آه… إذن كان يعلم تمامًا لماذا فعل كاليان ما فعل، ومع ذلك يتظاهر بتجاهله.
شعرت أنجيلا وكأن الأرض قد انسحبت من تحت قدميها. لم يعد هناك ما تستند إليه. دوار شديد اجتاحها. لكنها بالكاد تماسكت، ثم ردّت بصوت مرتجف:
“لقد اختُطفتُ وكدتُ أُقتل. لم يكن أمام كاليان أي خيار آخر.”
“لا وجود لشيء اسمه خيارٌ لا مفرّ منه أمام مرسوم الإمبراطور.”
كان صوت دومينيك بارداً، قاطعاً. نهض واقفاً، كأن الأمر لم يعد يستحق حتى الاستماع.
“أنا ابنتك، أبي.”
قالتها أنجيلا، في محاولة يائسة لوقف خطواته.
“أن تعامل بهذا الجفاء رجلاً أنقذ حياة ابنتك، فذلك لا يفعله سوى وحش. لا، حتى الوحوش تدرك معنى رد الجميل.”
ابتسم دومينيك ابتسامة ساخرة، وكأن ما سمعه لم يكن يستحق إلا السخرية، واهتزت كتفاه بضحكة خافتة.
“لست أفهم كيف تعتبرين ما فعله نعمة. أنا حتى هذه اللحظة أجد النظر إليك مقززاً.”
انسكبت الحقيقة من فمه فجأة كفيضان، فأخرست أنجيلا لوهلة. لم تستوعب ما تسمعه. وحين أخذت الكلمات تستقر شيئاً فشيئاً في أذنيها، جف حلقها.
“أتقصد… أنني كان يجب أن أموت؟”
تأملها دومينيك بصمت. ثم فجأة سألها سؤالاً بدا بعيداً تماماً عن سياق الحوار:
“كم عمرك؟”
“… بعد عيد ميلادي القادم سأبلغ الرابعة والعشرين.”
أجابته وهي تحدّق في وجهه تدقق في أدق تفاصيله، كأنها تحاول أن تلتقط من عينيه معنى خفياً. لكنه ابتسم ابتسامة باهتة.
“سنٌ جميلة.”
كلمات بلا معنى سقطت في الفراغ. عبثاً حاولت قراءة وجهه؛ لا شيء يفسّر لماذا قالها. لكن سرعان ما عاد ليذكر كاليان:
“هل ترغبين في إنقاذه؟”
بالطبع أرادت ذلك. بل إن ما حدث كله كان بسببها. لو لم تنخدع بأكاذيب إيفون وتلحق بكاليان، لو جلست ساكنة في قصر بيلتن مثل تمثال حجري، لما كان شيء من هذا سيحدث.
لو لم تستفز إيفون بذلك الحلم الملعون، لما أصبحت هي دوقة، ولا استقبلت ماري كخادمة.
ولما دافعت ماري عن أنجيلا أمام كاليان.
ولما فتح قلبه لها.
ولما أغضب ذلك الإمبراطور.
“أريده… أريده أن يُنقذ.”
أجابت بكل ما يملأ قلبها، رأسها يكاد ينفجر من توالي الأفكار، آملة أن تصل صدقها حتى إلى ذلك الرجل القاسي.
عندها، قال دومينيك ببرود، كأنه يتحدث عن الطقس:
“إذن… انفصلي عن كاليان.”
“… ماذا؟!”
رمشت أنجيلا بعينين متسعتين، مذهولة، غير مصدقة ما تسمع. تقدم دومينيك نحوها، وأمسك كتفيها بقوة.
“قلت لك: انفصلي عنه. إن لم تعد لكِ به صلة، فسأساعده.”
كان وجهه بلا تعبير، لكن ملامحه بدت خبيثة كملامح شرير. هزّت أنجيلا رأسها بعفوية:
“ما الذي تقوله؟”
“إن لم تقدري، فليكن. كاليان سيُعذّب، وربما يُقطع رأسه. وسأحرص على ذلك.”
وحين همّ بالاستدارة مبتعداً، قبضت أنجيلا على ذراعه بكل ما تملك من قوة، وهي تعلم أن قبضتها لا تساوي ربع قبضته عليها.
“هذا جنون! كيف يمكن أن يُحكم على كاليان بالموت من أجل أمر تافه كهذا؟!”
“أمر تافه؟”
صوته ارتجف ببرودة قاتلة. ثم دفع يدها جانباً وقال بوضوح صارم:
“لقد عصى كاليان مرسوم الإمبراطور، وسبّب بخيانته خسائر بين المدنيين. أتسمّين ذلك أمراً تافهاً؟ آه، لأنه أنقذ حياتك، فلا بأس أن تُزهق أرواح غيرك؟ لقد أخفق في أداء واجبه كمستشار للإمبراطور. أليست هذه أوضح الأسباب لقطع رأسه؟ ولهذا يُقال عنه: نبيل حقير من أصل مرتزق.”
“لا تقل هذا عن كاليان! لا تجرؤ على ذِكر كاليان بتلك الطريقة!”
“ولم لا؟ ألم تكن هذه كلماتك أنتِ دوماً؟”
لم يكن مخطئاً. كانت هي من اعتادت على التلويح بأصله الدنيء. لم يكن ذلك لأنها حقاً رأت فيه نقصاً، بل لأنها شعرت بالغيظ وهو يلتفت إلى إيفون وبياتريس ويهملها. لم تكن تدرك أن كلماتها ستعود لتطعنها بهذا الشكل.
“آه… نعم. كيف نسيت؟ لا يمكنني أن أزوّج ابنتي الثمينة لمثل ذاك الرجل الحقير.”
قالها بلامبالاة، بينما شعرت أنجيلا وكأنها تموت وهي واقفة. نظرت إليه بعينين مغرورقتين بالدمع، لكن نظراتها لم تغيّر شيئاً في صلابته.
“أرجوك… امنحني وقتاً لأفكر.”
كان هذا أفضل ما استطاعت قوله. لكنه ردّ وكأنه يعرف مسبقاً النتيجة:
“لن يغيّر الوقت شيئاً، لكن حسناً. سأمنحك هذه الرحمة. حتى الغد. غداً عليك أن تختاري. وإن لم تختاري… فسأريك كيف يمكن لمجرد قماش وماء أن يحطما جسداً وروحاً.”
كلماته أشعلت في عقلها صورة مروعة: قماشة رقيقة على وجه كاليان، والماء يتدفق بغزارة، وهو يختنق متعذباً. لمجرد تخيل ذلك، ارتجفت أطرافها.
فما معنى يومٍ إضافي كخطيبة لكاليان؟ لا شيء. ومع ذلك، تمسكت بذلك اليوم بكل قوتها وهي تغادر مكتب دومينيك.
—
حين عادت إلى غرفتها، ارتمت على السرير. أن يهدد دومينيك بقطع رأس كاليان؟ لم تستطع تصديق ذلك.
كانت تعرف منذ طفولتها أن أباها يكرهها، بل يبغضها. لكن لماذا إلى هذه الدرجة؟ لم تجد تفسيراً.
هل يمكن أن تكون إيفون، تلك التي كانت تنظف غرفتها يومياً أثناء غيابها، قد ذهبت إليه من وراء ظهرها لتطلب منه فسخ الخطوبة؟
رفعت ذراعها لتغطي عينيها. جفونها تحترق، لكنها رفضت البكاء. كاليان لا يعرف كيف يواسي امرأة تبكي، ولهذا أقسمت ألا تبكي.
بدلاً من ذلك، أطلقت تنهيدة حارة. الحرارة التي اندفعت من صدرها كانت غريبة، كأنها تتسلل إلى جسدها كله. هل كانت قد أنهكت ساقيها أكثر من اللازم؟ أم أرهقت قلبها بالمشاعر؟ شعرت بالحمى تزحف عليها.
“ما….”
كادت تنادي “ماري”، ثم تذكرت أن لا أحد سيهرع إليها هنا. ظلت ممددة، تتحمل حرارة جسدها المتوهج.
ثم—
تك، تك.
تك-تك.
صوت قادم من النافذة. يشبه طرقاً خفيفاً. لكنها في الطابق الثاني. حتماً عصفور يضرب الزجاج بمنقاره.
تك، تك.
لكن الصوت لم يتوقف.
في النهاية نهضت بخطوات مثقلة واقتربت من النافذة، مستعدة لطرد الطائر العنيد.
لكنها كادت أن تُغمى عليها. لم يكن هناك طائر، بل ظل ضخم يقف عند شرفة النافذة.
أسرعت بفتح الزجاج، وسحبت ذلك الظل إلى الداخل دفعة واحدة.
“هل جننت؟!”
أغلقت أنجيلا النافذة بعصبية ثم صاحت.
الذي كان يبتسم ابتسامة ماكرة لم يكن سوى تريستان.
منذ حادثة الاختطاف، كان تريستان يقيم في قصر فلورانس. قيل إن بينه وبين كاليان صلة وثيقة، ويبدو أن ذلك لم يكن مجرد ادعاء، إذ اختار كاليان أن يكون مسكنه بطبيعية في داره.
لكن أنجيلا لم تتوقف عن التساؤل:
لماذا تظاهر بالعجز؟
ولماذا عاش كواحد من عصابة الخاطفين؟
ولماذا تكشف حركاته بوضوح عن أثر تدريب فارس؟
ولأنه لم يُجبها يوماً بصدق عن أيٍّ من تلك الأسئلة، لم تفهم على أي أساس وثق به كاليان وأدخله القصر. فنظرت إليه بحدة، لكن تريستان أسكتها بجملة واحدة:
“لقد أنقذ حياتك.”
ومنذ ذلك الحين، كانت تصادفه بين الحين والآخر في قصر فلورانس، مستمتعاً بالراحة واللعب، لكنها لم تتوقع أن تجده أمامها الآن، هابطاً من النافذة.
“بأي عقل يتبادر لك أن تدخل من النافذة؟!”
انفجرت أنجيلا غاضبة.
“أحضرت أخباراً عن كاليان.”
كان جواب تريستان، مصحوباً بابتسامة بريئة توحي بالبراءة، كافياً ليغلق فمها في الحال.
أخبار عن كاليان…! ذلك ما كانت تتلهف إليه حتى أنها لو استطاعت لركضت بنفسها إلى سجون القصر الإمبراطوري. لكنها كانت تعلم: لا ضمان أن يُسمح لها برؤيته، وحتى لو سُمح لها، فما كانت سوى السبب في مأساته. زيارتها لن تجلب له إلا مزيداً من الضرر.
“قلت لك إنك جميلة.”
قالها تريستان وهو يتأمل رد فعلها، كأن حزنها يزيد متعته. أما هي فلم يكن في قلبها متسع لابتسامة، فاندفعت تكاد تأمره بأن يكشف ما جاء لأجله.
“هو بخير، يعتني بنفسه.”
قالها فجأة، من دون تمهيد. وفهمت أنجيلا فوراً أن تلك الكلمات القليلة لم تكن منه، بل رسالة من كاليان نفسه. ارتجفت نظراتها كما تهتز الأمواج تحت العاصفة.
“لم يُطل الحديث. قال لي أن أنقلها إليك هكذا، بالحرف.”
أكان ذلك وصيةً؟ مجرّد سماعها جعل أنجيلا تعضّ شفتيها كي لا تنفجر بالبكاء. اقترب تريستان يحاول أن يخفف عنها مازحاً:
“لا تعضي شفتك الجميلة.”
لكن أي عزاء يخفف ألمها؟ كلمات كاليان القليلة جعلتها تدرك بوضوح أنّها ستضطر إلى الانصياع لأوامر دومينيك. لا يمكن أن تترك كاليان في السجن. السجن لم يُخلق لرجل مثله. والتعذيب… التعذيب لا يجرؤ أن يلمسه.
“أعطيك شيئاً؟”
قالها تريستان، وهو يمد يده إليها. كان يحمل قلادة فضية صغيرة.
رفعت أنجيلا نظرها إليه متسائلة، فأجاب بابتسامة واثقة:
“إنه بديل عن كاليان.”
ثم دس القلادة في كفها بالقوة.
“بديل عن كاليان؟”
تأملت القلادة في يدها. بدت مألوفة على نحو غريب، كأنها رأتها من قبل. هل رآها عنده فعلاً؟ لكن سرعان ما جاءه الشرح:
“منذ أن انضم إلى فرقة المرتزقة وهو يحتفظ بها. واضح، أليس كذلك؟ ذكرى تركها له والداه. كان يظن أنه سيعثر عليهما بها يوماً. لكنه حين ترك الفرقة أعطاني إياها. قال: حين تحتاج أن تجدني، استخدمها. أرأيت كم كنا قريبين؟ لدينا حتى دليل على صداقتنا.”
حاول أن يرفع معنوياتها بصوته المشرق، لكن أنجيلا لم ترفع عينيها عن القلادة. وجهها يزداد جدية، لأنها شعرت بحدس قوي أنها تعرف هذا الشكل جيداً.
“أردت أن أعيدها له لاحقاً، لكنه رفض. قال إنه لم يعد يحتاجها. لعلّه تخلّى عن فكرة العثور على والديه. ومن ثم أصبحت ملكي. لكني أريد أن أعطيها لك. سيُسعده أكثر أن تكون معك بدلاً مني.”
ابتسم بصدق، وأضاف بنبرة خفيفة:
“فلتكن هذه ما يشدّ عزيمتك.”
ظلّت تحدّق في القلادة طويلاً، ثم رفعت رأسها فجأة قبل أن يرحل، تستوقفه برجاء:
“إن صادفته ثانية… قل له إني بخير. إني ما زلت بصحة جيدة. أرجوك.”
توقف تريستان، واستدار إليها. ثم مد يده فجأة ووضع كفه على جبينها. كان ساخناً، حاراً على نحو يفضح مرضها. لا يمكن لأحد أن يظنها بخير.
“ولِمَ تطلبين مني أن أكذب؟”
قطّب وجهه، خالياً من ضحكته المعتادة.
“أرجوك، افعل.”
تمسكت برجائها، ففاجأها بحمله لها بين ذراعيه. وضعها بعناية في السرير، ثم سحب الغطاء حتى غطى جسدها من رأسها إلى أخمص قدميها.
“كفى جمالاً لهذا اليوم. نامي باكراً. وغداً، كلي جيداً وجميلاً. عندها فقط، سأكذب على كاليان وأقول إنك بخير.”
أرفق كلامه بشرط صارم، ثم مدّ أصبعه الصغير نحوها. لم تستطع إلا أن تمد أصبعها الصغير أيضاً، فانعقد بينهما وعد طفولي.
بقي تريستان جالساً قربها لبعض الوقت قبل أن يغادر. تظاهرت أنجيلا بالنوم، تنفسها هادئ ومنتظم. لكن حين سمعت وقع خطواته يغادر، جلست على السرير.
كانت تدرك أنها لن تقدر على الوفاء بذلك الوعد. وربما وجب عليها الاعتذار لإصبعها الصغير. لأن سعادتها لا تساوي شيئاً أمام سلامة كاليان.
لكن كي يظل كاليان آمناً، وجب عليها أن تخسره.
تأملت في تلك الحقيقة المريرة… ولاحت لها الحياة خالية من أي طريقة يمكن أن تُسمّى “حياة بخير”.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 43"