الساخنة. خبز حلو، دافئ—ليس شيئًا خارقًا، لكنه يُخفف الوطأة.
لا أعلم كيف عرفت فلوريان هذا الكتاب.
فهو ليس شكسبير ولا الأخوات برونتي، بل رواية حديثة نسبيًا.
فما رأيك يا أميري؟ أما زلت حائرًا في وجهة هذه القصة؟
أما أنا، فأظنني بدأت ألتقط الخيط.
وإن كنتَ أنت أيضًا فضوليًّا، فأسرع بدعوة الليدي جوزفين إلى بعض الخبز، وتوسّل إليها بالجواب.
تمامًا كما أتوسل إليك أنا، طُعمًا بـ جين إير.
-بكل الحب، كورديليا.
ملاحظة: أن تُقارَني بمارك إهانة حقيقية، لكن لا يسعني إنكارها. خشية أن تبتلعني متاهة لغز آخر وأنسى أن أسألك، دعني أقولها لك الآن: لا تنسَ أبدًا أنني فضولية جدًا بشأن حالك.
* * *
إلى كورديليا،
إن كونكِ فضولية بشأن أحوالي أمر ليس مميزًا البتة، لكنه… مُعين جدًا.
الجميع في دير ليث قد قرأ الكتاب الذي أهديتِني إيّاه.
طهاة الدير يتشاجرون الآن حول أي وصفة لفائف قرفة هي الأطيب. فيليب ولويز يذوبان شوقًا للحفلة القادمة التي ستكون مليئة بالخبز. أمّا نويل، التي اعتزلت الطهي منذ زمن، فلا تكف عن الحديث عن العودة إلى المطبخ، وهذا ما يقلقني قليلًا.
نعم، الليدي جوزفين ستزورنا قريبًا.
آمل أن يكون الخبز الذي سيخبزونه ليس مميزًا، لكنه مُعين.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات