ها أنا أخرجُ كل الرسائل التي أرسلتَها إليّ من رفوف مكتبتي، وأضعها في صندوقي القديم للكنوز. في أسفل الصندوق ترقد الرسائل التي وصلتني أيّام المدرسة الداخلية، وفوقها بانتظام رسائلك، وإلى جانبها رسائل بيدر ورسوم نويل.
باستثناء تلك الرسالة المازحة التي بعثتَ بها إليّ بالأمس.
لم تكن نيّتي أبدًا أن أمزّق تلك الرسالة منذ البداية. وكالعادة، كان الخمر هو السبب. فقد قالت جولييت:
«كورديليا، مكتوب في أسفلها أن تمزّقيها. أتدرين ما الذي يحدث إذا لم تمزّقي رسالة يُطلَب منك فيها ذلك؟»
قلت: «ستُحفظ جيدًا؟»
فأجابت: «ستموتين. أستطيع أن أعدّد لك ما لا يقل عن 142 بطلًا من روايات الغموض لقوا حتفهم لأنهم لم يتّبعوا التعليمات.»
كنتُ قد سكرت قليلًا، فجاءت كلماتها مُقنِعة على نحو غريب. فمزّقنا الرسالة إربًا وألقيناها في نهر التايمز.
وفي طريقي إلى البيت، خطر لي فجأة أنّ الأمر قد لا يكون من بيدر ولا من شبحٍ مجهول، بل ربما كان مقلبًا من تدبيرك أنت، يا آرتشي.
خطّك الجميل المصقول في غرفة الدرس، قادر على تقليد خطّي ببراعة. يؤسفني أنّي فقدتُ إحدى رسائلك، لكن ما فات قد فات. على أيّ حال، لقد كانت رسالة تأمرني بتمزيقها.
والحق يُقال، يا آرتشي، إنني أحببت الرسالة التي سبقت المزحة أكثر. فقد بدت كاعتراف صادق، وجعلت قلبي يخفق بقوة. كيف لك أن تعرف تمامًا ما تحبّ النساء سماعه؟ وإذا سألتُك هذا، فستقول لي على الأرجح جملة عذبة أخرى من قبيل: «الأمر ليس أنني أعرف النساء جيدًا، بل أنني أعرفك أنتِ، يا كوكو.»
حقًا، لا أستوعب كيف لم تتمكّن من كسب قلب دافني.
ملاحظة: في الحقيقة، لقد قرأت تلك الرسالة عشر مرّات حتى الآن. تقول إنك لا تستطيع أن تصرّح لي بحبك؟ وإنّ فلين فائقة الجمال لكنك لا تستطيع أن تحبّها بسببي؟ يا للخسارة، هه!
ملاحظة ثانية: لكن أخبرني، من أين علمتَ بهوسي الغريب بطريقة تمزيق الورق؟
7.23. ليلًا.
– كوكو، عائدة مترنّحة من على ضفاف التايمز.
* * *
إلى أميري الحبيب،
إنها كورديليا، التي تنتظر اليوم الذي سوف تدخل فيه أنت إلى الدير، وهي واقفة أمام خزانة الكتب ممسكة بكتاب شعر.
نعم، كما لا بدّ أنك استشففت من خطّي، أنا ثملة قليلًا هذه الليلة أيضًا. فقد أصرت جولييت على أن دوري قد حان لأصغي إليها، بعدما أصغت هي إليّ بالأمس. ثم إنك لم تكن هنا، فلم أجد ذريعة أستعجل بها العودة إلى البيت.
لكن اطمئن، يا أميري. فرفيقتك جبانة أكثر من أن تصنع حادثًا دراميًا تحت وطأة الشراب. أقصى ما أفعله حين أسكر هو أن أقرأ، وأكتب رسائل، وأضايقك بهدوء. وربما أنت أيضًا الآن مخمور تمامًا في عرس دافني.
أتدري، يا أميري، لو أنّك في المرة القادمة حين تغيب تأخذ معك صندوقنا السحري؟ حتى لو كان السفر شاقًّا، يمكنك أن تلفّه جيدًا وتحفظه في أمان، أليس كذلك؟
لقد سمعت أنّك ستغيب ثلاثة أيام، وربما أربعة. ومع ذلك، أبقى أحدّق في الصندوق مرارًا، وأنا أعلم أنه مهما أطلت النظر فلن يخرج منه شيء.
يبدو أنّ بيدر مشغول بدوره، إذ لم تخطر له حتى فكرة التسلل خفية إلى مكتبتنا.
أما الرسالة التي سألتك فيها: لماذا صنعتَ بي تلك المزحة؟ فهي ما زالت ترقد بحنوّ، وإن بوحشة، إلى جانب رسالة استدعاء بيدر.
ما زال أمامي يومان حتى عودتك. ومع ذلك، تحسّبًا لعودتك المبكرة، أفتح الصندوق كلما فرغت من قراءة صفحة من كتابي.
والكتاب الذي أقرؤه الآن هو مجموعة من رسائل الشاعر جون كيتس، لذا سأنسخ لك مقطعًا منه:
«سيّدتي الحبيبة، أشعر أنني خاضع لسلطانك. أرجوكِ، اكتبي لي ردًا ولو سطورًا قليلة. عاهدي أن تحبيني كما أحببتني بالأمس.»
نعم، هكذا بالضبط. وبعد هذه الأبيات ناديتك أنت أيضًا بـ «أميري الحبيب».
أميري، الأجمل بلا ريب من تلك السيدة التي هام بها الشاعر،
عُد سريعًا، وأفرغ صيفك في حضرتي مرّة أخرى. لقد أفرغت لك أنا جميع لياليّ منذ الآن.
7.24. الليلة الثانية في غيابك، ثملة بلاك، كورديليا التي تشعر أنها خاضعة لك.
* * *
إلى آرتشي ألبرت الجشع،
كنتُ أفكّر، وتبيّن لي أنّك شخص سيّئ… سيّئ للغاية.
أنت تترك خزانة الكتب بحجّة هذا وذاك، لكن حين أتقاعس عن كتابة رسائل لك لبضعة أيّام فقط، تتدلّل وتُظهر الامتعاض، فتغمرني مشاعر الذنب بلا حدود.
تخيّلني جالسة أمام خزانة الكتب كل يوم، فقط لكيلا تشعر بالجرح حين تعود ولا تجد رسالة بانتظارك. صديقتي جولييت ستُصاب بالذهول إن عرفت بذلك.
تقول جولييت إنّ السبب في فشلنا مع الأشخاص الذين نحبّهم كثيرًا هو عجزنا عن إخفاء مشاعرنا. فإذا أظهرتَ أكثر من اللازم أنّك معجب بشخص ما، كان الرفض هو المصير الأقرب.
وتقول أيضًا: كلما أحببتَ أحدًا أكثر، وجب عليك أن تخفي ذلك أكثر، وتجعلهم يتشوّقون إليك هم، وألا تتشبّث بيأسٍ بشخص واحد فقط. هذا هو سرّ نجاحها.
لو كنتُ أبرع قليلًا، لربما استطعت أن أفعل ذلك أيضًا.
بدلًا من أن أكتب لك رسائل كل يوم وأضعها في الخزانة كما تشتهي، كنت أستطيع أن أتظاهر بعدم تلقّي رسالتك الأخيرة.
وكنت أستطيع أن أُظهر التجهّم حين تقول إنك تفكّر بي يوميًا، وأداعبك بجواب: «أرسلتَ لي رسالة كهذه فعلًا؟»
لكنني فاشلة في مثل هذه الألاعيب.
خطر ببالي الآن طرفة صغيرة، عن أبي وأمي.
جولييت لا تُصغي أبدًا إلى مثل هذه الحكايات. تقول إنّ البنات اللواتي يُرِدن سماع تفاصيل عن قصص الحب بين والديهنّ غريبات الأطوار، وإنّها لا تريد حتى أن تتخيّل الأمر، فضلًا عن أن تسمع به.
وأنا أفهم وجهة نظرها. فالسيد والسيدة كابلان مثلًا لا يترددان في تبادل القُبل الحارة أمامي، ويظلان يرويان مرارًا قصة ما حدث في السيارة ليلة حُبل بجولييت… أجل، ذلك أمر لا أريد أن أعرفه أنا أيضًا!
لكنني، يا أميري، على النقيض تمامًا من جولييت. فوالداي لم يتبادلا قُبلة أمامي أبدًا. وطبعًا، لكي يحدث ذلك، كان ينبغي أن يكونا على قيد الحياة—وأبي وأمي كلاهما ميتان! هذه نكتة، فلا تعبس يا أميري. إنما أردتُ أن أقصّ عليك قصة طريفة.
ابنة مثلي، لم تعرف حتى كيف كان شكل والدها، لا بدّ أن تتشبّث بأمّها وتسألها عنه بلا ملل:
«كيف كان أبي؟»
«وكيف التقت أمي بأبي؟»
طفلة كنتُ، أكرر الأسئلة ذاتها بلا نهاية، وفي كل مرة كانت أمي تعطيني إجابة مختلفة. أحيانًا تصف لي وسامته، وأحيانًا تروي كيف كان مثابرًا في السعي وراءها، وأحيانًا تقصّ طرفة عن أحد زلّاته الحمقاء.
أما حكايتي المفضّلة، فهي عن رسالة كتبها أبي.
في الأيام التي كانت تنجح فيها أمي في بيع شيء من متجرها، ويكون مزاجها رائقًا، كنت أرجوها أن تروي لي تلك القصة مرارًا وتكرارًا.
ورغم أنّها كانت تتذمّر وتقول: «أما زلتِ لا تملّين؟» فإنها ما تلبث أن تضيف: «الأشياء الجميلة تستحق أن تُسمع مرّة بعد أخرى»، ثم تعيد القصة لي مرتين أو ثلاثًا على التوالي.
منذ زمن بعيد، قبل أن تقبل أمي بمشاعر أبي، كتب لها رسالة. كانت رسالة طويلة جدًا، أودع فيها قلبه، ثم تركها في مكانٍ ما لتصل إليها. لكن أمي لم تكن تعلم بوجودها، ولم تعرف أنها وصلت. ولم يكن إلا بعد وقتٍ طويل أنّها ذهبت أخيرًا لتستلمها.
وحين وقعت الرسالة بين يديها، لم تُرِد أن تضيع وقتها جالسة إلى مكتبها لتكتب ردًّا. قالت إنها لم تشأ أن تنتظر جوابًا قد يستغرق وصوله وقتًا مجهولًا—لقد أرادت أن تركض مباشرة إليه، لتعانقه. أما أنا، فمخالفة تمامًا لأمي، أليس كذلك؟
بينما كانت أمي تركض إليه بكل شوق، كان هو في الجهة الأخرى يغرق في اليأس.
فقد سلّم قلبه في تلك الرسالة الطويلة، لكنه لم يرَ أي بادرة منها لوقت طويل، وظلّ ينتظر، يتساءل متى يأتيه الرد. وحتى حين استلمت الرسالة أخيرًا، مرّت أيام دون أن ترسل إشارة قصيرة تؤكد أنّها قرأتها. كم كان ذلك محزنًا له!
وعندما وصلت أمي إلى بيت أبي سيرًا على قدميها—من دون أن تركب قطارًا أو حافلة—كان أبي لا يزال متجهّمًا، غارقًا في عتابه.
لم يلتقيا منذ زمن، ووقفت أمي أمامه بقلب يخفق حماسًا.
لكن أوّل ما نطق به أبي كان:
«هل قرأتِ رسالتي أصلًا؟»
قالت أمي إن منظره كان شديد الظرافة وهو يقطّب حاجبيه بتلك الطريقة.
فبدلًا من أن تقول له ما خطّطت له في الطريق، أرادت أن تمازحه قليلًا.
«أي رسالة؟»
في تلك اللحظة شحب وجه أبي.
«إذًا… أين اختفت؟»
وكاد أن يستدير راجعًا إلى الداخل ليبحث عن رسالته الضائعة، لولا أن أمي أوقفته. أمسكت بكتفيه وأدارته نحوها. ثم ارتطمت شفتاها بشفتيه.
هكذا كانت أوّل قبلة بينهما.
وبعد تلك القبلة المرتبكة، كان أبي يرتجف كفتاة خجولة.
احمرّ وجهه كلون الغروب حتى بلغ الاحمرار أذنيه، وأمي، بابتسامة رقيقة، قالت:
«لقد قرأتها. وبعد أن قرأتها، رغبتُ أن أراك… فجئتُ أركض إليك.»
لم تُضِف أمي أكثر من ذلك، لكنني أحيانًا أتساءل… أليس من المؤكّد أنّها في ذلك اليوم هي التي انقضّت على أبي؟
نعم، لا بد أنّ ذلك اليوم كان اليوم الذي حُبِلتُ فيه.
أجل، يا أميري.
في حالة والديّ، كان أبي هو الذي يسهر الليل يقرأ الكتب ويخطّ منها نسخًا، بينما كانت أمي هي التي تركض مسرعةً إلى الخارج من أجل… حسنًا، أنت تفهم.
ومن المفارقة أنّه، رغم أنّي وُلدت من أمٍ لا تتردّد في الفعل، فإنني ورثتُ عن أبي طبعه الهادئ، لا طباعها. وهذا دائمًا ما يترك في نفسي شيئًا من الحسرة.
ترى، لو كان بمقدوري أن أركض إليك، هل كنتُ سأجرؤ على مثل تلك المقالب أنا أيضًا؟
حتى بعد أن أقرأ رسالتك العذبة، التي تُسكّن غيرتي المشتعلة حين تقول إنك تفكّر بي رغم أنّك تحدّق في امرأة فاتنة… هل أستطيع أن أمازحك وأقول: «يا للعجب، لم تصلني رسالة كهذه»؟
لا أعلم. الأرجح أنني، كابنة أبي، سأعجز عن المقاومة وسأرجوك ببساطة، عاجزةً عن التمنّع.
أرجوك، ما إن تعود، أن تكتب لي.
قل لي إنك وصلت سالمًا، وإنك تجلس إلى مكتبك، وإنك قرأت الرسائل الثلاث التي كتبتُها خلال الأيام الماضية.
فقط بعد أن تطمئنني، يا أميري، اخلع ثياب سفرك، واغتسل، وتخلّص من وعثاء الطريق.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات