ليست صديقتكِ من اضطرت لإيقاظكِ من جديد، أليس كذلك؟
إنني أفكر بكِ منذ الصباح.
الليلة، حين أفتح خزانة الكتب متأخراً، سأجد رسالتكِ بداخلها. ستقولين إنكِ كنتِ منشغلة في الصباح فلم تتمكني من فتح الخزانة، وإنكِ الآن فقط وجدتِ وقتاً لتقرئي رسالتي.
لكن لا بأس. فالرسالة في الصباح رفاهية على كل حال.
بيد أنّه يا كورديليا، إن أنتِ أخرجتِ رسالتي في الصباح، فلا تفكري بي أنا، بل تذكّري “آن شيرلي”. تلك الفتاة التي لا تكفّ عن القول إنّه لا يوجد يوم أجمل من هذا اليوم، وإنها تأسف على أولئك الذين لا يدركون روعة ما يعيشه المرء الآن.
أتمنى أن يضيء يومكِ على هذا النحو.
طبعاً، ليس من السهل أن نحيا حياتنا هكذا. والحق أن صباحي هذا لم يكن يسيراً عليّ.
أتذكرين حين ذكرتِ مخطوطة آن سيلين آخر مرة؟ قلتِ إنكِ قرأتِ المشهد الذي نزور فيه، أنا وفلين، الملكة أديلايد.
آنذاك لم أفكر إلا في: “أي شأن يجمعني أنا وفلين بزيارة أمّنا؟” لكنني هذا الصباح الباكر أدركتُ كيف التقت الخيوط كلّها. آنستنا العزيزة نويل شُغفت بالتمثيل منذ أن قرأت آن ذات الشعر الأحمر.
ومنذ الأمس وإلى اليوم، وهي مشغولة بأن تصير ملكة. تزعم أنها الملكة أديلايد، وتأمرني وفلين بالمثول بين يديها.
قلت لها: “نويل، هل تعلمين أن أمّنا ليست الملكة أديلايد؟ أتدركين أن هذا تجديف على المقام الملكي؟”
فأجابتني هذه الصغيرة النابهة: “نعم، أمّك هي الملكة. أنت لك أمّ يا أمير… أما أنا، فلا أمّ لي.”
ماذا كان بوسعي أن أقول أمام ذلك؟
لم يكن لي إلا أن أنصاع لأوامر نويل. وهكذا، كنت مستيقظاً منذ الفجر، ألعب معها لعبتها الملكية.
تقول نويل إن من الطبيعي أن تكون قاعة استقبال الملكة مزدحمة دائماً. لذا اضطر فلين وأنا أن نتناوب على الركوع أمامها، مخترعين بلا توقف شؤوناً نرفعها للتقرير. وبينما نشرح هذا الأمر أو ذاك، تعقد نويل حاجبيها بوقار وتعلن:
«أرفض. انصرفوا!»
نعم، ليست الحياة دائماً بهجةً كحياة آن.
اليوم 19 من أشد شهور السنة حرارة.
ــ صديقك، آرتش ألبرت، الساعي إلى إبقاء الأمل حيّاً في حياة أضناها التعب.
* * *
جلبرتي… إلى آرتش ألبرتي.
لحسن الحظ، يبدو أنني وفّقت في ضبط السجع أفضل منك، أليس كذلك؟
ورغم انشغالي في هذا الصباح، إلا أنّ رسالتك جعلتني أعجز عن مقاومة الرغبة في الرد.
لقد جعلت رسالتك الصباحية يومي كاملاً منذ بدايته.
وبفضلك، سأظل أضحك طوال النهار وأنا أتصوّر نويل وهي تقول عبارتها: «أرفض. انصرفوا!»
أتمنى لك يوماً طيباً، يا أميري.
صباح يوم 19 يوليو.
ــ رجاءً، لا تعليقات على خطي الفوضوي، كورديليا غراي.
ملاحظة: إن كانت نويل تعشق التقمّص إلى هذا الحد، فلمَ لا تجرّبون مسرحية؟ فبين أيديكم أعمال أشهر كاتب مسرحي في العالم، من ماكبث إلى هاملت، والملك لير، والليلة الثانية عشرة.
* * *
مستشارتي الماكرة كورديليا،
هل كنتِ تعلمين أن بيدر يتلصص أحياناً على خزانة الكتب؟ ذاك العجوز البائس يصرّ على أنه لا يفعل، لكنني على يقين أنه يتجسّس على رسائلنا كل يوم تقريباً.
أتدرين كيف علمتُ بذلك؟
كنت في نزهة صباحية، فإذا به جالس مع نويل يقول لها:
«ما رأيك يا نويل أن نتوقف عن لعبة الملكة ونجرّب مسرحية بدلاً منها؟ فبين أيدينا أعمال أشهر كاتب مسرحي في العالم. ما رأيك في الليلة الثانية عشرة؟»
نعم يا كورديليا، لقد تلا عليّ الكلمات عينها التي ختمتِ بها رسالتك هذا الصباح.
في البداية أنكر ذاك العجوز إنكاراً تاماً، لكن بعد إلحاحي في السؤال، اعترف أخيراً. ما أتعس أن خزانة كتبنا بلا قفل.
على أي حال، لقد تبنّت نويل نصيحتك قبل أن أتمكّن من التفكير فيها حتى.
قالت إنها ستبدأ المسرحية حالاً. وطبعاً، أول ما اختارته هو الليلة الثانية عشرة ـــ إذ لم تقرأ سواها.
«متى ستتمرنين؟»
«آه… الآن؟»
«وماذا عن الأزياء؟»
«هي أيضاً… الآن؟»
«ومتى ستعرضون المسرحية؟»
«ليس الآن، بل هذا المساء؟»
يبدو أن كلمة «غداً» لا وجود لها في قاموس هذه الطفلة.
وبما أن الأمور آلت إلى هذا، فلا بد أن أخرج حالاً. فالخارج يعجّ بضوضاء تحضيرات نويل وفلين للمسرحية. ولحسن حظي ــ أو لسوئه ــ أنني تعافيت للتو، فلا عذر لي لأرفض.
اليوم 19 من أشد شهور السنة حرارة، مرة أخرى. آرتش ألبرت.
* * *
إلى دوقي أورسينو،
هل كان ظهورك المسرحي الأول ناجحاً؟
19 يوليو.
ــ كورديليا المسائية.
* * *
إلى كورديليا المسائية،
لا بد أنكِ توقعتِ هذا.
حين قالوا إنهم سيعيدون قراءة الليلة الثانية عشرة، وحين قالوا إنهم سيحوّلونها حتى إلى مسرحية، كنتِ حتماً تعلمين ما سيحدث.
نعم، يا صديقتي اللامعة، أنا أيضاً الآن أعرف كل شيء.
سأكتب إليكِ مجدداً غداً.
ليلة اليوم 19 من أشد شهور السنة حرارة.
بالمحبة، آرتش خاصتكِ.
* * *
إلى الآنسة كورديليا،
تحية طيبة. أشعر أن وقتاً قد مرّ منذ أن حييتك آخر مرة، بعد تلك الرسالة الطويلة. هذا كاتبك المتواضع، بيدر لانغ، يعود مجدداً.
وكما أفشى عني الأمير المشاغب آرتش سريعاً، فلا بد أن أعترف: لقد تجاسرتُ أحياناً وألقيت نظرة على خزانة الكتب.
لكن صدقيني يا آنسة، أقسم أنني لم أقرأ خفيةً الرسائل التي كتبتِها. غير أن أميرنا، لسبب لا أفهمه، يحرس الخزانة كما لو كانت صندوق كنز، وفضولي غلبني.
لم أفعل سوى أن فتحتها مرة أو مرتين، متسائلاً لعلّكِ دسستِ فيها تحية موجهة لي. ولم أظن أنّه ذنب عظيم أن ألقي نظرة لمثل هذا السبب.
صحيح أنني لمحت أحياناً بعضاً من رسائل الأمير، لكن ذلك أيضاً لم يكن سوى لأتأكد إن كان يقول لكِ شيئاً غريباً. ما كنت أنوي مطلقاً أن أتجسس على مراسلاتكما.
وها قد أتى اليوم أخيراً.
اليوم، أشعر بالامتنان لأنني كنت أختلس النظر أحياناً إلى خزانة الكتب.
إن لأميرنا عادة غريبة، أليس كذلك؟ يثرثر بلا نهاية، ثم فجأة، في أهم اللحظات، يقصر في كلامه ويصمت. لِمَ يا ترى؟
خذي مثلاً حادثة هجوم الوحش الأخيرة. لو لم أكتب إليكِ، ماذا كان سيحدث؟ كان أميرنا العزيز على الأرجح سيهزّ كتفيه ويقول شيئاً مثل: “لا شيء، مجرد خدش صغير في كتفي”، ويترك الأمر عند ذلك. ولولا أنني ــ أنا بيدر ــ أخذت على عاتقي أن أكتب لكِ رواية مفصلة، لما كنتِ لتعلمي أن أميرنا كاد أن يهلك!
وما وقع اليوم لا يختلف عن ذاك قط.
تلك الرسالة… ما كانت بحق السماء؟
حتى وإن وثقتِ بذكاء الآنسة كورديليا، فذلك فوق الاحتمال. أستطيع أن أتصوّر ارتباككِ وأنتِ تقرئين تلك الرسالة الملتبسة. فإن كان في المرء ذرة عقل، لأدرك أن كتابة رسالة مبهمة على هذا النحو أسوأ من أن لا يكتب شيئاً البتة.
في الظروف العادية، كنتُ لأوقظ الأمير بلطف، وأرشده إلى الكيفية الصحيحة لكتابة الرسائل، وأطلب منه أن يعيد صياغتها. غير أنني اليوم شعرت أن من الأفضل أن أحدثك مباشرة، يا آنسة كورديليا.
نعم، يبدو أنّ رغبتي في الدردشة قد اشتعلت من جديد. آمل أن تتفهمي مشاعر هذا الشيخ الوحيد الجالس بصمت إلى جوار خزانة الكتب في مثل هذه الليلة المظلمة.
وكما تعلمين، فكل شيء بدأ مع نويل. أنتِ تدركين كيف تطورت ألعابها الملكية إلى رغبة في تمثيل مسرحية، وكيف قادها ذلك إلى الليلة الثانية عشرة.
على أن الأمر لم يكن مسرحية كاملة بالمعنى المعروف. فلا خشبة مسرح في الدير، والجمهور لم يكن سوى رهبان الدير.
لكنني وجدت ذلك ملائماً تماماً. فكل راهب في دير ليث يعامل نويل كما لو كانت طفلته، ولا يملك أن يرفض شيئاً يطلبه أميرنا.
ومنذ وقت مبكر، تجمّع حشد كبير. حتى إنّ أحد الرهبان جاء ببعض من أهل البلدة، فامتلأ الفناء الأمامي.
وكانت صغيرتنا نويل تبتلع ريقها في ارتباك، ولا تدري ماذا تصنع. لكنني لم أقلق. فقد كان بطل الفصل الأول دوق أورسينو نفسه، أي أميرنا آرتش. وكلما ازداد عدد الحضور، ازداد هو بهجةً وتألقاً.
والحق أنه لا يخيب أبداً حين يقف أمام جمع. بل إن الأمور التي لا يفلح فيها في الخلوة، يؤديها أمام الناس بإتقان عجيب، كأنه يمارسها منذ مولده. لا شك أنه وُلد وفي طبعه ألفة طبيعية مع المسرح.
أفأقصّ عليكِ كيف بدأ العرض؟
حين حانت الساعة، قرع الأخ فيليب الجرس، وبدأت المسرحية. تقدم أميرنا آرتش بخطوات واثقة إلى الأمام.
وقال بصوته العميق الرخيم:
«إذا كانت الموسيقى غذاء الحب، فلتُعزَف إذن. أعطوني منها وفرة، حتى إذا شبعتُ، سقم الشوق ومات.»
وما إن تردّد صوته في أرجاء الدير، حتى سكت الجمهور الصاخب، وخيّل للمرء أن الأزهار المبعثرة في الفناء الأمامي قد خبت ألوانها، وأن الخضرة تحوّلت فجأة إلى بساط زمردي وارف.
نعم، لقد غدا دير ليث ضيعة دوق أورسينو.
كان الفصل الأول بأسره مسرحاً للأمير وحده. وكانت حوارات الدوق أشبه بتلاوة عذبة، تشدّ الجميع إليها. وأحسب أن سر الانبهار يعود إلى براعة أميرنا في الحفظ عن ظهر قلب. ففي وندسور كلها، لا أحد يفوقه في إلقاء المحفوظ.
وحين انتهى الفصل الأول، وخرج أميرنا من المسرح وهو يزفر نفساً عميقاً، كان الموعد المنتظر مع ظهور دوق فلوريان. ولا شك أنكِ قد خمّنتِ الدور الذي أدّاه يا آنسة كورديليا ــ فقد كان واضحاً للغاية.
إنها المرأة التي تتنكر في هيئة رجل وتخدم دوق أورسينو، الآنسة فيولا.
حين ظهر دوق فلوريان على المسرح، تعالت من الجمهور شهقات. شهقات؟ لا، بل كان وقعها أشبه بالانبهار الممزوج بالدهشة، ذلك الصوت الذي يخرج من الناس حين يأخذهم المشهد على حين غرة حتى ليكاد يخطف أنفاسهم.
التفتُّ أنظر إلى المسرح، ولم أملك إلا أن أفلت من بين شفتيّ همسة إعجاب خافتة: «آه…» دون أن أشعر.
ليس خافياً أن دوق فلوريان وسيم. وقد ذكرتُ لك من قبل أنني أدركت منذ البداية أنه امرأة.
غير أنني قط لم أتخيل أنه سيظهر في هيئة سيدة رفيعة الحسن بهذا الشكل.
إلى الآنسة كورديليا،
هل كان في الدير ثياب نسائية حقيقية؟ بالطبع لا. لم يكن لدينا سوى بضع فساتين بالية خلّفتها وراءها الأميرة إدْوينا قبل عشرين عاماً.
فكسَت نويلُ دوقَ فلوريان أحد تلك الفساتين، وألقت على كتفيه قطعة من كتان أبيض كأنها حجاب.
ومع ذلك، أكان جميلاً؟ بل كان فاتناً! ذلك الكتان الأبيض بدا كأنه حجاب أميرة، والفستان الأحمر البالي جعل شعره الأحمر يتوهج بسطوع أعظم. وللحظة، بدا صورة طبق الأصل عن الأميرة إدوينا كما رأيتها آخر مرة قبل عقد من الزمان.
فلو أن أميرنا آرتش أبصر ذلك المشهد، ولم يدرك بعد أنّ الدوق امرأة… لَكان أمراً جللاً حقاً، وربما ظن المرء أن مثل هذا الغافل لا يليق أن يوجد أصلاً.
سواء أدرك أفكاري أم لم يدركها، كان الأمير آرتش بعد انقضاء الفصل الأول منشغلاً أشد الانشغال بالاستعداد للفصل التالي وراء الكواليس، لا يعير أدنى التفات لما يفعله دوق فلوريان.
وفي تلك الأثناء، كانت فيولا دوق فلوريان تشرع في تحوّلها إلى رجل. لقد اختفى ذاك الطيف المهيب للفتاة التي تشبه الأميرة إدوينا.
وها هو يرتدي سترة فوق الفستان، ويشد على خصره سيفاً، ويقف أمام الأمير في هيئة الصبي تشِزاريو.
وتوالت الفصول سريعاً. كانت مسرحية مرتجلة، عشوائية البناء، مؤلفة من مشاهد متفرقة طريفة، ومع ذلك أدركها الجميع واستمتعوا بها بصدق.
ففي دير ليث تداولنا هذا الكتاب بيننا مراراً، وبعضنا يحفظ مقاطعه عن ظهر قلب.
وحين يجيء مشهد هزلي، كان الجمهور ينفجر بالضحك، وأحياناً يقفز أحدهم إلى الخشبة ليقلّد ما رآه للتو.
وفي المشاهد العاطفية، كنا نتلو الحوارات جميعاً بصوت واحد مفعم بالوجد.
وفي أحد المقاطع، تعثر الأمير آرتش بعبارة طويلة، فما كان من نويل إلا أن اقتحمت المسرح غاضبة تصرخ: «أيها الأمير!»
فكانت نبرتها المشتعلة سبباً في ضحكنا حتى اهتز المسرح بالتصفيق.
يا آنسة كورديليا، في عمري الطويل كله، لم أعش ليلة ببهجة كهذه الليلة.
رغم أنّ ذكريات الإسطبلات المحترقة والساحة الخلفية المهدّمة ما زالت تثقل قلوبنا، إلا أننا ضحكنا وابتهجنا بطريقة بدت أقرب إلى المعجزة.
ولكن، كما يحدث مع لحظات الفرح الكثيرة، مرّت الليلة سريعاً. ومع بدء غروب الشمس اضطررنا أن نعجّل الخطى. فمتى حلّ الظلام، استحال أن نرى المسرح بعد.
تراجع الرهبان الصاخبون إلى الخلف، ولم يبقَ على المسرح سوى دوق فلوريان والأمير آرتش.
أما المشهد الختامي الذي أعددناه، فكان ذاك الذي يكتشف فيه دوق أورسينو الحقيقة: أن فيولا، خادمه الوفيّ، لم يكن رجلاً بل امرأة، لتنتهي القصة بالسعادة.
مدّ الأمير آرتش يده برشاقة نحو دوق فلوريان قائلاً:
«فيولا، أعطيني يدكِ… وأريني ذاتكِ في زيّكِ النسوي.»
وتقدمت نويل من خلفه، تحلّ أزرار السترة الخشنة التي ارتداها دوق فلوريان، فإذا بالفستان الأحمر البالي وقطعة الكتان البيضاء ــ اللذين كانا يوماً للأميرة إدوينا ــ يبدوان للعيان.
وكانت الشمس تهبط خلف الجبال، لكن السماء لم تكتسِ بعد بالسواد. بل ارتدت ذلك الأزرق الساحر الذي لا يطلّ إلا لحظات وجيزة عند الغسق أو الفجر. عندها بدا شعر فلوريان المتوهج كأنه يذوب في ألوان المغيب، يخلط حمرة اللهب بأمواج السماء.
وفجأة، احمرّت وجنتا فلوريان خجلاً حتى صارت أشد حمرةً من شعره. وانطبقت شفتاه القرمزيتان في توتر، بينما عيناه الخضراوان، وقد التقطتا ضوء المغيب، اكتسبتا عمقاً غريباً وهو يحدّق في الأمير آرتش.
أما الأمير…
فقد وقف ساكناً، يحدّق في دوق فلوريان.
لم يقل شيئاً. إنما أطلق نفساً عميقاً، كالنصف بين الزفرة والشهقة، مثلما فعل الرهبان من قبل.
ضيّق عينيه الزرقاوين ثم وسّعهما من جديد، وهما يتلألآن بجمال مهيب. شدّ شفتيه، وغدا وجهه كئيب الملامح.
وهكذا، شهدنا نحن في فناء الدير جميعاً تلك اللحظة: اللحظة التي أدرك فيها أميرنا حقيقة دوق فلوريان.
كان الأمر أشبه بأننا تطلعنا خلسة إلى سرّ ما كان ينبغي لنا أن نراه، سرٍّ كان الأولى أن يبقى مستوراً.
احمرّ وجهي خجلاً. تردّد الأمير لحظةً قبل أن ينطق جملته التالية، لكن، أيّاً كانت الكلمات، فقد ظلّت عيناه مثبتتين على دوق فلوريان.
وانتهت المسرحية في سكون.
ضحك الجميع وصفّقوا ببهجة، غير أن الأمير، حتى في التحية الختامية، ظلّ شارد الذهن، غارقاً في صمته، كأنه وحده يعيش في عالم آخر.
ربما، غداً عند شروق الشمس، سيعود الأمير إلى وعيه ويعترف لكِ بكل شيء. وربما لن يقول شيئاً، ويرسل إليك رسالة أخرى من رسائله الملتبسة.
يا آنسة كورديليا، أستطيع أن أتصوّر حيرتك، وأنتِ تقضين الليل الطويل بين يديكِ رسائل مبهمة، تتساءلين عن معناها. أما أنا، هذا الشيخ، فلا يسعني إلا أن أتحسّر على انقضاء الوقت بهذه العجز.
فما عساي أن أفعل غير أن أتنفّس في حديث سرّي كهذا؟
ليلة اليوم 20 من أشد شهور السنة حرارة،
ــ بإخلاص، بيدر لانغ.
* * *
بيدر،
أشكرك كثيراً على كتابتك إليّ بهذا الشكل.
وأعتذر لأنني لم أسأل عنك من قبل.
إنني أكتب هذا الرد المقتضب على عجل، راجية أن يصلك قبل أن تقع عليه عينا آرتش، لأعبّر عمّا في قلبي.
ثمة انفعال غريب في رسالتك اليوم.
وأنا أيضاً، قد كتبتُ يوماً رسالة شبيهة بما كتبت، مشحونة بمثل تلك المشاعر.
لكن تلك الرسالة… لم أستطع قط أن أُريها للأمير آرتش.
وأظن أنني أفهم ما شهدته اليوم.
فلم يكن الأمر مجرد اكتشاف سرّ شخص آخر.
ما رأيته كان لحظة وقوع إنسان في حبّ إنسان آخر.
إن قلبي ليعتصر ألماً.
ومع ذلك، يبعث في نفسي بعض الراحة أن هذه الرسالة لم تكن من كتابة آرتش نفسه.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات