أنت حقاً أحمق، يا أميري المسكين. وحقاً، أريد أن أبوح لك بكل شيء، لكن كلما فكّرت في الأمر، ازددت يقيناً بأن هذه إحدى تلك اللحظات التي يجب أن أكبح فيها رغبتي في الكلام، حتى وإن كان ذلك يمزّق قلبي.
أتراك الآن تُمزّق رسالتي، ظانّاً أنني قد بالغت؟
ربما تسألني لماذا أنأى عنك الآن، وأنا التي كنت دوماً أخبرك بكل شيء، حتى بما سيحدث في المستقبل.
السبب… هو فلوريان، ذاك الطفل المسكين.
اسمع يا آرتشيبالد، ذلك الفتى يخفي عنك شيئاً، أليس كذلك؟
لكن، كما قد تكون شعرت، يبدو أنه فتى طيب القلب.
ولا يبدو أنه على صلة بالسحر الأسود كما ظننا في البداية.
ثم إن سيسيل كانت على علم بسرّه قبل أن تدركه أنت بزمن، أليس كذلك؟
ومع ذلك، لم تشكّ فيه، بل آمنت به أكثر، وأحطته بعناية ورفق.
وأنت تعلم، أكثر من أي أحد، أن سيسيل ليست غبية، وليست من النوع الذي ينخدع بسهولة لمجرّد أن أحدهم يبدو لطيف الملامح.
فما الذي يخفيه هذا الطفل، على وجه الدقّة؟
تفكّر مليّاً، يا آرتشيبالد.
لا يسعني مطلقاً أن أكون السّابقة إلى البوح.
لهذا الطفل المسكين سرٌّ ما، ولسببٍ لا أستطيع حتى أن أُخمّنَه؛ ولا أملك إلا حدساً تقريبيّاً بماهيّة ذلك السرّ.
وفي مثل هذا الظرف، لو أفصحتُ لك عنه صراحةً، أتدري كم سيبلغ به الضيق؟
يا آرتشيبالد ألبرت، أنت صديقي العزيز، وكذلك ذاك الطفل الذي تُرِكَ بلا أبوين، يحمل سرّاً ويقاسيه في صمت؛ وحاله ممّا يُرثى له أيضاً.
ولعلك لا تعلم هذا، لكننا ـ نحن الأيتام ـ قد عقدنا حِلفاً لا زمان له ولا مكان. (أكذب؛ لا وجود لشيء كهذا. أنا شخصٌ وحيد، فالتمسْ لي رعايتك دائماً كي لا أشعر بالوحدة).
ومع ذلك، فصداقتنا السرّية أعزّ عندي من أيّ حلفٍ كونيّ لليتامى؛ لذا ملأتُ هذه الرسالة بالقرائن. والآن، أَعِدْ قراءة رسالتي من بدايتها وتأنَّ في التفكّر، يا شيرلوكي.
ملاحظة:
ماذا عن قراءة الليلة الثانية عشرة مجدداً؟ إنه كتاب ممتع، أليس كذلك؟
ملاحظة 2:
أود أن أرسل لك بعض الدواء لنزلة البرد، لكن بحلول الوقت الذي يصل فيه إليك، قد يتحوّل إلى سمّ بفعل مرور كل هذا الزمن. وإذا حدث ذلك، فقد تتفاقم حالة فلوريان أكثر، لذا سأكتفي بمشاركة وصفة بسيطة معك.
اغلي حفنة من لحاء الصفصاف وجذر البوبلورم المطحون في ماء ساخن ودعه يشربه صباحاً ومساءً. كانت هذه وصفة أمي السرية، وكلما شربتها هدأت رجفتي وانخفضت حرارتي. قد يكون من الصعب العثور على هذه المكوّنات هنا، لكن في مكان تحيطه حديقة بحجم قصر آرلي، قد تتمكن من جمعها من الخارج! وبما أنك تلقيت تدريب العروس، فلست بحاجة لتوضيح كيفية إعداد الشاي، أليس كذلك؟
في اليوم الأول من يوليو، وأنا أدرك فقط أن هذا هو أحرّ الشهور،
– كورديليا، التي قد تكون أكثر موهبة في كشف الأسرار منك.
* * *
إلى صديقتي عديمة القلب، كوكو.
لديّ خبرٌ سار، وآخر سيّئ.
ولأنني أعلم أنّك تفضّلين سماع السار أولاً، فسأبدأ به.
لقد انخفضت حُمّى فلين فورًا بعد أن شرب الشاي الذي اقترحتِه عليّ.
تذوّقتُ منه رشفةً بنفسي، فوجدت طعمه مقزّزًا إلى حدّ جعلني أتساءل إن كان قد يقتله.
لكن فلين الطيّب القلب شربه دفعةً واحدة بلا شكوى، والدموع تترقرق في عينيه.
سألته في دهشة: «ألذيذٌ هو؟»
فأجاب أنّه طعمٌ من ذكرياته. تُرى، هل كانت الأميرة إدوينا تُسقيه ماءً موحلًا في طفولته؟
على أي حال، ما إن شربه حتى انخفضت حرارته بسرعة مذهلة، حتى إنني، ولأول مرة في حياتي، نلتُ من سيسيل كلمة مدح.
ولأكون دقيقًا، قالت:
«لستَ عديم النفع تمامًا.»
ومن سيسيل، تُعَدّ هذه أسمى عبارات الثناء.
لكن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد، فقد أثنت عليّ سيسيل مرةً أخرى هذا الصباح.
وكان ذلك حين اندفع جلالته الملك السابق، وأمّي، إلى غرفة فلين بعد أن بلغهما أنّه مريض.
لقد استعاد جلالته حفيده في شيخوخته، فلا عجب أن يملأه القلق خشية أن يصيبه مكروه.
ورغم أنّ فلين أكّد أنّه بخير الآن، أصرّ جلالته على استدعاء المُعالج ليتأكد من أنّ الأمر ليس خطيرًا.
رأيتُ أنّها فكرةٌ صائبة، فكنتُ على وشك أن أهرع لاستدعاء المُعالج والطبيب، حين أوقفتني سيسيل وقالت:
«لا بأس، يا صاحب الجلالة. لقد حُلّ الأمر بكوب شاي أعدّه آرتشي. قد لا يبدو عليه ذلك، لكنّه تعلّم فنون التداوي على أصولها، فاطمئن.»
لم يسبق لسيسيل أن أثنت عليّ بهذه الصورة أمام جلالته من قبل، فغدت أجواء الغرفة مشحونةً بغرابة غير مألوفة.
وكان فلين هو من كسر ذلك الصمت المربك، إذ قال مبتسمًا بصفاء إنّه سيكون من المؤسف أن نبقى حبيسي الغرفة وقد اجتمعنا جميعًا، واقترح أن نخرج معًا لرؤية حديقة آرلي.
كانت عيناه المستديرتان تتلألآن برجاء طفولي، فلم يسعنا مقاومته. وهكذا خرجنا — سيسيل، وأنا، وأمّي، وجلالته، وفلين — خمسَتنا، إلى الحديقة.
ومع أنّ حديقة آرلي مشهورة بجمالها، فإنّنا قد اعتدنا رؤيتها حتى قلّ في قلوبنا وقعها، غير أنّ فلين — الذي كان مريضًا منذ لحظات — راح يقفز هنا وهناك مبهورًا بكلّ ما تقع عليه عيناه.
فيما كنّا نسير في الممرّ الذي تناثرت عليه أزهار الزعرور البيضاء، قال إنّ اسم «الزعرور» مملّ أكثر من اللازم، وقرّر أن يُسميه «درب الجنيّة الأبيض».
أما الممرّ الذي تصطفّ على جانبيه زهور البوفارديا بلونها الأزرق السماويّ الرقيق، فقد أطلق عليه اسم «غابة المخمل الأزرق الفاتح».
كورديليا، كما تعلمين، أنا أحمق بائس أتهرّب من الجدّية بأن أصدّها فورًا بالنكات.
والحقّ أنّ هذه العادة لا تقتصر على المواقف الجادّة، بل تطفو في أي لحظة يفيض فيها الوجدان.
فعندما يتحدّث جلالته عن حزنه لفقد ابنته، أعجز عن مواساته فأغيّر الموضوع.
وحين يلقي إدْمُوند، خادم البلاط، أبياتًا من الشعر والدموع في عينيه، أو حين يحدّق في السماء مبهورًا قائلاً:
«إذًا سأسمّيها “أزرار المخمل الأزرق الفاتح” كما أطلقتَ عليها يا صاحب السمو.»
غير أنّني لم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير: يا له من فتى غريب!
فعلى الرغم من مظهره الفتيّ، يُقال إنّه تجاوز العشرين، إلا أنّه في مثل هذه اللحظات يبدو وكأنّه لم يتخطَّ الثانية عشرة.
ومع كلّ تلك البراءة البهيجة، نظر إليّ بملامح متحفظة قليلًا وقال:
«إنّما أقول هذه الأشياء لأنك تُصغي إليّ، أيها الأمير آرتشي. هذا سرّ عن الجميع. لو علم أصدقائي أنّني أطلق أسماء على دروب الأزهار لسخروا منّي قائلين: “رائع… لقد فقدتَ صوابك.”»
فأجبته: «حسنًا… أظنّهم سيفعلون ذلك. هذا طبيعي.»
فقال: «لكنّك لا تفعل، أيها الأمير آرتشي.»
أما سيسيل، التي كانت تُصغي لحديثنا، فقد بدا عليها أنّها تودّ أن تقول له: «لقد فقدتَ صوابك»، لكنها لسبب ما كتمت ذلك ولزمت الصمت.
سيسيل وسط حديقة أزهار… أليس مشهدًا غريب التوافق؟ لو كان لديّ أدنى موهبة في الرسم، يا كوكو، لرسَمتُ لكِ المشهد لأريكِ كم كان طريفًا.
وباستثناء سيسيل، فقد استمتعنا جميعًا بوقتنا أيّما استمتاع.
لقد بدا جلالته في غاية السرور بهذا التنزّه النادر في الحديقة الممزوج بأحاديث عابثة، وكانت أمّي تضحك كثيرًا هي الأخرى.
وأثناء مراقبتي لهما، أدركت كم كنّا محظوظين لأننا وجدنا فلين.
كما قلتِ، يبدو شبه مؤكّد أنّ ذلك الفتى هو ابن الأميرة إدوينا، والأهم من ذلك أنّ أجواء قصر آرلي تغيّرت تمامًا منذ قدومه.
فبعد أن فقد جلالتنا ابنه، ثم ابنته الوحيدة، انقطع تمامًا عن العالم وأغلق على نفسه الأبواب.
وأمّي، الملكة أديلايد، كانت دائمًا تشعر بالذنب، وتعيش في حالة توتّر دائم في حضرة جلالته.
وأختي سيسيل، التي لا يمكن أن تكون أكثر جمودًا وصلابة،
وأنا… كنتُ أحاول ملء ذلك الفراغ المحرج بينهما بالنكات، ثم لا ألبث أن أفرّ هاربًا.
حتى جاء دفء غريب، لم يكن ليتكوّن بيننا نحن الأربعة وحدنا، وبدأ يملأ أرجاء قصر آرل.
في مثل هذا اليوم السعيد، قد تتساءلين ما هو الخبر السيّئ.
إنّه الحكاية المتوقّعة: شارلوككِ، الذي شغله تحضير الشاي وفق وصفتكِ والتجوّل في الحديقة، لم يحلّ اللغز بعد.
فبعد الغداء، عدتُ إلى غرفة الكتابة وقرأت رسالتكِ ثلاث مرّات كاملة، حتى خطر لي أنّه قد تكون هناك إشارة مخبّأة في مسرحية “الليلة الثانية عشرة”.
لكن حين حاولتُ إعادة قراءتها، فتّشت غرفة النوم وغرفة الكتابة طوال النهار، فلم أجد شيئًا في غير موضعه سوى ذلك الكتاب وحده. فلا بدّ أنّ نويل هي التي أخرجته خلسةً من أمتعتي حين كنّا في دير ليت.
ونويل هذه شريكتي في الجرائم، على أي حال. لقد ساعدتني وهي تضحك على تهريب صندوق حفظ الكتب إلى الخارج. وها هي الآن، الكلبة التي ربيتها، قد انقلبت لتعضّني.
على أيّة حال، صباح الغد أنوي الذهاب إلى دير ليت لأعثر على ذلك الكتاب. لكن لديّ رفيق مزعج سيرافقني.
نعم، هو بالضبط من تظنينه… فلين طبعًا. لذا، هذه المرّة أعتزم أن أترك صندوق حفظ الكتب هنا في قصر آرلي.
ذلك الفتى فضوليّ إلى حدّ يثير الجنون؛ فهو يحاول باستمرار التسلّل إلى غرفة الكتابة، وذات مرة ضُبط وهو يحاول لمس صندوقنا السحري حين كنت غافلًا.
أتفق معكِ أنّه صاحب قلب طيّب، لكن في هذه الدنيا شيء يُسمّى “الاحتياط واجب”.
أنا أريد أن أصون صندوقنا السحري قبل أي شيء آخر. وربما توبّخينني الآن وتقولين: كيف تتكلّم بهذا بعد أن أضعت كتابًا؟ لكن هذا هو شعوري على أيّ حال.
فإن لم أبعث إليكِ خبرًا لعدّة أيّام، فلا تشعري بالوحدة يا صديقتي.
وحين ألتقي بــ بيدَر، سأزعجه بأسئلتي لأعرف منه المزيد عن الأميرة إدوينا وعن الصندوق السحري.
ــ في الليلة الثالثة من أشدّ شهور السنة حرًّا.
صديقكِ الأحمق، أرتشيبالد.
ملحق: إن كنتِ تنوين السخرية منّي لكتابتي اسم “فلين” وتسألين ما إذا بتنا مقرّبين إلى هذه الدرجة، فالرجاء أن لا تفعلي. إنّ اسم “فلوريان” طويل وصعب النطق.
وفوق ذلك، فإنّ فلين كلّما رأيته بدا لي شخصًا لطيفًا بحق. كان عليكِ أن تريه وهو يشكرني بدموعه بعد أن شرب الشاي… لقد كان كفرخ طائر صغير في منتهى البراءة.
* * *
إلى أميري العزيز،
أأنت ذاهبٌ إلى الدير غدًا؟ إذن فلا بدّ أنّك ما زلتَ في قصر آرلي، أليس كذلك؟
إن كنتَ ما زلتَ جالسًا إلى مكتبك، فابعث إليّ بردّك.
لديّ لك هديّة صغيرة.
ــ كوكو، التي ابتسمت لأول مرة منذ زمن طويل بعد قراءة رسالتك.
ملاحظة: أنت لم تُعرض يوماً عن مشاعري الجادة، أليس كذلك؟
* * *
إلى كورديلياي العزيزة
نعم، أرتشيبالدكِ ما زال هنا.
ولكن يا عزيزتي كوكو، لِمَ تقولين إنكِ تبتسمين للمرة الأولى منذ زمن؟
أريدكِ أن تظلي دائمًا مبتسمة.
أتُراني آخذ صندوق حفظ الكتب معي إلى دير ليتي بعد كل شيء؟
فما دامت وسامتي البهيّة لن تكفي لأن ترسم الابتسامة على وجهكِ
(بل قد تضطرين إلى العبوس اتقاءً لسطوعها)، فسأحاول أن أُضحككِ بـ “بِيدَر”.
إنه ضخم، لكنني سأحاول حشره داخل الصندوق.
قد يصل إليكِ وقد شاخ، لكنه شائخ أصلًا، فلن يكون هناك فرق كبير.
ـ صديقكِ، أرتشيبالد
وبخصوص ملحوظتكِ: نعم، إن رسائل صديقتي الوحيدة في كثير من الأحيان قد غيّرتني تمامًا.
أرتشيبالد ألبرت صار جادًّا أكثر من أن يكتفي بالمزاح فقط.
* * *
إلى الأمير الذي يكون خطه عادةً في غاية الترتيب،
أعجبني كيف يصبح خطك مرتبكًا حين تسرع في الردّ عليّ عندما أناديك على وجه العَجَل.
وبالطبع، حتى وهو مضطرب، يظلّ أجمل من خطّي.
ملاحظة: ما دمتُ أملك رسائلك، فسأظل أضحك دائمًا، لذا ضع صندوق حفظ الكتب جانبًا وارحل، فماذا لو أسقطته وكسرته؟
وبخصوص ردّك على ملاحظتي: أحببتك يا أرتشيبالد لأنك تقول إنك قد بلغت حدّ الجِدّ الذي لا يتيح لك الاكتفاء بالمزاح، بينما أنت تواصل المزاح.
* * *
إلى كوكو خاصتي الذكية،
أجل، خطّي دومًا أجمل من خطّك.
على أية حال، أخبريني، ما هي الهدية؟
ليس لأنني متشوّق إلى الهدية ذاتها، بل لأنني أحب فكرة جلوسكِ إلى مكتبك.
كنت أظن أنكِ ستنشغلين بقضاء أيامكِ كلّها مع لِيَام. (نعم، أنا أغار الآن فعلًا.)
ـ أرتشيبالدكِ، الذي كان يُخفي غيرته جيدًا.
* * * إلى الأمير أرتشيبالد، سيّد الهوس والغيرة،
لم أتخيّل قط أن أراك غيورًا.
أعلم أنك تمزح، لكن ذلك ما زال يُشعرني بالسرور.
يا أميري، غيرتك هي قوتي، لذا سأكتب لك رسالة أطول من المعتاد.
في الحقيقة، الهدية التي أحملها اليوم ليست لك، بل لنويل.
وبما أن نويل لا تعرف القراءة بعد، فقد رأيت أن كتاب الصور سيكون هدية لطيفة لها.
في البداية، اخترتُ كتابًا من دار نشرنا يخلو من النصوص، لا يحتوي إلا على الصور، لكن بعد قراءة رسالتك اليوم، تغيّر رأيي فجأة، وأسرعت أفتش رفوفي. كتاب يحوي بعض النصوص قد يمنحك بعض الفرح أيضًا.
عنوان هذا الكتاب هو «حديقة ليديا»، وبطلته فتاة صغيرة تُدعى ليديا، من أسرة فقيرة.
ونظرًا لظروفهم القاسية، أُرسلت لتعيش مع عمّها الصارم في مكان بعيد، وحتى وهي تخوض الرحلة الطويلة بالقطار، ظلّت ليديا شجاعة؛ لم تبكِ عند فراق أسرتها، بل أخذت معها بذور أزهارها المفضلة، مفعمة بالحماس لتعلّم الخَبز في بيت عمّها.
عمّها رجل صارم لا يبتسم أبدًا، لكنه يبدو ذا قلب طيب.
وليديا، بما أنها طفلة ذكية، سرعان ما تأقلمت مع بيئتها الجديدة. تعلّمت الخَبز في مخبز عمّها، وزرعت البذور التي جلبتها من منزلها في صينية كعك منبعجة وفنجان مكسور.
وذات يوم، اكتشفت سطحًا رماديًا فوق المخبز، مكانًا لا يذهب إليه أحد، فقررت أن تصنع هناك حديقة سرّية.
لا يظنّ أحد في المخبز أنّ زرع بضع بذور سيؤتي ثماره، لكن بعد عام كامل، تتفتح الأزهار في كل مكان، وتُعرف ليديا بلقب “البستانية الصغيرة”. أمّا عمّها، فرغم أنه يرى الأزهار من حوله، فإنه ما يزال لا يعلم بأمر الحديقة على السطح.
وفي يوم الكشف الكبير، تقنع ليديا عمّها بإغلاق المخبز، وتصطحبه إلى السطح، لتُريه ألوان الأزهار الزاهية التي أزهرت في المكان الرمادي الباهت. يقف عمّها هناك، من دون أن يبتسم، لكنه يبدو متردّد الملامح، تمامًا كما كانت سيسيل واقفة وسط أحواض الزهور.
وصورة السطح بأكمله مغطّى بالأزهار مؤثرة للغاية، لكنّ المشهد المفضل لديّ يأتي في الصفحة التالية ـ وهي الصفحة الأخيرة من الكتاب.
إنه لحظة عودة ليديا إلى بيتها بعد أن وصلها خبر حصول والدها على عمل وتحسّن أوضاعهم المالية.
هذا المشهد يخلو تمامًا من أي نص، وهو صورة واحدة كبيرة ممتدة على صفحتين.
نفس محطة القطار الرمادية التي وصلت إليها ليديا أول مرة، تملأ الصفحتين،
وفي أحد الأركان، يظهر عمّها الذي جاء لوداعها، جاثيًا على ركبتيه، يحتضن ليديا الصغيرة بقوة.
كان يعضّ على شفتيه كما لو أنه يحبس الكلمات،
ويغمض عينيه بشدة كما لو أنه يبتلع دموعه.
ومع أنه لا يبتسم، ولا تترقرق دمعة في عينيه، ولا تُكتب كلمة واحدة، إلا أنك تشعر بحزن العم وهو يودّع ليديا مضطرًا.
حين ترى كم للصورة وحدها من قدرة على استثارة الوجدان، فربما لا بأس أن تأخذ نويل وقتها في تعلّم القراءة، أليس كذلك؟
اليوم، بعد أن سمعتُ قصتك عن فلين، وجدتني أفتح هذا الكتاب المصوَّر من جديد، وانتهى بي الأمر باكية.
وحين أرى أشخاصًا مثل ليديا، أتذكّر أنه لا داعي لأن يبهت قلبي لأن العالم رماديّ.
فثمّة دائمًا مكان ما يمكن أن نزرع فيه بذور الزهور خفية.
وأحسب أن فلين واحد من أولئك الأشخاص أيضًا.
وكذلك أنت يا أرتشيبالد، أؤمن بأنك واحد منهم.
الكتاب كبير للغاية، لذا سأضطر إلى تمزيقه صفحةً صفحة كي أستطيع وضعه في الصندوق، فالرجاء أن تعيد لصق صفحاته وتسلمه إلى نويل.
وأظن أن بيدر ربما يستطيع حتى أن يحوّل الصفحات الممزقة إلى كتاب أجمل مما كان.
ملاحظة: قد أكون أشعر ببعض الغيرة، لكنني لن أتدخّل، فاستمتع بوقتك مع فلين.
3 يوليو
— كورديليا، راجية لك أن تجد الجواب قبل الرسالة التالية.
* * * عزيزتي كوكو،
أولًا: أنا لكِ على الدوام، فلا تكوني غيورة.
ثانيًا: لا تبكِ إلّا عند قراءة كتاب، وإن وجدتِ فيه ما يحزن على وجهٍ خاص، فأخبريني.
ثالثًا: فكرة تمزيق الكتاب صفحةً صفحة كي يلائم الصندوق فكرة همجية، ومع ذلك فهي مذهلة الإبداع.
رابعًا: أنتِ أيضًا من ذلك النوع من الأشخاص يا كورديليا، بل أنتِ أكثر من يشبه ليديا ممن عرفت.
في صباح اليوم الرابع من أشد الشهور حرًّا، وأنا أغادر آرلي قليلًا، المخلص لكِ دومًا، أرتشيبالد.
———= ملاحظة المؤلف ———=
إلى القراء الأذكياء، على عكس أرتشيبالد، والذين يعرفون كل شيء مسبقًا.
أولًا، *الليلة الثانية عشرة* روايةٌ تدور أحداثها حول امرأة متنكّرة في زي رجل.
ثانيًا، *حديقة ليديا* روايةٌ مصورةٌ تعتمد على الرسائل. جميع الحبكات المذكورة أعلاه تُنقل عبر الرسائل.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات