الآن فقط فهمت كيف استطعتِ الرد على رسالتي بسرعة. أرغب بشدة أن أهرع إلى قاعة النسّاخ وأتباهى أمام بيدر، لكنني سأتماسك هذه المرة وأكون مراسلاً أوفى الليلة.
في رسالتي السابقة، ذكرتُ أن سيسيل انضمت إليَّ في تدريبات وراثة العرش، أليس كذلك؟
لقد أدت سيسيل كل شيء بإتقان، ومع ذلك امتدحني جميع المعلمين وحدي.
كانت سيسيل أيضاً أميرة مملكة…
… نعم، كانت أميرة.
بالنسبة إليهم، لم تكن سيسيل سوى طالبة ترافق الأمير ليتلقى دروس الخلافة. وفوق ذلك، فهي أكبر مني بخمس سنوات، لذا كان أي إنجاز تحققه أمراً بديهياً، بينما كان يُحتفى بي إن أديت شيئاً بسيطاً على نحو جيد.
هل شعرت سيسيل بالغيرة؟
لست متأكداً أن كلمة “غيرة” مناسبة. حتى عقلي الصغير حينها أدرك أن هناك ظلماً ما.
سيسيل، بدلاً من الغيرة، بدت غاضبة من الوضع. وبدافع ذلك الغضب، كانت تعمل أكثر مني في كل شيء. مهاراتها كانت تتحسن يوماً بعد يوم. تمكث حتى وقت متأخر كل ليلة، وتتدرب حتى الإنهاك—كيف لا تتحسن؟
ثم إن طبيعتها الحادة بالفطرة جعلتها مثالية لتعلم فنون القتال، التي تقوم على مهاجمة الآخرين. أما فن الحكم…
كورديليا، هل درستِ فن الحكم من قبل؟ إذا تجاوزتِ الصفحات الأولى التي تتصنع الحكمة، فهو في جوهره فن الخداع.
إنه يتناول كيف تخدع الآخرين وكيف تكشف خداعهم. وفي هذا المجال، كانت سيسيل موهوبة بالفطرة. كما قلتِ يا كوكو، أنا أيضاً بارع نوعاً ما في الكذب.
ثم، ذات يوم، بعد نحو عامين، قرر مدرب ركوب الخيل “كاراجان” أن يأخذنا إلى السهول الغربية. كنت أحبه كثيراً. كان من أبناء ألدار، ويحفظ الأساطير القديمة جيداً. أحياناً كان يقص عليّ قصصاً قديمة سرّاً، ومنها حكايات عن تنانين من فالّيا، من دون علم سيسيل.
مرةً سألته كيف يعرف، كونه من ألدار، قصص فالّيا القديمة جيداً، فابتسم ووضع إصبعه على شفتي طالباً الصمت.
قال: “حين تمتطي، يمكنك الوصول إلى أي مكان.”
فسألته: “كاراجان، هل تعلمت لهجتك المميزة من هناك أيضاً؟”
كنت أحب سماعه يناديني بتلك اللكنة الفالّية، التي لم يلحظها أحد سواي. كانت تمنح الأمر مسحة غموض. رجل من ألدار، في وينترتون، يتحدث الوينترتونية بطلاقة لكنه يهمس باسمي بلكنة فالّية.
تفاجأ قليلاً، ثم ابتسم وقال: “نعم، هذا صحيح. تعلمتها من هناك. لكن هذا سر بيني وبينك، فلا تخبر أحداً.”
كنت مسروراً بامتلاك سر كهذا، فهززت رأسي موافقاً بلا تفكير.
لكن بعد ذلك الحديث، صحح لكنته تماماً، ولم ينادني بتلك الطريقة مرة أخرى. وجدتها غريبة بعض الشيء، لكن لم أفكر كثيراً بالأمر. ربما لم أكن ذكياً كما كنتَ أنتِ أو كما كانت سيسيل تظن.
ومع أن متعة سماع اسمي بتلك الطريقة الفريدة اختفت، إلا أنني ظللت أحب المدرب كاراجان.
كطفل، كانت فرصتي الوحيدة لمغادرة القصر هي دروس ركوب الخيل. في البداية، كان كاراجان يأخذنا إلى الإسطبلات الملكية أو المراعي القريبة. ومع الوقت، حين أصبحنا أكثر تمرساً، صار يأخذنا إلى أسواق خارج القصر، وغابات وراء السهول، وبحيرة وبركة.
لكن ذلك اليوم كان أول مرة نذهب بعيداً جداً.
كان موكبنا ذلك اليوم مهيباً، يضم ما لا يقل عن عشر عربات من الخدم. توقفنا في بيت أحد البارونات قرب السهول الغربية لنستريح ونجهز خيولنا.
لا أعلم كيف أقنع كاراجان كل هؤلاء الخدم، لكنه اقترح أن نتابع نحن الثلاثة وحدنا من هناك، فوافقنا أنا وسيسيل بسعادة.
لكن حين توغلنا في السهول، بدأ أحدهم يتبعنا. ولأننا كنا نحن الثلاثة فقط، وكاراجان كان رامياً ومبارزاً ماهراً، لم نأخذ الأمر على محمل الجد.
ظل كاراجان يلتفت للخلف، ثم أشار إلينا بالتوقف. وعندما توقفنا، توقفت العربات التي تتبعنا. طلب منا أن نترجل، ففعلنا.
وهكذا اختُطفنا بسهولة شديدة.
كانوا من فالّيا…
حين كنت في العاشرة من عمري، تساءلتُ عمّا قد يحدث لو أنّ “فالّيا” اختطفتنا.
هل كانوا يصنعون ذريعةً لشنِّ حرب؟
هل كان احتجازنا كرهائن سيمنحهم ميزة استراتيجية إذا اندلعت الحرب؟
أم كانوا ينوون تسليمنا إلى إمبراطورية “رويتلينغن”؟
حتى مع معرفتي المحدودة بعد بضعة أشهر فقط من الدراسة، استطعت أن أضع بعض الفرضيات. ولا شك أنّ هناك خططاً أخرى تدور في الخفاء.
لابد أنّ في القماش الذي كمّموا به أفواهنا مادةً مخدّرة، إذ إنّ “سيسيل” وأنا فقدنا الوعي لوقتٍ قصير بعدما وُضعنا في مؤخرة عربة. وحين أفقتُ، شعرتُ بشيءٍ رطب على وجهي، وكان بطبيعة الحال لعاب سيسيل.
أخبرتكِ يا “كورديليا “، تلك هي طبيعة سيسيل.
بعد أن أفقتُ على هذا المشهد المقزّز، شعرتُ بضرورة تقييم الوضع. وعلى الرغم من أنّني لم أكن قد قرأتُ “شرلوك هولمز” بعد، فقد ظننت أنّ إلقاء نظرة حولي قد يساعدني على إيجاد بعض القرائن.
لاحظتُ العقدة التي شُدّت بها الحبال في العربة. كانت غريبة الشكل. تذكّرتُ إحدى الحكايات القديمة التي رواها لي “كاراجان” عن تنّين قُيّد بعقدة فريدة لم يتمكّن من الفكاك منها.
همستُ لسيسيل: ـ “فالّيا”.
قالت: ـ “فالّيا؟”
قلت: ـ “انظري إلى تلك العقدة، إنّها عقدة فالّية”.
سألت: ـ “وكيف عرفتَ ذلك؟”
قلت: ـ “كاراجان حكى قصة عن غزال رُبط بهذه العقدة نفسها، ولم يتمكّن من الهرب”.
قالت: ـ “…إذا كانت قصة من كاراجان، أليست إذن قصة من “ألدار”؟”
قلت: ـ “لا، تلك القصة كان فيها أيضاً تنّين. ومعظم القصص التي رواها كاراجان كانت عن فالّيا. بل إنّ لهجته فالّية”.
صمتت سيسيل، ويبدو أنّها أدركت فوراً أنّ كاراجان في الحقيقة فالّي وليس من “ألدار”.
قلت: ـ “لابد أنّ كاراجان فالّي، أليس كذلك؟”
لكنها لم تُجب.
سألت: ـ “أتُراه أحسن معاملتنا منذ البداية فقط ليفعل بنا هذا؟”
“……”
قلت: ـ “هل نذهب إليه ونرجوه ألا يفعل هذا ويعيدنا إلى القصر؟”
وبمجرد أن تحركت وفق تعليماتها، سقط شيءٌ بصوت مكتوم.
تبع ذلك صوت تهشّم… كان صوت عظام يدي وهي تتحطّم.
لقد ركلت سيسيل جدار العربة، فتساقطت مطرقة معلقّة فوقنا على يدي، مما جعل القيد ينفلت، ومعه أصبحت يدي عديمة النفع إلى الأبد. أما كتف سيسيل التي عضضتها، فلم تسلم من الأذى أيضاً.
ومع ذلك، لأنني عضضت بقوة، لم تصدر أي صرخة، مما جعل الفالّيين يفتحون باب العربة لبرهة، فرأونا جالسين بلا حراك، وظنّوا أن الصوت لم يكن سوى سقوط المطرقة، فعادوا إلى أماكنهم.
قالت سيسيل: ـ “أحسنت”.
فقلت ساخطاً: ـ “اللعنة يا سيسيل، الألم لا يُحتمل”.
وبينما أنا أفرغ في وجهها أقذر الشتائم التي تعلّمتها خلال عشر سنوات من حياتي، ردّت ببرود: ـ “يمكن علاج ذلك بالسحر الشفائي”.
ـ “إذن عالجيه الآن”.
ـ “لم أقصد أنّني أستطيع أنا فعل ذلك”.
ـ “اللعنة عليكِ يا سيسيل!”
ـ “إذا لم يتأخر الأمر كثيراً، يستطيع المعالج إصلاحه”.
ـ “إذا لم يتأخر؟”
ـ “نعم، لذا ركّز الآن. أَسرع وحرّرني”.
وبما أنّ يدي اليمنى تحررت من القيد، استخدمت يدي اليسرى الأقل إصابة لفكّ وثاق يدي سيسيل، ثم سألتها:
ـ “ألم يكن هناك طريقة أخرى؟”
قالت: ـ “يمكن علاج معصمك حتى لو تحطّم، أما إن متنا فلن يعيدنا حتى ساحر الظلام. وإن أُسرنا أحياء، فالأمر أسوأ. استخدم عقلك وتوقّف عن التذمّر”.
قالت ذلك بسرعة، وبمجرد أن تحررت يداها، أمسكت المطرقة، وأزاحت الستار، و…
كنت أظنّ أنّها ستقتل أولاً الرجلين اللذين خطفانا، لكن أول شخص قتلته سيسيل كان المدرّب كاراجان… كاراجان الذي قضى أيامه معنا تحت ظلال الأشجار ضاحكاً، والذي كان يمسك بنا كلما أوشكنا على السقوط عن أحصنتنا.
هوت المطرقة على وجه كاراجان المبتسم دوماً، فحطّمته بضربة واحدة.
أنا لم أكن لأفعل ذلك.
بل لم أكن لأجرؤ عليه أصلاً.
ثم أجهزت سيسيل على جميع الخدم الذين كانوا بانتظارنا في منزل البارون، بعضهم معنا منذ خمس سنوات، وبعضهم منذ عشر.
تلك هي سيسيل… وأنا أعلم أنني لا أستطيع أن أكون مثلها أبداً.
يا “كورديليا”، لقد نصحتِني أن أقدّم وعداً كاذباً لسيسيل لاستمالتها، وقد اتبعت نصيحتك الحكيمة.
نعم، لكن كما توقعتِ، لطالما اعتقدت أنّ سيسيل يجب أن تكون ملكة. فهي قادرة على فعل أشياء من أجل “وينترتون” لا أستطيع حتى تخيّلها.
ما رأيكِ يا كورديليا؟ أأنتِ موافقة؟ أتممتِ كتابة رسالتكِ الآن؟
أخبِريني سريعاً لِمَ لم تتمكّني من قراءة مخطوطة “آن سيلين”.
ــ في ليلةٍ مظلمة تحت ضوء القمر الأخضر الشاحب، صديقكِ “آرتش”.
***
إلى الأمير آرتش الذي بدأت أقلق على معصمه،
هل كان معصمك الرقيق بخير إذن؟
يسرّني أنني أرسلت لك قلماً ينساب بسلاسة.
لكن، يا آرتش، أظنّ أنّني قد أقع في هوى “سيسيل” قليلاً. بالطبع، هي امرأة لا أريد لقاءها أبداً، لكن لو كنتُ جندياً في “وينترتون”، لكانت هي الملكة التي أرغب في خدمتها. حقاً، إنها ليدي ماكبث بحق.
6/12 — أتوقف عن كتابة رسالة طويلة كادت أن تحطّم معصمي. كورديليا.
—
إلى صديقتي المفكّرة “كورديليا “،
نعم، حان دوري الآن للانتظار.
ابعثي إليّ بتلك الرسالة الطويلة التي ستكاد تحطّم معصمك، وسأنتظر هنا بصمتٍ من غير أن أزيد حتى نقطةً واحدة.
صديقكِ، آرتش.
ملاحظة: كما قالت سيسيل، عالج أحد المعالجين معصمي فوراً. نعم، تألمت لأشهر عدة، لكن لا داعي لأن تقلقي الآن. ومع ذلك… أليس ما فعلته بي مبالغاً فيه؟
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات