إلى الآنسة كورديليا، التي لا بد أنها تهزّ رأسها غير مصدّقة وهي تقرأ رسالة أميرنا،
مرحبًا، أنا الناسخ بيدر. هل كنتِ بخير؟
بعد أن تقرّر أن أميرنا سيبقى في الدير مدة طويلة، كان أوّل ما أقلقني هو الآنسة كورديليا.
لا، لأكون دقيقًا، ما أقلقني حقًّا هو أميرنا آرتش، الذي يبدو أنه قد أُصيب بإدمان تبادل الرسائل مع الآنسة كورديليا.
لقد أخبرته مرارًا أن الأمر لن يستغرق سوى أسبوع تقريبًا، لكنه أصرّ على أخذ صندوق حفظ الكتب، وانطلق إلى قصر آرلي. ورؤيتي له على هذه الحال لم تدعُ في ذهني وصفًا أدقّ من كلمة «إدمان».
بل إن سلوكه بعد عودته من قصر آرلي وهو يحمل صندوق الكتب كان أكثر إثارة للدهشة.
فقد اقتحم غرفة النسخ وهو يقبض على الصندوق بكلتا يديه، وبملامح صارمة تشبه تمامًا ملامح الأميرة سيسيليا، وحذّرني أنّه إن أسقطتُه أو أضررتُ به، فسيمزّق المخطوط الذي انتهيت للتو من نسخه. يا للقسوة!
وأظنّكِ الآن، يا آنسة كورديليا، قد بدأتِ تملّين من هوس أميرنا.
لكنني، وأنا أراه هناك يلهو بمرح مع نويل والدوق فلوريان كالملاك، لا أملك إلا أن أرجوكِ أن تسامحيه. وإن كنتُ أعترف أن الانبهار بذلك الوجه الجميل يجب أن ينتهي يومًا ما.
لقد ازدادت أواصر الصلة بين نويل والدوق فلوريان خلال غياب الأمير آرتش في قصر آرلي.
ولا عجب في ذلك، فالصغيرة نويل لم يسبق لها أن تعاملت مع امرأة بالغة سوى الأميرة سيسيليا.
نعم، يا آنسة كورديليا،
هذا الثعلب العجوز قد لاحظ الأمر على الفور.
إنّ ذلك الدوق فلوريان، في الحقيقة، امرأة.
في البداية، ساورني بعض الشك.
فالوجه والهيئة لا شكّ فيهما من فرط الأنوثة، لكنني تساءلت: هل يُعقل أن شخصًا فطنًا مثل أميرنا آرتش لا يدرك ذلك؟
لكن حدسي في مثل هذه الأمور لا يخطئ أبدًا، لذا سألتُ الأميرة سيسيليا بخفاء قبل أن تغادر إلى برج السحرة. فلم تُبدِ الأميرة أي دهشة، وأجابتني مباشرة:
«بيدر، الأمر واضح، أليس كذلك؟»
«بلى يا أميرة، أيّ أحد سيرى ذلك عند النظر إلى ذلك الوجه الفتي.»
«كما توقعت، ذلك الأحمق آرتش لا يدرك شيئًا.»
«… أتُراه يا ترى يعلم بالأمر لكنه يتظاهر بعدم المعرفة؟»
«لا، إنه غافل تمامًا. حتى أمّي لديها فكرة عامة، لكنه الوحيد الذي لا يعلم.»
«أهذا… ممكن؟ أعني، الأمير آرتش يعرف النساء جيّدًا، وهو ليس… أقصد، إنه شديد الذكاء…»
وبينما كنت أتلعثم حائرًا، اكتفت الأميرة سيسيليا بهزّ رأسها قائلة:
«التزم الصمت يا بيدر، ولنرَ متى سيكتشف ذلك الأحمق الأمر أخيرًا.»
ثم امتطت جوادها وغادرت.
ومع ذلك، لم أستطع أن أصدق أن أميرنا قد لا يلاحظ أمرًا كهذا، فسارعتُ إليه وسألته عن الدوق فلوريان بأسلوب غير مباشر. لكن أميرنا، بملامح بريئة، قال لي ببساطة:
«فلوريان لديه سرّ، هل تعلم؟ يكاد يكون بين يدي، لكنني لا أستطيع الإمساك به تمامًا. يبدو أن كوكو الذكية قد اكتشفته بالفعل.»
«أتقصد أنّ الآنسة كورديليا قد لاحظت ذلك؟»
«نعم، أليست مذهلة؟ إنها تكتشف كل شيء من خلال الرسائل فقط.»
ثم شرع بعدها في الحديث عنكِ بفخر، وظلّ يثني عليكِ قرابة ساعة كاملة.
وعندما اتضح لي مسار الأمور، فهمت أنكِ أنتِ أيضًا قد أدركتِ أن الدوق فلوريان امرأة.
وحينها غمرني حزن مفاجئ، إذ تسلّل إلى قلبي القلق من أن يكون أميرنا، الذي أحببته كابن، ليس حادّ الذكاء كما كنت أظن دائمًا.
ومع ذلك، أواصل عملي الدؤوب ككاتب، محاولًا مقاومة هذه الشكوك. وبفضل الورق الذي وفّرتِه لي، أنهيت بسهولة المخطوط الذي كنتُ أعمل عليه آخر مرة، فصار لدي بعض الوقت الفارغ… وهو وقت مثالي لفتح دفاتر الحكايات القديمة.
في المرة السابقة، حدّثتكِ عن كيف أُخذت الأميرة إدْوينا رهينة في رويتلِنغن وعادت إلى وينترتن بعد ثلاث سنوات، وذكرتُ لكِ أيضًا أنّها تركت صندوق حفظ الكتب هذا، القابع أمامي الآن في الدير.
وبحسب وصيّة الأميرة، حفظتُ هذا الصندوق في زاوية من غرفة النسخ الأولى، وكنتُ أمسحه كل يوم حتى لا يتراكم عليه ذَرّة غبار، لكن لم يخطر لي قط أن أفتحه وأنظّف داخله.
كنتُ متردّدًا في لمسه، إذ فكّرت أنّه إن انكسر شيء منه بالخطأ فستكون مصيبة. ثم إنني حين عرضته علىّ الأميرة أول مرة، تأكدتُ من أنه لا يحوي شيئًا سوى سوار بثلاث سلاسل متشابكة، فلم أشعر بفضول كبير تجاه ما بداخله.
ورغم أنني اعتنيتُ به أيّما عناية، لم أتوقع أن تعود الأميرة لتأخذه يومًا، فهي دومًا من النوع الذي يترك كنوزه في الدير ولا يعود ليطالب بها. فهناك حتى الآن صندوق في زاوية غرفة النسخ الأولى مليء بدمى الأميرة إدْوينا ومجوهراتها وكتبها.
آه يا للأسف، ها أنا أجد نفسي أستطرد بالحديث عن الأميرة من جديد… سامحي هذا العجوز إذ تستدعي الذكريات ماضيه، ولا تستعجليني كثيرًا. الآن سأقصّ عليكِ القصة التي كنتِ تنتظرينها بلهفة.
آنسة كورديليا،
إن الحكاية التي سأرويها لكِ الآن سرّ احتفظ به هذا العجوز طويلًا في قلبه.
وفي طيّات هذه الحكاية قد تَرِد كلمات من التجديف والشبهة بحيث لو سمع بها أحد، لأُتُّهمت بالخيانة وأُعدِمت.
لذلك، أرجوكِ، لا تُري هذه الرسالة لأحد، وإن كنتِ في مكان غير آمن، فأناشدك أن تقرئيها ثم تحرقيها فورًا.
والآن، لنبدأ هذه الحكاية الطويلة.
بعد أن غادرت الأميرة إدْوينا بحثًا عن السير آرثر غيلن، أخذ الملك السابق يفتش في كل أرجاء البلاد عن آخر أبنائه الأحياء، لكن دون جدوى.
راحت الشائعات تقول إن الإمبراطورية قد أسرت الأميرة مجددًا.
ولو كان ذلك صحيحًا، لكان على الملك أن يخوض حربًا أخرى لاستعادتها، لكنه لم يكن قادرًا على ذلك.
ولم يكن السبب مجرّد يقينه بالخسارة، بل لأن السلطة الفعلية في المملكة آنذاك كانت في يد الدوق تشارلز وِلزلي، ومجلس النبلاء ما كان ليأذن بحرب من أجل إعادة الأميرة.
كان ذلك حتميًّا بطريقة ما؛ فالحرب مع الإمبراطورية كانت مغامرة طائشة من الملك السابق، وقد أودت بحياة كثيرين في وينترتن.
وبعد وفاة الأمير إدوين، هجر الملك العاصمة وفرّ جنوبًا، بينما بقي الدوق تشارلز وِلزلي مع جيشه يدافع عن القصر. بل إن الملك ألفريد، عند نهاية الحرب، اضطر لأن يجثو أمام إمبراطور رويتلِنغن معترفًا بالهزيمة، فحطّم بذلك كبرياء أسرة وينترتن المالكة.
كان من غير المعقول أن يختفي اسم وينترتن، الذي صمد لأكثر من قرن، ليحل محله اسم آخر على العرش، لكن الملك السابق كان قد انحدر إلى درجة لم يعد معها قادرًا على استعادة هيبة التاج.
ومع ذلك، ظل الملك السابق يظن أنّ الأمور ستتحسن إذا عادت الأميرة إدْوينا من الأسر وتأكدت سلالة الوراثة، لكن الأميرة نفسها كانت باردة كالحجر تجاهه عند عودتها.
ولماذا تصرّفت الأميرة هكذا تجاه والدها بعد لقائهما مجددًا بعد طول فراق؟
حسنًا، الأمر واضح.
حين كان الأمير إدوين حيًّا، لم يعر الملك أي اهتمام للأميرة.
وبعد أن التقى زوجته الثانية، شُغف بها إلى حد أنّه ابتدع قانون طلاق لا وجود له ليُبعد الملكة، ثم صبّ كل جهده على تعليم الأمير إدوين، متجاهلًا تمامًا والدة الأميرة إدْوينا.
نعم، على الأرجح أنّ السبب الذي مكّن أميرتنا من تحمّل أسرها في رويتلِنغن، هو أنّها لم تعرف يومًا معنى الاحتفاء الحقيقي بها في وينترتن.
كانت الأميرة، إذا أردنا التوصيف الصريح، مُهمَلة… أو إن أردنا التلطيف، تُركت لتنمو بحرّية.
فهل تظن أنّه إذا قيل لها الآن إن عليها أن تساعد والدها في تثبيت دعائم الأسرة المالكة في وينترتن وتتزوج من تشارلز وِلزلي، ستوافق؟
بعد أن ذاقت المعاناة في رويتلِنغن وعادت أكثر نضجًا، لم يكن هناك أي احتمال أن تصغي لكلام والدها الذي صار نمرًا بلا أنياب.
لقد تعمّق الخلاف بين الأميرة والملك السابق. فقبل وقت قصير من ظهور السير آرثر غيلن في آرلي، كانت الأميرة قد أعلنت بالفعل أنّها لن تتزوج من الدوق تشارلز وِلزلي، مما أشعل جدالًا عنيفًا بينها وبين الملك السابق.
وحين قال لها الملك:
“غادري إن كنتِ ستتصرفين على هذا النحو”،
وافقت ورحلت وحدها من دون وصيفة واحدة، متجهة إلى دير ليثي. وبعد أيام، أُعيدت على مضض إلى قصر آرلي.
وبناءً على كل ذلك، فمن ذا الذي كان ليشارك في ندم أبٍ متأخّر أراد خوض حرب ضد رويتلِنغن من أجل ابنته؟ إن الإصرار على ذلك لم يكن ليؤدي إلا إلى أن يُطرَد الملك من العرش بطريقة مثيرة للشفقة.
وإدراكًا لهذا الواقع، كنتُ أحيانًا أتساءل إن كانت الأميرة قد غادرت ليس بسبب السير آرثر، بل لأنها أرادت ببساطة أن ترحل عن آرلي.
لم تكن ظنوني خاطئة تمامًا، لكنها لم تكن صحيحة بالكامل أيضًا.
كما ذكرتُ من قبل، جاءت الأميرة إدْوينا إلى دير ليثي بعد ستة أشهر من اختفائها.
وحين جاءت لتلقاني، كانت تبدو مختلفة على نحوٍ ما.
عينها الخضراوان الزاهيتان اللتان كانتا مملوءتين بالنور، غدا فيهما عمق لم يكن موجودًا من قبل، وكلماتها القليلة أصلًا صارت أقل من ذي قبل.
لكن أعظم تغيّر كان في ملامحها؛ على ذلك الوجه الصغير، كان يسطع بريق أمل ساطع إلى حدٍّ يجعل قلب الناظر يخفق فجأة.
“أميرة، هل أنتِ سعيدة جدًّا لأنكِ غادرتِ آرلي؟”
أظن أنّ هذا كان أول ما سألتها عنه. فهزّت الأميرة رأسها.
“أحيانًا أفكّر فيه. أليس هذا غريبًا؟ حتى أبي، الذي كنتُ أراه بغيضًا.”
“فلماذا غادرتِ إذًا يا أميرة؟ كنتُ أظن أنكِ تركتِ آرلي من فرط الملل. هل غادرتِ حقًّا لتتبعي السير آرثر غيلن كما يقول الآخرون؟”
“ربما.”
“أتحبينه؟”
“لا.”
«إذن لماذا، يا أميرة؟ لماذا تخلّيتِ عن كل شيء ورحلتِ؟»
حين سألتُها هذا السؤال، بدا على الأميرة التردّد على غير عادتها، وتلعثمت وهي تجيب:
«ذاك الرجل انتظر خارج قصري تسعةً وتسعين يوماً. وفي النهاية، لم يأكل، ولم ينم، ولم يغمض عينيه. الوقوف هكذا طَوال تلك المدة كان عذاباً لا يُطاق. لكن، بعد أن صبر تسعةً وتسعين يوماً، رحل وفي اليوم الأخير لم يبقَ سوى يومٍ واحد. لقد ساورني الفضول فحسب. أردتُ أن أعرف السبب.»
أن تكون رحلتها بدافع الفضول وحده كان أمراً شديد الانسجام مع طباعها، حتى إنني لم أملك إلا أن أبتسم. بل وخيّل إليّ أن الفارس آرثر غيلين كان يدرك أميرتنا حق الإدراك. كانت الأميرة إدوينا منذ صغرها فريدة الذكاء، ومثل كثير من الأذكياء، لا حدود لفضولها.
وعلى أي حال، حين رأيتها غامرةً بالسرور، غمرني بدوري شعور بالابتهاج، وقلت في نفسي إن كل الأمور ستسير على خير ما يرام.
لقد ظنَّ هذا الكاتب الجريء أن سعادة الأميرة تكفي، حتى ولو لم تعد أبداً إلى مملكة آرلي.
«إذن يا أميرة، هل وجدتِ الفارس آرثر غيلين، وأرويتِ ظمأ فضولك؟»
هزّت الأميرة رأسها نافية، وأخبرتني أنها لم تعثر بعد على أي أثرٍ له.
فسألتُها مرةً أخرى:
«فلماذا تبدين سعيدة هكذا يا أميرة؟»
قالت: «لقد خطرت لي وسيلة لأجده.»
أجل، يا آنسة كورديليا، لا شك أن فطنتكِ قد أدركت الأمر منذ الآن.
فالطريقة التي ابتكرتها كانت صندوق حفظ الكتب… أو ربما كان السوار الكامن في داخله.
ذاك السوار بعينه، الذي أهدتني إيّاه الأميرة حين عادت من زمن أسرها رهينةً.
أسرعتُ إلى قاعة النسخ الأولى، وأخرجتُ صندوق حفظ الكتب الذي كنتُ أعتني به أشد العناية.
لكن، حين رفعته بعد هذا الغياب الطويل، وجدته أثقل مما عهدته. وزاد عجبي حين سمعتُ بداخله حفيفاً كأن شيئاً يتحرك.
خامرني القلق أن فراشة قد تسللت إليه وماتت في الصيف، فسارعت إلى فتحه خشية أن تفزع الأميرة إن وقع نظرها عليه.
غير أنّه ما إن انفتح الصندوق، حتى انهمرت منه الأوراق انهمار الثمار الصيفية حين تتفجّر نضجاً، متناثرةً على أرض الغرفة.
شهقتُ من فرط الدهشة.
ولعلّ الصوت قد أدهش الأميرة إدوينا، إذ دخلت قاعة النسخ الأولى، وكانت…
لم تصرخ الأميرة.
بل اتسعت عيناها الخضراوان اتساعاً غير معهود، وبقيت واقفة، فاغرة الفم، تراقب الأوراق وهي تتدفق من الصندوق.
ثم جلست على الأرض، وبدأت تجمع تلك الأوراق.
أنتِ تعلمين يا آنسة كورديليا، أليس كذلك؟ إنّ صندوق حفظ الكتب هذا ليس كبيراً جداً، لكنه يتّسع لكتابين أو ثلاثة، ما يعني أنه قادر بسهولة على احتواء أكثر من مائة ورقة.
غير أنّ ما كان فيه من أوراق بدا وكأنّه يفوق طاقته حتى ليكاد يتفجّر. وكانت كل ورقة فيه محشورة بإحكام.
ولم أدرِ إلا بعد حين أنّها رسائل…
رسائل كان أحدهم يبعث بها إلى أميرتنا.
وأغلب الظن أنّ الأميرة لم يخطر ببالها قط أن تجد شيئاً كهذا داخل الصندوق. فقد جاءت تطلب السوار، لا لتنقل معها صندوق حفظ الكتب.
جلست الأميرة إدوينا على الأرض، كمن غاب عن وعيه، تقرأ الرسائل ورقةً تلو الأخرى. ولم تسعفني الجرأة أن أسألها عمّا تحويه.
مضت ساعة، ثم أُخرى.
ولمّا لم تتحرك الأميرة، بقيتُ بدوري واقفاً في مكاني، والوقت يمضي.
وبينما كان ضوء الشتاء الساطع يغمر قاعة النسخ، بدأ الثلج الأبيض الناعم يتساقط برفق.
ومن مكانٍ ما، أخذ عبق الطعام الشهي يتسرّب في الجو، كأن الاستعدادات لوجبة العشاء قد بدأت.
غير أنّي لم أستطع الخروج للعشاء. فالرسالة لا تنتهي، مهما قرأتُ منها.
في ذلك اليوم، وللمرة الأولى، رأيت الأميرة إدوينا تبكي.
حتى في طفولتها، حين أخذتها الملكة إلى دير ليثي بعد أن تخلّى عنها الملك الراحل… وحتى في نزهة صيفية حين تعثّرت بحجرٍ فسالت دماؤها… وحتى بعد أن عادت من قسوة الأسر المرير…
لم أرَها تبكي قط.
يا سيدتي كورديليا، هل شهدتِ مثل هذا المشهد من قبل؟
إنّ الذين لا يبكون عادةً، إذا بكوا، بكوا بعنف.
فإن كانت العواطف قابلة للكبح، ابتلعوا دموعهم، لكن حين تعجز النفس عن الحبس ويغلبهم البكاء، يكون الانفجار هائلاً بحق.
لقد بكت الأميرة كما لو أنّ العالم قد انهار من حولها.
وقفتُ جامداً، أنتظر أن تنقضي نوبتها.
وكان الثلج في الخارج قد بدأ يهدأ، وحين خيّم الظلام حتى لم أعد أرى ملامح وجهها المبلل بالدموع، عندها فقط توقفت دموع الأميرة التي بدت وكأنها لا نهاية لها.
فتّشت الأميرة بين رفوف خزانة الكتب بحثاً عن السوار، ثم جمعت بعناية الأوراق المبعثرة على الأرض، كما لو كانت كنوزاً نفيسة، وربطتها معاً، وغادرت على الفور.
أمسكتُ بالأميرة وهي تهمّ بالرحيل دون أن تودّعني الوداع الأخير، وسألتها:
«ألن تأخذي خزانة الكتب معكِ؟»
وأحسب أني قلت ذلك لأنني كنت أعلم أنّ طلبي منها أن ترحل صباح الغد، أو رجائي أن لا تغادر، أو سؤالي عن وجهتها، كلّه سيكون عبثاً لا طائل منه.
تطلّعت الأميرة إليّ طويلاً، ثم قالت:
«أبقِها عندك.»
وبعد أن سكتت لحظة، أضافت:
«قد أرسل رسالة يوماً ما.»
ولم أدرك — بغبائي — ما قصدت إلا بعد شهرٍ كامل. إذ كنت أنظّف قاعة النسخ، ففتحت صندوقاً لأجد بداخله بضع أوراق.
وكانت هناك رسالة قصيرة مكتوبة بخط لا أعرفه.
أجل، لقد كانت رسالة من الأميرة إدوينا.
لكن لا تفهميني خطأ يا سيدتي كورديليا، فأنا لست ذكياً مثلك، إنما مجرد ناسخ عجوز محدود الفطنة. ولم تكن الأميرة تراسلني برسائل ودّ كما يفعل الأمير آرتش معكِ.
لقد تضمّنت رسالتها أمراً بالبحث عن الفارس آرثر غيلين، وطمأنته بأنها بخير، وأن تُرسل جميع الرسائل المقبلة إلى سيدة بعينها، هي الوحيدة التي اعتبرتها الأميرة صديقتها الحقيقية.
وكانت تلك السيدة أوّل وصيفاتها وأقربهنّ إليها، وقد رافقتها حتى في زمن أسرها في رويتلينغن.
كتبتُ رسالة قصيرة، أرجو أن تصل إلى الأميرة بطريقةٍ ما.
كانت رسالة وجيزة جداً، أسألها فيها إن لم يكن يجدر بها إخبار الملك السابق.
لا أدري إن كنتُ قد أصبتُ التخمين أم لا، لكن الأميرة أرسلت إليّ بعد أيام رسالتين جوابيتين.
في الأولى كتبت:
«لا، لا تقل شيئاً. لا تخبر أحداً، ولا كلمة واحدة. أنتَ الوحيد الذي يعلم أنني بخير، يا بيدر.»
أمّا الرسالة التالية، فكانت مخيفة بعض الشيء:
«إن أخبرتَ أحداً… سأقتلك. أفهمت؟ وإن بدا لك أنهم بائسون حقاً، فحاول إقناعهم بأقصى جهدك. ولا تكتب إليّ ثانية. أنت بخير، لكنك تُكثر الكلام، وهذه علة فيك.»
…هل ذكرتُ من قبل؟ إن الأميرة إدوينا، شأنها شأن الأمير آرتش، قادرة على أن تكون طيبة القلب، لكنها، مثل الأميرة سيسيل، ثابتة العزم لا تتفوّه بكلمة فارغة. فماذا عسى أن يصنع هذا العجوز العاجز غير أن يعيش متقناً فنَّ قلة الكلام؟
وبعد نحو شهر، بعثت إليّ الأميرة رسالة أخرى.
فأبلغتُ، في سرية تامة، السيدة التي ذكرتها الأميرة.
تلك السيدة، وإن كانت قد تزوجت رجلاً رفيع المنزلة فلم يكن يسهل عليها القدوم إلى الدير، استطاعت أن تزورنا تقريباً كل شهر، متذرّعة بطلب مخطوطات جديدة.
وكانت أحياناً تنقل إليّ أخبار الأميرة.
قالت السيدة إن الأميرة قد وجدت بيتاً تسكن فيه مع الفارس آرثر غيلين، وأنهما عقدا قرانهما في حفل خاص.
وذكرت الأميرة أنها أعدّت عصير الفراولة لأول مرة، وأنها قررت ألّا تصنع مربى الخوخ مجدداً، لأنه يستغرق وقتاً طويلاً.
وحين سألت الأميرة عمّا ينبغي فعله إزاء لسعة القُرّاص، جلبتُ الدواء بالنيابة عن السيدة.
وحين استفسرت عن علاج ارتفاع حرارة طفلٍ فجأة، بذلنا أنا والسيدة جهدنا معاً لنجد طريقة لغلي شاي بارد وإعداد حساء الدجاج.
لكن حتى هذا التراسل انقطع فجأة بعد نحو عامين.
وقد قالت السيدة مرة إن الأميرة ذكرت في إحدى رسائلها:
«حين أبدأ العيش حقاً كما ينبغي… سأتوقف عن الكتابة.»
رجتها السيدة أن تواصل المراسلة، لكن الأميرة إدوينا، كما هي عادتها، لم تكن ممن يُصغون للآخرين.
وحين انقطع التواصل كما لو أنه لم يكن، تمنيت شيئاً واحداً فقط:
أن تعيش الأميرة هانئةً مع الفارس آرثر غيلين إلى آخر أيامها.
لم يخطر ببالي قط أنهما قد يكونان قد فارقا الحياة، ولا ساورني الشك أن الأميرة ربما أنجبت طفلة… بل ابنة.
…لقد طال الحديث، ولعل هذا هو سبب قولهم: لا تُكثِر الأسئلة على شيخ كبير.
والآن، فهذا كل ما أعلمه عن خزانة الكتب. بعد أن انقطعت رسائل الأميرة، قررت أن أنسى أمر الصندوق، فدفعته جانباً.
بالطبع، لم ألقِ به. لكن قاعة النسخ كانت صغيرة، وعدد الكتب التي نملكها فيها أخذ يزداد باستمرار. ومع مرور الوقت، تراكم المزيد من الحبر، وأقلام القصب، وريش الإوز، إلى جانب تزايد كميات الورق. وهكذا، دفعت خزانة الكتب إلى ركن قصي بين كل تلك الأشياء.
لكن من كان ليتصور أن الأمير آرتش، ذلك الشقي… حسنٌا، من كان ليتخيل أنه سيأخذها؟
يا سيدتي كورديليا، لا أعلم كيف صار نصف خزانة الكتب عندك. لكن لو علمت الأميرة إدوينا أن الأمير آرتش يبادلك الرسائل، لكانت، بلا شك، غامرة بالسرور.
وربما، حتى الآن، تضحك في السماء قائلة: «أحسنتَ يا بَيدَر. سررت أني ائتمنتك على خزانة الكتب.»
نعم… هذا تماماً ما قد تقوله.
ــ في ليلة من ليالي تناقص القمر، في الشهر الحار الأول، الناسخ بَيدَر لانغ.
* * *
عزيزي بَيدَر،
لقد كدتُ أصل متأخرة إلى العمل لأنني كنت أقرأ رسالتك.
وإن وضعتُ جانباً امتناني لرسالتك الطويلة، فهل لي أن أطرح عليك سؤالاً واحداً وجيزاً؟
أهو اسم تلك السيدة المجهولة «أديلايد» بالمصادفة؟
ــ مع إرسال المودة إلى جميع من في دير ليثي، كورديليا.
__ ت. م سوالفه واجد بيدر تعبني. قراءة ممتعة وابي اشوف تعليقاتكم على الرواية 🩷
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات