كيف ذلك، وقد وصلتني رسالتكِ في اللحظة التي أرسلتها فيها؟
لقد بلغتُ الدير لتوّي، وقبل أن أستريح في الإسطبل المحترق قادوني إلى قاعة النسخ.
وهناك بادرتُ إلى فتح محفظة الوثائق بعجلة، كجملٍ يرد الماء بعد اجتياز صحراء ألدَر، وقبضت على رسالتك بين يدي.
كان كلا الخطابين موجَّهين إلى بيدر، فتهلّل الشيخ فرحاً.
أما أنا فحملت الصندوق إلى غرفتي، أجرّ كتفي الموجوع (أجل، لم تنسي، أليس كذلك؟ إنه يؤلمني. فلتُعيري هذا الكتف بعض العناية)، وعزمت أن ألومك على صمتك ثلاثة أيام بتمامها.
لكن ما إن فتحت الصندوق حتى انزلقت منه ثلاث ورقات. لا بد أنكِ حاولتِ أن تكتبي رسالة جديدة، فأفرغتِ المحفظة وأعدتِها. وهكذا تساقطت إليّ دفعة واحدة ثلاث رسائل سكبتِها في ليالٍ ثملات.
أيتها السيدة، إن البهجة التي غمرتني في هذه اللحظة الساحرة لا يدركها سوانا في هذا العالم. والآن، كالمجنون، أطبع قبلاتي على الورق عوض شفتيك، وألتهم كلماتك بلهفة لا تعرف التردد.
أأنتِ ما تزالين جالسة هناك يا سيدتي؟ أفأجيبكِ باقتضاب أولاً كما تشتهين؟
نعم، قد وصلتُ سالماً.
بل أحمل أيضاً أخباراً طريفة لأقصّها عليك. غير أن الأجمل دوماً أن أرتشف رسائلك قبل أن أسرد حكاياتي.
في الرسالة الأولى، على عادة الخطاب الثمل، أغرقتني بكلمات مبهمة لا أفهمها.
وفي الثانية، زلزلتِ كياني إذ خاطبتني: “أميري الحبيب”، ثم ذكرتِ أنكِ تبعتِ رسالة شاعر.
إذن، ما عدتُ أصدّق أنكِ تشبهين أباكِ المتعثّر. فمن أول جملة من كتابك تبيّن لي أنكِ من أمك ورثتِ تلك القدرة على اللعب بي.
ليلة الخامس والعشرين من الشهر الأول. – آرتش ألبرت الخاص بكِ، الذي اندفع مغطّى بالغبار، ليستقر عند مكتبه.
ملاحظة: كُفي عن مراسلة بيدر، فقد اغتصبتُ لنفسي لقب “السيدة” الذي يناديك به.
ملاحظة ثانية: نسيتُ أن أعلّق على قولك “من خطي تعرف أنني ثملة.” لا يا كورديليا، فبخطك وحده لا يقدر أحد أن يفرّق بينك وأنتِ ثملة أو وأنتِ صاحية لم تمسي خمراً. إن خطك أبداً يترنّح كالمخمور، وأنا أعشق حتى ذاك الترنّح.
* * *
إلى أميري آرتش ألبرت، الذي يتقبّل ارتجاف يدي في الكتابة بثبات خطّه ورسوخه،
قرأتُ بسرور جوابك الواثق، الذي حاول أن يردّ على رسائلي الثلاث دفعةً واحدة.
دعني أؤخّر حديث الرحلة إلى وقتٍ آخر، وأبدأ أوّلًا بالإجابة عن غيرتك المتّقدة: لقد كتبتُ إلى الناسخ بيدر منذ ثلاث ليالٍ، ولم يكن في الرسالة ما يُذكر.
إنما التبس عليَّ الأمر، فظننتُ رسالتك «المازحة» رسالةً منه، ولم أسأله إلا عن ذلك. لكنّ الرسالة بقيت في محفظة الوثائق ثلاثة أيّامٍ كاملة، ولم يصلني ردٌّ من بيدر.
فأرى أنّ الوقت قد حان لوضع حدٍّ لشكوكك التي لا تنتهي بشأنه. إنّه لم يعد يتطفّل على محفظتنا.
ملحوظة: تقول إنك لم تفهم رسالتي الأولى؟ تلك التي اختتمتُها بعبارة «اقرأها ثم مزّقها»، أليست دعابة منك؟ أم أنّها حقًا كانت مقلبًا من بيدر؟
ملحوظة ثانية: لقد نسيتُ الأهم. هل تعلم؟ إنّي منذ ثلاثة أيّامٍ لم أنتظر أحدًا سواك. فقط من أجل هذه اللحظة، لحظة تبادل الرسائل معك.
* * *
إلى سيّدتي، التي تغويني بملحقاتها الحلوة.
في صباح اليوم الذي خرجتُ فيه إلى عرس دافني، قصدتُ قاعة النسّاخ وأقفلتُ محفظة وثائقنا بقفلٍ جديد.
كنتُ قد طلبتُ من الحدّاد قبلها بيوم أن يصنع لي قفلًا متينًا، ولحسن حظي تمّ إنجازه قبل رحيلي.
لا شكّ أنك تلمحين إليّ بطرف عينك، ظانّةً أنني أبالغ في التعلّق، غير أنّ السبب لم يكن محصورًا في شكوكي تجاه بيدار.
فقد ورد طلبٌ جديد لنسخ كتاب، وانشغل النسّاخ الثمانية في دير ليث أشدّ انشغال، وصار الداخلون إلى قاعة النسخ الأولى والخارجون منها كثيرين.
وأمّا أن أنقل المحفظة إلى غرفتي، فلم يكن ذلك خيارًا؛ إذ إنّ فلين ونويل لا يكفّان عن طرق بابي، فأحسستُ أن لا بدّ من شيءٍ من التحوّط.
وعلى أيّة حال، فإنّ الرسالة التي قلتِ إنك مزّقتها، يظهر أنّها كانت من ألاعيب بيدر في الليلة السابقة لوضعي القفل. يا له من شيخٍ ماكر.
وتحيّتي لصديقتك الآنسة جولييت، التي سارعت إلى تمزيق الرسالة؛ فإن قدّر لنا اللقاء يومًا، فأشعر أن بيني وبينها وشيجة الأرواح.
ــ غير أنّ جسدي، يظلّ لكِ وحدكِ، آرتش ألبرت.
* * *
إلى الأمير آرتش ألبرت، الذي صار لي بحقٍّ وقانون،
أتعلم أنّ كلماتك التي سطّرتها في رسالتك تحمل قوّة الإلزام؟ إنّ وهبك روحك لجولييت بثمنٍ بخس، وإهداءك جسدك الجميل لي، ليملأني نشوةً لا تُقاس. ولو كانت محفظة الوثائق أوسع قليلًا، لتسلّلتُ إليها، وبلغتُك، ومزّقتُ كل لذّةٍ أو غيرها في طريقنا ـ يا للأسف.
لكن يا آرتش، عن تلك الرسالة، سواء أكانت مزحةً من بيدر أم لا… لقد أقلقتني ثلاث ليالٍ كاملة.
اعذرني إن بدا قولي قاسيًا، لا سيّما وأنت ما تزال تعاني من وعثاء السفر، ولكن هلّا استدعيتَ بيدر إلى محفظتنا برهةً يسيرة؟ أرِه رسالتي، واطلب منه أن يقلّد خطّي. فإن سأل: لِمَ؟ فقل له فقط إنّ كورديليا توسّلت في رجاءٍ حار.
ليلة الخامس والعشرين من الشهر السابع،
ــ ومنذ اليوم، آمرك مالكتك، كورديليا.
* * *
إلى مالكتي الفخورة،
أيُّ سؤالٍ في الأمر؟ سأطيع في الحال.
ما دمتِ قد سألتِ، فلا ريب أنّ لكِ سببًا. سأمضي مسرعًا إلى بيدر. وإن كان الشيخ نائمًا، سأوقظه وأحضره إليك، فاصبري قليلًا بعد.
ليلة الخامس والعشرين من الشهر الأوّل،
ــ ومنذ اليوم، عبدك، آرتش ألبرت ويليام.
* * *
إلى كورديليا،
بما أنّ لقاءنا متعذّر، فأنتِ تعلمين أنّ صداقتنا لا تقوم إلا على الصراحة التامّة، أليس كذلك؟ فلا تأخذي قولي على محملٍ خاطئ. أأعددتِ نفسك لما سأقوله؟
إنّ خطّ بيدر أنيقٌ أكثر من أن يحاكي خطّك! فمن يكتب بتلك البراعة لا يمكن أن يضاهيكِ في سطورك المترنّحة.
ولئلّا تشعري بالإهانة، أرفقتُ لكِ محاولة بيدر المخلصة لتقليد كتابتك.
ملحوظة: لا بأس عندي أن أشعر كأنّي في خضمّ لغز، ولكن ما الذي يحدث حقًا؟ دعيني أشارك في هذه المتعة أنا أيضًا.
* * *
إلى الأمير آرتش ألبرت ويليام،
والآن، إذ ناديتُ اسمك كاملًا، فأنتَ تدري أنّي جادّة في قولي. دعني أبوح لك بما تخفيه الحكاية التي تشوّقتَ إليها.
قبل ثلاث ليالٍ، في السحر، بعد أن سحرتني بقولك إنك تفكّر بي كل يوم، ظهرت رسالة غريبة في محفظتنا.
كاتب تلك الرسالة ذكر عادةً لا يعرفها سواي وسوى والدتي الراحلة. كما أنّه تنبّأ بأمرٍ لا والدتي ولا أنا كان بوسعنا التكهّن به.
وما هو أهم: أنّ كاتب الرسالة قلد خطّي. لم يكن مثاليًّا، لكنه كان يكاد يطابقه.
ظننتُها أولًا مزحةً من بيدر. ثمّ لاح لي أنّها قد تكون منك، مداعبةً نادرة في تعقيدها. غير أنّنا الآن تأكّدنا أنّها ليست منك ولا منه.
فالسهـم في ذهني يشير إلى اتجاهٍ واحد، غير أنّي أرتعد خوفًا من أن أخطو في ذاك الدرب.
ــ صديقتك القلقة، كوكو.
* * *
إلى سيّدتي شيرلوك،
سأمضي وأحذف تلك العبارة عن «المزحة المتقنة» من الرسالة، أتفقنا؟ فبما أنّ هذه الرسائل ملزِمةٌ بحكم القانون، قد يتردّد صداها يومًا في قاعة المحكمة.
نعم، لقد كانت محاولتي الساذجة في المزاح، أردتُ بها أن أطمئنكِ. سامحيني على تأخّري في الجواب؛ فقد استغرقتُ وقتًا حتى أدركتُ ما تعنين.
إذن، أنتِ تتحدّثين عن تلك الرسالة التي مزّقتِها وأنتِ سكرى برفقة جولييت، أليس كذلك؟ رسالة لم يكتبها لا بيدر ولا أنا، وانتهت مع ذلك في محفظة الوثائق؟
أجد صعوبة مثلك في استيعاب ما يجري. لقد ذكرتُ لك من قبل أنّ قاعة النسخ الأولى قد غدت مأهولة بالداخلين والخارجين، لكنّهم مع ذلك لا يخرجون عن نويل، وفلوريان، والنسّاخ الثمانية: بيدر، لويس، بيتر، فيليب، تيلبرت، جيريمي، دوسي، وأوزدين.
وما من أحدٍ منهم اطّلع قطّ على خطّك الأخّاذ. فأنا دائمًا أخبّئ رسائلك التي تبعثينها إليّ في موضعٍ سرّي لا يعلمه سواي.
فمن ذا الذي قد يتلاعب بنا فيقلّد خطّك؟ لا أملك جوابًا.
غير أن الأعجب من ذلك، يا سيّدتي شيرلوك، أنّي لا أفهم شيئًا مما يجري، بينما أنتِ، صديقتي الذكيّة، يبدو أنّكِ قد عرفتِ الجاني سلفًا.
ما الذي يحدث بحقّ السماء؟ ولمَ أنتِ خائفة هكذا يا كورديليا؟
في هذه الليلة المرعبة من الشهر الأوّل،
صديقكِ المخلص أبدًا، آرتش ألبرت.
* * *
إلى صديقي الحكيم، الذي يهتدي إلى الحقائق ولو وسط ثرثرتي،
آرتش، هل تدري؟
ذاك الموضع الذي تلتئم فيه كتفك الممزّقة ومعصمك المكسور كأن لم يكن بهما بأس، حيث يأنس الناس في أحاديثهم بذكر أبراج السحر، وحيث تتخطّى الوحوشُ الحواجز ـ كل هذا لا وجود له في عالمي.
في عالمك، لو سقطت رسالة فجأة في محفظة الوثائق، قد تعدّها أمرًا عابرًا. أمّا في حياتي الكالحة، فهو معجزة.
نعم، تبادل الرسائل معك أشبه بالسحر عندي.
وأرتعد من فكرة أن ينتهي هذا يومًا. أشدّ ما يخيفني أن ينقطع، فأبقى جالسةً هنا، عاجزة، لا أصنع شيئًا.
فيا آرتش، سأشرح لك لاحقًا ما الذي يجري، لكن الآن، أيمكنك أن تفعل ما أطلبه منك فقط؟
أيّها الأمير الحبيب، ارقد هذه الليلة واسترح من عناء سفرك. وحين يطلع الصباح، أيقظ الجميع واجمعهم حول محفظة الوثائق: النسّاخ الثمانية، نويل، فلوريان ـ الجميع.
ثم دع كلّ واحدٍ منهم يدخل قاعة النسخ الأولى، ويكتب ما يشاء، ويضعه في المحفظة. لا يهمّ ما يكتبونه ـ فليخطّوا ما يريدون إيصاله إلى كورديليا. وإن شئتَ، أرِهم رسالتي واطلب منهم أن يقلّدوا خطّي.
طمئنهم أنّ لا أحد سيلقي نظرةً على ما كتبوا.
دع المحفظة على حالها حتى منتصف الليل. آرتش، هذه المرّة، إيّاك أن تتلصّص.
أنا أوّل من سيتفحّص، وسأقصّ عليك ما يحدث.
أتثق بي وتفعل ذلك؟
ليلة الخامس والعشرين من الشهر الأوّل،
ــ كورديليا، المثقلة بالذنب إذ أكلّفك عناءً قبل أن تبرأ من عناء رحلتك.
* * *
إلى كوكي المتكتّمة،
ما طلبتِه منّي لم يضرّني يومًا. وحتى لو فعل، فأنتِ تعلمين أنّي لن أتردّد.
نعم، سأفعل ما أمرتِ به.
إنّ الرهبان النشطاء يستيقظون قبل الفجر، فلن يستغرق الأمر طويلًا. أصعب ما سيكون عليَّ هو مقاومة الرغبة في التلصّص إلى محفظة الوثائق حتى يحين منتصف الليل، كما أوصيتِ.
إذن، إلى الغد عند منتصف الليل، يا صديقتي.
25/7
ــ صديقكِ الوفي، آرتش.
* * *
مرحبًا.
تيلبرت هنا.
* * *
أشتهي سمك الرنجة المملّح.
* * *
قلتِ أن نكتب أيّ شيء، فها هو: «أيّ شيء».
* * *
السيّدة كورديليا، أنا الناسخ بيدر.
كنتُ أودّ أن أكتب الكثير، غير أنّ الأمير آرتش أمرني أن أُوجز. ومع ذلك، طلب من لويس أن يكتب ما شاء! لماذا يشدّد عليَّ ويترخّص معه؟ على أيّ حال، أبعث بتحيّاتي وأرجو أن تبقي بخير حتى يحين موعد تبادل كلماتنا المقبل. لكن ـ صدقًا ـ ما الذي يفعله أميرنا؟ إنّه يفقد عقله يومًا بعد يوم، وهذا العجوز قلقٌ بحق…
* * *
كان صعبًا أن أكتب بعد دور الناسخ الأكبر بيدر.
* * *
الربّ الأمين وحده نوري وهادٍ لي.
* * *
أنا جائع. يا رب، أنزل اللحم.
* * *
أنا جائع. وأظن أنّ فيليب كتب أنّه جائع أيضًا، فلعله جائز أن أكتب الشيء نفسه.
يا رب، لا تُنزِل اللحم فحسب، بل أرسل معه خبزًا أيضًا.
* * *
نويل نويل نويل نويل
آتشي آتشي إيتشي آتشا
كورديليا كورديليا كورديليا كورديليا
فلوريان فلوريان فلوريان فلوريان
* * *
كورديليا،
قلتُ لكِ ألّا تخبري أحدًا.
فلتلزمي الصمت، وحين تنقطع الرسائل، توجّهي إلى لِيَام.
ألا تصغين أبدًا؟
هذه المرّة، أرجوكِ أن تسمعي لي وتفعلي ما آمركِ به.
* * *
إلى سيّدتي المحقّقة العزيزة،
أقسم أنّي لم أُلقِ نظرة. أهكذا كما أردتِ؟
عند منتصف الليل، في الليلة الفاصلة بين السادس والعشرين والسابع والعشرين من الشهر الأوّل.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات