تقولين إنك جمعتِ كل قصاصات الرسالة الممزّقة المبعثرة على ضفاف التايمز. يا لها من كذبةٍ لطيفة.
فلا شيء أظرف من أن تكوني حادّة الذكاء كما أنتِ، ثم تعجزين عن الكذب بمهارة.
إنّ مجرّد تخيّل تردّدك، وأنتِ تفكّرين بكيفية البوح لي بما جرى، يزيد فضولي لمعرفة ما حدث فعلًا ذلك الصباح.
لكن، ما جدوى سؤال من لا يريد الكلام؟ تلك إحدى الحكم القليلة التي تعلّمتها عبر عشرين عامًا ونيف من حياتي.
وحين أقول: «تعلّمتها بجسدي»… أعني أنّي تلقيتُ دروسها من ضربات أختي العزيزة. والدروس المكتوبة بالجراح لا تُمحى سريعًا.
فمهما يكن شغفي بمعرفة كل شيءٍ عنكِ، فلن أُلِحّ في استنطاقك بما وقع.
غير أنّ عليكِ أن تتذكّري أمرًا واحدًا، يا كوكو:
إن خطر لكِ يومًا أن تبوحي بما في نفسك، فلا يكون مخاطبكِ ليام، ولا جولييت، ولا حتى جدران بيتك، بل أنا وحدي.
إن ناديتني عرضًا: «آرتشي!» فسأكون حاضرًا في كل حين، جالسًا قبالة رفّ الكتب، مُتهيّئًا لسماع ثرثرتك التي لا تنتهي.
في مساء آخر أيام الشهر الأوّل من الصيف،
ــ آرتشي ألبرت، الذي غمره الفضول عنكم جميعًا، بعد أن أمضى عمرًا يتعهّد فيه ألّا يرهق نفسه بالتفكير.
ملحوظة: كنتُ هممتُ أن أدع الأمر حتى تُصارحيني به ساعة تشائين، غير أنّه آن الأوان لتخبريني: إلى أين وصل مخطوط آن سيلين؟
* * *
إلى أميري، الذي يملك جلّ الفضائل التي ينبغي للصديق أن يتحلّى بها،
من بين خصالك الكثيرة الجديرة بالثناء، أرى أنّ الصبر هو أوّل ما يستحقّ الإشادة. فمع أنّ حدّتك تمكّنك من أن تلمح ما يُخفى بين السطور، إلا أنّك الوحيد الذي أعرفه يستطيع أن يكبح فضوله.
أمّا أنا، فقد كنتُ طائشة إذ لم أذكر لك شيئًا عن مخطوط آن سيلين حتى سألتَ.
في الحقيقة، يا آرتشي، حين كنتَ طريح الفراش مثخنًا بجراحك، وقع أمر جلل بشأن المخطوط.
وليس الأمر هذه المرّة فقدان المخطوط بأسره، لكنّه من وجهٍ آخر أخطر.
أتدري؟ إنّ مخطوط آن سيلين…
المخطوط…
…مملّ.
حتى الموضع الذي يصل فيه البحث عن فلوريان، كان المخطوط بالغ الإثارة، لا أكاد أضعه من يدي.
لكن فجأةً تلاشت كلّ تلك المتعة، كأنها لم تكن.
الجميع في قسم التحرير عندنا مذهولون. كأنّ الكاتب تبدّل فجأة! هل غادرت آن سيلين إلى مملكة وينترتون، وأرسلت إلينا بديلًا عنها رئيس أرشيف تاريخها الكسول حدّ البلادة؟
فالجمل اللامعة اللاذعة التي ميّزت البدايات اختفت، ولم يبقَ سوى رصفٍ من الحقائق الجافّة.
فإذا كنتُ أنا نفسي أشعر بهذا النفور، فتخيّل كيف يكون حال رئيسة التحرير متشدّدة الذوق، ماريان، أليس كذلك؟ وإن لم تنطق بشيء، إلا أنّها تكاد تجوب المكاتب وعلى جبينها مكتوب:
«ألم أقل لكم؟».
لم أُخبرك من قبل، لكنّها كانت متحفظة منذ البدء على نشر هذا المخطوط، أمّا أنا فقد أصررت بعنادٍ على دفعه.
والآن، وقد جرى ما جرى، صار مقامي الضئيل أصلًا في هيئة التحرير يتضاءل أكثر. سأغدو كمن يقف على ساقٍ واحدة يقفز متعثرًا.
لا بأس بالقفز على ساقٍ واحدة، والدردشة مع جولييت في زاوية لا تتسع إلا لكتابٍ صغير الحجم، لكن على هذا النحو قد تُصيبني في النهاية تقلّصات!
ومنذ أسبوع تقريبًا، طرحتُ الأمر على ليام. قلتُ له إنّ وقع المخطوط لم يكن حسنًا، وربما كان الأجدر بآن سيلين أن تعيد النظر فيه.
ولدهشتي، غضب!
بل أأسمّيه غضبًا؟ لقد شحب وجهه فجأة، وانهار على الكرسي قابضًا رأسه بين يديه.
«أهو… سيّئ إلى هذا الحد؟»
قلتُ مسرعةً: «حسنًا، ليس الأسوأ يا ليام.»
«أليس كذلك؟ ليس الأسوأ؟ إذن فالكتابة ليست…»
«الكتابة ليست جيّدة. كأنّها لم تملك الموهبة أصلًا. أليس هذا غريبًا؟ ليست الأسوأ، لكن…»
«نعم، ليست الأسوأ، أليس كافيًا هذا؟»
«…لكن من حيث انعدام الإثارة، فهي أسوأ من الأسوأ.»
«هناك ما هو أسوأ من الأسوأ.»
أطرق ليام رأسه، وقد بدا متألّمًا حقًا. لوهلةٍ تساءلتُ: هل يمكن أن يكون ليام نفسه هو من كتب المخطوط؟
ثمّ تمتم قائلًا: «لهذا… فالكتابة ليست أمرًا يُستهان به… آه…»
تستطيع أن تدرك لمَ خطرت لي تلك الظنون.
لكن يا أميري، ليام يختلف عنك قليلًا. هو لا يكتب إليّ رسائل أبدًا مهما توسّلتُ. فمثل هذا لا يمكن أن يكون قد ألّف هذا الكتاب، أليس كذلك؟ لذلك سألته إن كان الأمر يتعلّق بآن سيلين. فأومأ برأسه.
قال: «آن سيلين… أظنّها ارتكبت خطأ. كان إصدار جزء ثانٍ فكرةً سيّئة. نعم، كان لا بدّ أن يُنشر، لكن كان ينبغي أن يكون أقصر بكثير. كتابة المتابعة كانت خطأ كبيرًا.»
ظلّ ليام يتمتم. وكان أمرًا غريبًا حقًا. فأنت تعلم أنّه لا يتحدّث في غير ضرورة. بل هو أقرب إلى رجلٍ بالألغاز ممتلئ، لا ينتقي من الكلمات إلا ما له مغزى وثِقَل.
فقط البارحة قصدتُه لأسأله عن شيء أثار فضولي، فلم يزد على أن يقول:
«لاحقًا، حين يحين الوقت»
من غير جوابٍ شافٍ، حتى أغاظني. ولو كنتُ أكثر حدّةً قليلًا لضربته كما ضربت آن شيرلي جيلبرت على رأسه.
هذا مبلغ ما يبعثه في نفسي من إحباط أحيانًا… لكن في تلك اللحظة ظلّ يتمتم بلا انقطاع.
«هذا… لم يكن ينبغي أن يُكتب على هذا النحو… آه، لقد قلتُ ذلك لآن سيلين يا كورديليا.»
وإشفاقًا عليه وهو يهذي هكذا، سارعتُ إلى التربيت على كتفه.
«لا بأس يا ليام. اقترح عليها بلطف أن تُعيد النظر.»
فقال بوجهٍ ازداد تصلّبًا: «لكن كيف ينبغي إصلاحه؟»
وقد فهمتُ شعوره. فليس من الهيّن، خصوصًا على رجلٍ طيّب كليام، أن يطلب من كاتبةٍ أفرغت جهدها أن تُراجع ما كتبت، لمجرّد أنّه لم يكن مثيرًا للاهتمام.
«أكان حقًا بهذا السوء؟»
نظر إليَّ ليام متشبِّثًا بآخر ما يملك من أمل، كأنّه يتمسّك بحبل نجاة. وكان عسيرًا عليّ أن أومئ بالرأس وأنا أواجه عينيه الزرقاوين الجميلتين.
لكن ماذا عساي أفعل؟ فمهما كان ليام وسيمًا، فالمملُّ يظل مملًّا.
قلتُ: «نعم، إنّه حقًا مملّ.»
فتبدّى ليام كأنّه بطل تراجيدي من مسرحيات شكسبير. لعلّ له صلةً خاصّة بآن سيلين. وبما أنّه يُحسن الإصغاء إليّ، فقد أدركتُ سرَّ حزنه الغامر، بما في طبعه من تعاطف شديد.
ولمّا أبصرتُ كتفيه المنكّسَتين وهو يمضي مبتعدًا، أحسستُ بغصّةٍ في قلبي أيضًا.
غير أنّه لا حيلة لي.
وكما قلتَ أنت، لا أستطيع أن أكذب، وحقيقة كون المخطوط مملًّا أمرٌ لا جدال فيه. حتى إنّي بدأتُ أظنّ أنّ جمع رسائلك في كتاب سيكون أهون من إصلاح ذلك المخطوط.
على كلّ حال، قال ليام إنّه سينقل الملاحظات، فآمل أن تبدأ المراجعات قريبًا. لكن، لتزداد الأمور سوءًا، اختفى الرسّام فجأة هذا الأسبوع.
وبما أنّ هذا الرسّام سبق أن غاب عن الأنظار، فقد سارعت ماريان، رئيسة التحرير، إلى فسخ العقد. وأخالها قد تكون راغبة في التخلّي عن الكتاب برمّته الآن.
والحقّ أنّني أفهم مشاعرها. يا أمير آرتشي، لو لم تكن هذه قصتك، لربّما تركتُ هذا الرواية تمضي أدراج الرياح أنا أيضًا.
لكنّني الآن لا أستطيع ذلك قطعًا.
فهذه قصتك.
وربّما… هي قصتنا نحن أيضًا.
ومع أنّ مقامي في المكتب قد تقلّص حتى صار بحجم بطاقة عمل، أعلنتُ بجرأة أنّني سأجد رسّامًا جديدًا. فما كان من ماريان إلا أن انفجرت ضجرًا، وقالت لي أن أعيد الرسّام الأصلي.
إنّ رسوم الأميرة والفارس الأصلية حقًا فائقة الجمال.
فكما يصوّر كتبتك صورتي بدقّة، جاءت كلّ ضربة فرشاة تلتقط شعر الأميرة إدويـنا الأحمر عنايةً بالعاطفة والتفاصيل، حتى غدا وقوع السير آرثر غيلن في حبّها من النظرة الأولى أمرًا قابلًا للتصديق.
والمناظر الطبيعيّة الخلّابة في وينترتون، المرسومة بخطوط دقيقة، تأسر الأنفاس.
وعينا السير آرثر غيلن الزرقاوان نابضتان بالحياة، وشَعرُه الذهبي يلمع كأنّ أشعّة الشمس ذاتها انحبست بين ضفائره.
وأمّا ظلّه الماثل عند أسوار القصر، المرسوم بأنغامٍ من الرماد، فقد أُبدع تصويره في غاية الرشاقة.
لقد علّمتني هذه اللوحات أنّ المشاعر يمكن أن تُنقل بالألوان وحدها.
فما من ظلّ أشدُّ حزنًا من ذلك الظل.
وأنا أعلم.
كان العثور على ذلك الرسّام سيكون أمرًا رائعًا.
لكنّه مستحيل.
فالناشر الأصلي اختفى منذ أكثر من عشرين عامًا. وكانت دار نشر صغيرة للغاية، ولم يُذكر اسم الرسّام في الكتاب أصلًا. ولم أسمع قطّ عن أنّه عمل في أيّ مشروع آخر.
سألتُ ليام مرّة أخرى أن يستفهم من آن سيلين عن اسم الرسّام، لكن ليام ارتبك ارتباكًا شديدًا حتى إنّه أصيب بحازوقة.
«لقد مات… مات.»
«مـ-ـمات؟»
«نعم، وحتى حين كان حيًّا، لم يكن يُصغي… على أيّة حال، انسَي الأمر يا كورديليا. لقد مات… مات.»
وكان ذلك أوضحَ تعبير حازم أراه منه قطّ.
فماذا يسعني أن أفعل؟
ليس لي إلا أن أتيه في بحر اليأس، أبكي، وأنا أفتّش بين دفاتر كلّ رسّام في بريطانيا.
يا أميري العزيز،
لا بُدّ أنّك الآن تدرك كم هي مُضنية حياتي العملية.
فها أنا اليوم أركض متخلّية عن عطلتي الأسبوعيّة، أجمع المواد بحثًا عن فنّان يشبه أسلوب الرسّام الأصلي. وغدًا سأعود إلى المكتب لأكابد الكتب الأخرى التي ينبغي إصدارها قبل نهاية هذا الشهر.
إنّه لأمر محزن. فرغم أنّ قلبي يقيم دومًا عند ركن المخطوط الأوّل في دير ليثي، إلّا أنّ واقعي يفرض عليّ أن أعمل لأحافظ على حجرتي الضيّقة، بعرض ثلاث خطوات، في قلب لندن.
أتدري ما هو أحزن من ذلك؟
رغم كلّ هذا العناء، إنّي أحبّ عملي حبًّا جمًّا، حتى إنّي لا أستطيع تخيّل نفسي في مهنة أخرى. ولو أنّني بحدثٍ سحري وجدت نفسي في مملكة وينترتون، لربّما جُبت أروقة الكتبة أفتّش بيأس عمّا ليس لفائف تاريخ، بل كتاب حكايات.
نعم، مذ وقعتُ في غرام الكتب، انعطف مسار حياتي إلى دربٍ ملتوي… ضيّق أشدّ الضيق.
فها أنا الآن، يا صديقي الكريم، تعود كوكو إليك راكعة، تستجديك.
أرجوك، لا تغضب كثيرًا من أنّني كتمت عنك هذه الحقيقة المهمّة طويلًا، إن بقي لك في قلبي ودّ.
أجل، إنّي أعلم. لم يعد ثمّة داعٍ لمراسلتنا بعد الآن.
فالآن وقد لحق واقعك بالزمن الذي بلغه المخطوط بين يديّ، انقلبت علاقتنا رأسًا على عقب، ولم يعد لديّ ما أُزوّدك به من معرفة. أجل، لقد غدوتُ رفيقةَ رسائل لا قيمة لها.
آرتشي ألبرت، ألستَ حقًا تنوي أن تهجرني؟
عند الغروب في السابع والعشرين من تمّوز (يوليو)
– متّكئة على صداقتك الكريمة، كورديليا غراي
ملاحظة: هل السابع والعشرون حقًّا يختتم الشهر الأوّل من الصيف؟ إنّ الأمر يبعث في نفسي حزنًا غريبًا.
* * *
إلى كوكو الماكرة الداهية،
نعم، إن السابع والعشرين هو حقًّا نهاية الشهر الأوّل من الصيف.
لكن على خلاف سخونة ذلك الختام، يبدو أن مكايدك لا نهاية لها.
كوكو، لِمَ تسألين سؤالًا جوابه واضح وضوح الشمس؟
فعقلك الحاذق يعلم تمام العلم أنّي لا أستطيع أن أعيش يومًا واحدًا من دونك، فَلِمَ تسألين إن كنتُ سأهجرك؟
إنّي الليلة أتأمّل شتّى السبل التي يمكن بها أن يُنتزع من المرء عهدُ الولاء الأبدي.
ومع ذلك، كما هو الحال دائمًا، من يُحبّ أكثر يخسر، ولهذا سأغفر لك رسائلك الماكرة كلّها. بل وأشعر بوخزة من الذنب إذ أتخيّل انشغالك الدائم في حين أقضي وقتي في الدير خاملاً.
لكن يا كوكو،
أما ترين أنّك قد جاوزتِ الحدّ قليلًا حين تلاعبتِ بي بحديثك عن انقلاب علاقتنا، وعن عدم جدواك، وأنتِ ما زلتِ تملكين بين يديك الأمر الذي يثير فضولي أشدّ الإثارة؟
أجل، الأميرة والفارس.
كم هي آية في الجمال تلك الرسوم التي أثنيتِ عليها في سبعة أسطر كاملة؟
حتى حين مدحتِ وسامة ليام (وهو ليس أجمل منّي، لكن لا بأس، ما زال وسيماً) لم تتجاوزي خمسة أسطر!
أسرعي وأرسلي إليّ الأميرة والفارس.
فلتعلمي أن الأمر ليس بدافع فضولي فحسب، بل لأنّ الفنّ الجميل لا ينبغي أن يُستأثر به وحيدًا. عليّ أن أعرضه على القوم الكسالى في قاعة النسّاخ بديرنا، علّ انضباطهم يستفيق.
– آرتشي ألبرت، الذي إن هجرتِه يومًا فلن يتردّد في التوسّل كما يفعل اليوم، بكلّ فخر.
ملاحظة: ما دام في هذا العالم كتب، فستظلين نافعة لي أبدًا.
* * * إلى آرتشي ألبرت الدقيق،
حقًّا، لقد نسيت أن أُرفق مع رسالتي الطبعة الأولى من الأميرة والفارس.
لكنني أُقسم أنّي لم أفعل ذلك قصدًا لأراك في قلق واضطراب.
ولأني أشعر بالذنب إذ جعلتك تنتظر، أُهديك هذه المرّة النسخة الأولى من كنزي الخاصّ بدلًا من نسخة جديدة. إنّه الكتاب الذي احتفظت به منذ صباي، ذاك الذي قرأته لي أمّي عشرات، بل مئات المرّات. هو كتاب أرهقه الاستعمال قليلًا، تآكلت بعض أطرافه، وخطّت تحته خطوط ملتوية في غير موضع.
لكن ما إن تفتحه، فلن تقع عينك على تلك العيوب أوّلًا.
فحين ترى صورة الأميرة ذات الشعر الناري الأحمر، واقفةً تحت شجرة خضراء باهتة فوق حقل أزرق، ستفهم من تلقاء نفسك.
ستُدرك أن رئيس التحرير لم يكن عنيدًا عبثًا.
إنّه حقًّا تصوير بديع، أليس كذلك؟
ملاحظة: أجل، كنت أعلم أنّك لن تهجرني أبدًا، ولهذا سألتك. غير أنّي لم أتخيّل يومًا أنّ مجموعتي من الكتب ستكون أعظم ثروتي. لقد ظننتُ ببساطة أنّك لن تقدر على هجري لأنك رجل يحمل في قلبه حزن العاجز عن البوح بالحب.
وفجأةً، أقلقني خاطر سخيف: ماذا لو اختفت كل الكتب في العالم؟ أكنتَ عندها ستقطع صلتك بي في لحظة؟ سترمي رفوفك، سواء انكسرت أم لا، وتمضي بعيدًا. وبعد مئة عام، لو داهمك طيف ذكراي فجأة، ستأتي إلى التايمز. لكن عندها سأكون قد غطّيت قاع النهر بشعري الطويل، كاسفة البال، لملم ما تناثر من رسائل غاصت في أعماقه مع حزني.
مساء حزين، عند نهاية الشهر الأوّل من الصيف.
– مزوّدتُك بالكتب، كورديليا.
* * *
إلى كوكوني العزيزة، التي ستظلّ فاتنة حتى وهي تبكي شوقًا،
احكِ لي المزيد.
إن أنا هجرتك، ماذا كنتِ لتفعلي؟ أكنتِ في نوبة غضب تمزّقين رسائلي كلّها، على هواك، وتندبين وحدتك؟ أكنتِ تقضين الليالي في الشراب مع جولييت، وتغطّين الجدران بخطوطك المرتعشة؟ وأنتِ تعضّين أظافرك، تدورين في غرفتك الضيّقة التي لا تتّسع إلا لثلاث خطوات، ينهشك القلق حتى الفجر؟
صفِي بؤسك بأقصى ما تستطيعين من تفصيل. خصوصًا اللحظة التي تزحفين فيها على الأرض—أريد وصفًا حيًّا نابضًا لها.
أرجوكِ، قولي إنك ستذرفين دموعًا من أجلي.
أظنني لم أعد صديقك البريء بعد الآن، إذ أجد لذّة في كون حزنك سببه أنا. لا بدّ أني حقًّا شقيق سيسيل الأصغر. أنظري إليّ، أفرح بمرارة صديق عزيز! لم أعلم قط أنّ للإنسان أن يحمل مشاعر ملتوية على هذا النحو.
ملاحظة: أجل، كما قلتِ، فإن رسوم الأميرة والفارس آية في الجمال. والآن أفهم أيضًا لمَ ذكرتِ تلك اللوحة التي رسمتِها لخطّاطينا في الدير.
فالخطوط الدقيقة التي صُوّر بها الشعر الأحمر تذكّرني بعمل تيلبرت، أمهر رسّامينا.
أسلوبه أكثر استدارة وبلادة، وهو لا يرسم سوى المخطوطات القديمة المملّة لا نساء فاتنات، ومع ذلك فالتشابه قائم.
ثمّ يا كوكو، بينما طلبتِ مني أن أتأمّل الرسوم، وجدتني أقضي ساعة كاملة أحدّق في خربشاتك المشاكسة بدلًا منها.
لِمَ، بحقّ السماء، رسمتِ قرونًا فوق رأس الأميرة؟! إن حدثت معجزة غريبة فاختفت الكتب من الدنيا، فانحدرت قيمتك عندي، فلن أجد فيك إلا روحًا قرينة أتشارك معها أفكاري الماكرة.
– آرتشي ألبرت
* * * إلى عالمي، مرحبًا بك يا أميري.
إنّ السبب في أني رسمتُ قرونًا على رأس الأميرة هو أنّ لي، أنا أيضًا، روحًا شريرة كروحك.
أحيانًا أتمنّى لو أنك اشتقتَ إليّ حتى البكاء. أجدني، بلا وعي، أكتم أنفاسي متردّدةً أمام رفّ الكتب، راجيةً أن تعاني عذاب الانتظار من أجل رسائلي.
لكنني، بطبيعة الحال، لا أملك صبرك، فلا يدوم تردّدي أكثر من دقيقة.
– رفيقتك الشريرة، كورديليا.
ملاحظة: إن تقاسم الشرور يبعث لذّة خاصة من نوع ما. أحببت رسالتك الأخيرة إلى حدّ أنّي قرأتها ثلاث مرات.
* * *
إلى رفيقة روحي الشريرة،
حلّ الظلام كأنّه ستار يغطّي خطايانا. ومعناه أنّ الوقت قد حان للسرقة.
ظللتُ أفكّر في رسوم تيلبرت وأنا أتأمّل لوحات الأميرة والفارس. ومن ثمّ عدت لتوّي من زيارة قسم حفظ الكتب في دار النسّاخ. ذلك المكان منفصل تمامًا عن المكتبة، إذ نحتفظ فيه بالكتب التي ينسخها كتّابنا.
يا لغباء هؤلاء النسّاخ، إنّهم يحرصون على صنع نسخة إضافية من كلّ كتاب مأجور، ويخزّنونها هناك. أجل يا صديقتي المولعة بالكتب، هذا هو المكان الذي ستقضين فيه جلّ وقتك إن وطئتِ عالمنا.
حتى لو لم تكوني مولعة بها، فإنّ هذا المكان جنّة لكثيرين. صديقتنا فلين تمضي معظم يومها هناك.
لكن الليلة، فيما الرهبان وفلوريان ونويل غارقون في النوم، لم يكن ثمّة أحد غيري يجرؤ على دخوله. لا أحد سواي يفكّر بسرقة كتاب، لا نهارًا ولا ليلًا.
فلا تعاتبيني يا كورديليا على أصابعي اللزجة قائلة: «كم سرقتَ إلى الآن؟» فما كان ذلك قصدي.
كلّ ما في الأمر أنّي ذهبت أتأمّل رسوم تيلبرت القديمة لأني شعرتُ ببعض الوحدة بينما كنتِ تكرّرين قراءة رسالتي ثلاث مرّات.
ولكن، من كان يظنّ أني سأجد شيئًا كهذا؟
على خلافك، أنا دقيق متأنٍّ، ولم أنسَ أن أرفق الكتاب مع الرسالة.
فما إن تفتحيه حتى يأسر بصرك عنوانه. إنّه من روائع بيدر:
*حكاية السير آرثر غيلين*
ما إن يقع بصرك على هذا العنوان، ستسامحين عادتي السيئة في استعارة الأشياء بلا استئذان.
صديقتي الفاضلة، إن كنتِ ما زلتِ ترين أنّ أخذ الشيء من غير إذن خطيئة، فاقلبي الصفحة التالية.
هناك ستجدين رسماً طويلاً متقن الزخرفة، يختلف كلّ الاختلاف عن أساليب هذا العصر. وتحت الرسم ستقعين على حرف صغير “t” خطّه تيلبرت علامةً على عمله، في فخرٍ منه.
لكن قبل أن يسبقك الضحك إلى هذا الحرف الضئيل، ستقعين على ما هو أبهى.
ستقعين على صورة السير آرثر غيلين، بريشة تيلبرت نفسه، بعينيه الزرقاوين المحطّمتين، لامعتين كأنّ أشعة الشمس قد امتزجت بخصلات شعره الذهبي.
نعم يا كورديليا. لقد صنعتُ ما كنتِ تقولين إنه مستحيل.
رسوم الأميرة والفارس كانت من عمل تيلبرتنا نحن.
وسأعيد إليه غدًا صباحًا أبيات المديح الثمانية التي أرسلتِها له.
أما الآن، فأرجو أن تغلقي رفّ الكتب وتتمدّدي، قارئةً الكتاب الذي أهديتُكِ إياه، حتى يغلبك النعاس.
وفي أحلامك، سأدعوك إلى عالمي، إلى المكتبة العظمى، حيث لا يجد السرور إلا عاشقٌ للكتب مثلك.
تصبحين على خير، يا كوكو.
* * *
آرتشي ألبرت، أأنت مجنون؟
أتريدني أن أستلقي إلى جوار كتاب كهذا وأنغمس في نوم هادئ مطمئن؟
لا، إنك الآن حتماً تبتسم في خبث، متشوقاً لجوابي.
أتقول إن تيلبرت هو رسّام الأميرة والفارس؟!
فماذا عن آن سيلين، المؤلِّفة؟ أيمكن أن يكون هو آن سيلين ذاتها؟
وكيف انتقلت الرسوم إذن؟ أهي عبر رفوف الكتب؟
أم أن ثمة وسيلة أخرى خفيّة؟
لقد كتمت الأمر كل هذا الوقت، ولم تكتب لي في آخر رسالة سوى: “مرحباً، هذا تيلبرت”!
إن تيلبرت الرسّام أمكر مني، وأخبث منك، وأشدّ شراسة من سيسيل!
ثم ما شأن هذا الكتاب؟
قلتَ إنه حكاية السير آرثر غيلن، فإذا به لا يروي شيئاً عن الأميرة إدويْنا، بل هو أسطورة تأسيس وينترتون! يظهر فيه آرثر غيلن فارساً شجاعاً وحسب، ولا ظلّ لقصة حبّه في أي موضع.
أفي وينترتون أحد يخلد؟
هل شارك السير آرثر غيلن في تأسيسها وعاش طويلاً حتى التقى بالأميرة إدويْنا؟
أم أن أهل وينترتون يعمّرون مئة أو مئتي عام؟ أو لعلّ اسم “آرثر غيلن” اسم شائع حدّ الابتذال في تلك البلاد؟
أرجوك أن تكتب إليّ سريعاً، يا صديقي.
في الساعات الأولى من الثامن والعشرين من يوليو، وقد أوشكت أن تنقضي إلى التاسع والعشرين،
– صديقتك التي لم يغمض لها جفن، كوكو.
* * *
إلى رزمة علامات الاستفهام العزيزة، كوكو،
يسعدني غاية السعادة أن أعود لمشاكستك من جديد.
ويسعدني أيضاً أن أثبت لك نفع وجودي بعد طول غياب.
لكنني الليلة مُنهك جداً، وسأجيبك حين يستيقظ تيلبرت في صباح الغد.
فلا تدعي الوحدة تتسلّل إليك—نامي هانئة يا صديقتي.
– بكل المودة، آرتشي ألبرت.
* * *
لا يا أميري،
لست أشعر بالوحدة—إنني حقاً عاجزة عن النوم، أما قلت لك ذلك؟
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات