قالت إيفون بصوت متردد وهي تدخل غرفة نوم زوجها دومينيك، الذي عاد إلى القصر بعد غياب طويل.
“يبدو أن هذا اليوم خصصه الجميع للحديث، أليس كذلك؟”
تمتم دومينيك وكأنه يحدّث نفسه، ثم أشار لها بالجلوس على المقعد المقابل حيث كان يجلس إلى الطاولة. لم تحتج إيفون أن تسأل من كان يجلس أمامه قبلها. كانت تعرف… لا بد أنها أنجيلا.
“وعن ماذا تحدثتما؟”
شفتا دومينيك، المشبعتان برائحة النبيذ بعد أن قضى وقته في الشراب في القصر الإمبراطوري، انفرجتا ببطء:
“كاليان في السجن. جاءت ترجوني أن أطلق سراحه.”
اتسعت عينا إيفون دهشة. لم تسمع بهذا من قبل.
“في السجن…؟! ولماذا؟”
“لأنه عصى المرسوم الإمبراطوري حين ذهب لينقذ تلك الفتاة.”
كان دومينيك يتحدث عن أنجيلا كما لو أنها غريبة عنه، “تلك الفتاة”. في الماضي، كان هذا يعزي قلب إيفون؛ فهي التي أنجبت بياتريس، وكان دومينيك يناديها دومًا: “بياتريسنا الصغيرة.” ويحتضنها.
لكنها اليوم، لسبب غامض، أحست بغصة حين سمعت تلك الكلمات. ربما لأن حادثة اختطاف أنجيلا جعلت شيئاً يتغير في قلبها. جعلتها تقول ما لم تكن لتقوله يوماً:
“لو لم يذهب الكونت لينقذها، لما عادت ابنتك إلى البيت أبداً. لكانت ماتت بين أيدي أولئك الأوغاد. وهو الوحيد الآن الذي يسعى جاهداً لمعرفة من يقف خلف كل هذا…”
رفع دومينيك نظره إليها بنظرة حادة غير مألوفة. ثم مال بالكأس، وشرب نصف ما فيه دفعة واحدة قبل أن يجيب:
“تلك الفتاة قالت الكلام ذاته. لكنك أنتِ… لم أظن أنك ستقولينه. متى بدأتِ تقفين في صفها؟”
ارتفعت حمرة خفيفة على وجنتي إيفون.
يا صاحب السمو، اجعلني دوقة. أعطني القوة كي أهزم تلك الفتاة. لم أعد أريد أن أعيش خائفة منها بعد اليوم.
كم بدا الموقف هزلياً. ها هي، أمام الرجل الذي يتذكر تماماً توسلاتها القديمة، تتحدث مدافعة عن أنجيلا. هي التي كانت أكثر من يكرهها في قصر بيلتن.
لكنها لا تريد أن تعيش ثانيةً ما شعرت به يوم علمت بخطفها… تلك القشعريرة التي أصابتها وهي ترى خصلة من شعرها مقطوعة، ذلك العجز الموجع… لا، لن تتحمل أن يتكرر ذلك مرة أخرى.
اكتشفت في نفسها بقايا مشاعر لم تكن تظن أنها لا تزال موجودة. وكان من المستحيل أن تبقى كما كانت من قبل. قلبها أخذ يلين رغماً عنها.
“إنها فتاة جافة القلب.”
قال دومينيك ببرود، كأنه يصف حقيقة مطلقة.
“فأي رحمة تجدينها تستحقها؟”
تابعت إيفون صامتة حركاته وهو يفرغ الكأس ويملأها من جديد. في داخلها، ردّت عليه بصوت خافت: جافة القلب؟ بل أشبه بعصفور صغير تائه بلا عش.
وهي تحدق في حافة الكأس التي امتلأت حتى فاضت، قالت:
“أنا فقط… لم أفهم. كيف يمكن أن يُسجن رجل لأنه أنقذ خطيبته؟”
لكن دومينيك هز رأسه بصرامة:
“لا شيء يسمو فوق المرسوم الإمبراطوري. من يخالفه يدفع الثمن. إذا لم يُحترم هذا المبدأ المطلق، فذلك بداية سقوط الدولة.”
كان يتحدث عن النظام، عن البنية الصارمة التي يقوم عليها الحكم. لا مكان للعاطفة في منطقه، رغم أنه نفسه يحمل في صدره أسماءً عزيزة. كم بدا قاسياً.
“وماذا سيحل بالكونت فلورنس إذن؟”
أجاب مبتسماً، وهو يرفع الكأس إلى فمه مرة أخرى. ابتسامة أثقل حتى من تلك التي رسمها حين دعاه الإمبراطور “أخي” وناوله الشراب.
“إن قررت تلك الفتاة، خرج سالماً من السجن. وإن بقيت تتغنى بالحب، فسيخرج جثة.”
“قررت ماذا؟”
سألت إيفون، متحيرة. فأفرغ كأسه أخيراً، ثم قال:
“قررت أن تفسخ خطوبتها.”
شهقت إيفون في سرها. كان يفعل تماماً ما فكرت هي أن تفعله. استرسل دومينيك، بلهجة عادية كأنه يتحدث عن أمر يومي:
“قلت لها: إذا صار كاليان غريباً عنها، ساعدته. غداً ستعرفين النتيجة. وأنا بانتظارها.”
“…”
“لماذا تصمتين؟ ألا يسرك الأمر؟ أما قلتِ من قبل إنك كنتِ تتمنين لو كان كاليان قرين بياتريس؟”
شعرت إيفون وكأن أحدهم ضربها بقوة على رأسها. تذكرت.
كان ذلك يوم انتهت كل حفلات الزفاف التي أُقيمت للاحتفال بزواجها من دومينيك. شربت آنذاك كأسين من الشامبانيا رغم ضعفها أمام الشراب. كانت سكرى قليلاً.
وقتها، شعرت بالامتنان لكاليان. كان هو من جلس صامتاً إلى جوارها طوال الحفل، بينما كانت تدرك أن الجميع يضحك في سرّه على الدوقة التي كانت ذات يوم وصيفة. لم تهتم إن كان الضحك عليها وحدها، لكن رؤية بياتريس تُعامَل بالسخرية نفسها كان يقتلها. والأسوأ أن أنجيلا لم تكلف نفسها حتى الحضور، كأنها ترفض الاعتراف بزواجها.
وسط كل ذلك، بدا وجود كاليان سنداً حقيقياً. نعم، كان يُنتقد أيضاً بصفته “كونتاً من أصل عامّي”، لكنه لم يتزعزع لحظة. كان قوياً بذاته، وقد أحبّت فيه تلك القوة التي توحي بأنه قادر على حماية كل ما يخصه.
عندها فقط، تفوّهت بتلك الجملة:
“كم سيكون جميلاً لو كان كونت فلورنس هو قرين بياتريس…”
كلمات عابرة، خرجت منها بخفة السكر. لم يخطر لها أن دومينيك سيحفظها في ذاكرته كوصية.
والآن، ها هو يستخدمها ليبرر ما اقترفه. ما حدث كان خطيراً بما يكفي: إلحاق الأذى بأنجيلا، ثم اختطافها، ثم ساقها العرجاء…
هزت إيفون رأسها بعجلة، كأنها تنفي الفكرة بجسدها كله:
“لـ… لقد كان كلاماً عابراً فقط! قلتها لأن الكونت رجل طيب وحسب…”
“بالضبط. رجل طيب، لذلك يجب أن يكون لبياتريسنا. إنه أثمن من أن يُمنح لتلك الفتاة.”
كان يسكب الخمر من جديد، والسائل الأحمر ينحدر في الكأس مثل دمٍ قانٍ. للحظة، خُيّل لإيفون أن وجه أنجيلا يطفو أمامها وسط ذلك اللون.
شهقت، وأسرعت تهز رأسها، لكن حين رفعت عينيها، رأت في عيني دومينيك شيئاً لم تره من قبل: كراهية سوداء مطلقة. ليست مجرّد جفاء أبوي. كانت نظرات وحش جائع، مستعد أن يمزق ابنته إرباً، أن يمتص آخر قطرة من دمها ليشبع.
تمنت إيفون أن تكون مخطئة فيما رأت. لكنها لم تستطع أن تطرد من ذهنها صورة الخمر وهي تنحدر في حلقه كدم أنجيلا المسفوح.
“أ… أشعر بالإرهاق. سأخلد للنوم الآن.”
قالتها بتعثر، وهربت. لم تجرؤ على البقاء أكثر. أحست أنها لو أطالت الجلوس، لاضطرت أن تنظر أعمق في ظلمة ذلك القلب. ولو فعلت… لانهارت تماماً.
***
“قالت: هي بخير.”
“…”
“أرادتك ألا تقلق.”
كان تريستان يتحدث عبر قضبان الحديد، موجهاً كلامه إلى كاليان. ارتجفت ملامح الأخير قليلاً. لقد أدرك أنها كلمات أنجيلا.
كانت أنجيلا دائمًا تُوقظ في قلب كاليان مشاعر جديدة لم يعرفها من قبل. وهذه المرة كان القلق أشد من أن يُحتمل، حتى إنه تمنى لو يعض لسانه ويموت، ثم يولد من جديد كي يتخلص من ثقله.
غريب… تلك الفتاة التي اعتادت أن تتدلل وتزعم المرض لتجعله يتنقل ذهابًا وإيابًا إليها كما يُدرّب جروًا صغيرًا، هي نفسها التي قيل له اليوم إنها بخير. ومع ذلك، لم يشعر بالارتياح، بل ازداد توقه للركض إليها أكثر من أي وقت مضى.
“لكن… حالها في الحقيقة كيف هو؟”
سأل كاليان، فهزّ تريستان كتفيه بلا مبالاة. لم يكن رد فعل رجل يصف من هو بخير حقًا.
عندها أغمض كاليان عينيه بقوة ثم فتحهما، كمن يتأهب لسماع حقيقة موجعة. اختفت عيناه السوداوان للحظة تحت جفنيه ثم عادتا لتتقدا بحدة صوب تريستان. لم تكن تلك نظرة رجل خلف القضبان، بل عاصفة لا تُقاوَم.
“حرارتها كانت ملتهبة.”
قالها تريستان صراحة، بلا أي تجميل.
“انتظرت قليلاً بجانبها لأرحل بعد أن تهدأ، لكن بدا أنها تتظاهر بالنوم بسببي، فلم تسترح كما يجب، فتركتها وعدت.”
مرة أخرى أغمض كاليان عينيه ثم فتحهما. صورٌ لا يراها بعينيه، وإنما بعقله، أخذت تمزق صدره وهو يتخيل أنجيلا مريضة بغيابه.
الفتاة التي كانت دومًا تستفزه وتستخرج غضبه، لم تعد تفعل سوى أن توجع قلبه.
رأسي يؤلمني بشدة. نادي كاليان حالاً! لا أريد أن يقال عليه أن خطيبته مريضة وهو لا يزورها. لا أريده أن يبدو مثل لامبالٍ عديم الشرف. اجعله يجيء الآن.
كانت هناك أيام تفتعل فيها الفوضى فقط كي يُستدعى إليها.
فلماذا يبدو له الآن أن تلك الأيام كانت أفضل من هذا الغياب؟ أنجيلا اليوم تفعل ما تمنى دومًا… تراعي غيرها، تضبط نفسها… ومع ذلك هو يتألم أكثر.
“قالوا إنها لم تكن تملك جسدًا قويًا من الأساس. والآن وقد أُصيبت، وفوق ذلك سمعت أخبارًا سيئة، فمن الطبيعي أن تضعف حالتها أكثر. طبيبي الخاص فحصها من قبل… لو تمكن من الدخول ورؤيتها الآن—”
مدّ كاليان كلماته على غير عادته، لكن تريستان قطع تدفقها رافعًا يده:
“مستحيل. لن يتمكن من الدخول.”
قالها بحسم، وصوته هذه المرة جاد على غير عادته.
“ربما لأن سيد القصر قد عاد، الحراسة الآن مشددة جدًا. أمس فقط استطعت التسلل بسبب انشغالهم بليلة النصر وما تبعها من سُكرٍ. كنت محظوظًا. أما أن يدخل طبيبك عبر بوابة القصر في مثل هذه الظروف؟ فهذا لا سبيل له.”
مرّر كاليان يده بين خصلات شعره المتساقطة على جبينه. لم يكن الاختناق من السجن هو ما يحطم أنفاسه، بل العجز عن أن يكون قرب أنجيلا في هذه اللحظة.
هل تستطيع أن تسير دون مساعدته؟ هل تعثرت، هل تألمت وهي وحيدة؟ كان الغيظ يمزقه من الداخل.
وفجأة، ثبّت عينيه على تريستان حتى ارتبك هذا الأخير، فمال بجسده للخلف متوجسًا وقال:
“ماذا هناك؟”
همس كاليان، وصوته يحمل سرًا دفينًا:
“أنت، إن كنت رسول مملكة تاران… فلا بد أن لك صلة بالإمبراطورة نفسها، أليس كذلك؟”
اتسعت عينا تريستان ذهولًا. حدّق حوله بسرعة ثم التصق بالقضبان، كأن يخشى أن يسمع أحد اعترافه.
“هل جننت؟ ماذا تفعل؟!”
كان وجهه متجهمًا بصرامة، على خلاف ابتسامته الدائمة. في المقابل، ارتسمت ابتسامة غريبة على محيا كاليان، كأنهما تبادلا الأرواح للحظة.
***
لم يغمض لأنجيلا جفن طوال الليل. كل ما فعلته هو التحديق في القلادة التي تركها لها تريستان.
لم تكن غالية المظهر، لكن أثر العناية البالغة التي لاقته كان واضحًا. في يد كاليان، ثم في يد تريستان، ظلّت مصونة من أي خدش، لامعة كأنها خارجة للتو من يد صائغ. كان الزمان قد مرّ عليها بلا أثر.
أحست أنجيلا أن من واجبها أن تحافظ عليها كما فعلوا، أن تحفظ هذه الأمانة. فتحت درج الطاولة الصغيرة إلى جوار سريرها، وأخرجت من داخله منديلًا ناعمًا. وضعت القلادة في وسطه، ثم لفتها طبقة بعد طبقة بحذر، كأنها تخشى أن تتصدع إن لامست قلبها مباشرة. ثم أعادت الحزمة الصغيرة إلى الدرج.
لكن ما إن أطبقت عليه حتى دوى صوت خفيف طق، فارتفعت معها ذكرى دفينة. فجأة تذكرت. لقد رأت هذه القلادة من قبل. قلادة مطابقة تمامًا.
“مستحيل…”
همست وهي ترفع يدها إلى فمها. هزت رأسها يمنة ويسرة كأنها على خشبة مسرح تؤدي مشهد الإنكار، رغم أنه لم يكن هناك من يراها أو يشاركها هذه الصدمة.
“مستحيل…”
لكن التكرار لم يغير شيئًا. وحدها بقيت، وحدها تحمّل وقع هذا الاكتشاف.
أسرعت تنزل قدميها من السرير. حاولت أن تخرج، لكن خطواتها سرعان ما خانتها، وتعثر جسدها على ساقها الجريحة. سقطت قليلًا، ثم قبضت على فخذها وضربته بقبضة يدها في نوبة غضب عبثية.
لكن الألم لم يتلاشَ بضربة، ولا الساق عادت سليمة. حين كان كاليان يحملها جيئة وذهابًا، لم تفهم أبدًا لماذا كل هذا الحرص المبالغ فيه… أما الآن، فقد أدركت.
بخطوات بطيئة متثاقلة، خرجت من غرفتها. كان مقصدها غرفة إيفون. ترددت لحظة أمام الباب، تفكر في أن تطرق، ثم قررت أن تدخله مباشرة. كانت واثقة أن إيفون في غرفة دومينيك الآن، تقضي وقتها معه بعد طول غياب. وحقًا، الغرفة كانت فارغة.
أغلقت الباب خلفها بإحكام، ثم بدأت تفتش في الأدراج. قد لا تكون القلادة هنا، بعد أن نقلت إيفون أشيائها إلى جناح الدوقة. لكن كان عليها أن تتأكد بعينيها. لم تعد تثق في أي تخمين. لا تريد أن تواسي نفسها قائلة: “إنها مجرد قلادة شبيهة”، لا… يجب أن ترى بنفسها.
“ها…”
في الدرج الثالث، وجدت ما لم تكن تتمنى أن تجده. قلادة أخرى. الشكل نفسه، الصورة نفسها… نسخة طبق الأصل من تلك التي في يدها.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات