رددت أنجيلا بذهول، وملامحها تشحب شيئًا فشيئًا. عندها أخذت جاين تروي، بلا أن تحذف أو تزيد، ما رأته للتوّ.
“سيُحاكم لمخالفته الأوامر الإمبراطورية وخروجه من ساحة العمليات. رأيت بأم عيني حرس الإمبراطور يقتادونه.”
“متى… كاليان…”
لم تصدق أنجيلا الأمر في البداية، لكن سرعان ما انقدحت في ذهنها صورة واحدة.
نعم، يوم اختُطفت. كان كاليان آنذاك في مهمة استطلاع بغرب فيليون. ولو أنه عدل مساره بمجرد سماع خبر اختطافها، فهذا يعني أنه ترك موقعه مخالفًا أوامر الإمبراطور. في عرف الإمبراطورية، لا شيء يعلو على الأوامر، حتى لو تعلق الأمر بخطيبة مختطفة.
صحيح أن ترُوغا، إمبراطور فيليون، كان يجلّ كاليان كثيرًا، بل وقد سماه في مناسبة “السيف الأعظم الذي يحمي الإمبراطورية.” لكن… كيف يمكن أن يقسو عليه هكذا؟
قالت جاين بصوت خافت، وكأنها تزيد الطعنة عمقًا:
“يبدو أن في غيابه وقعت خسائر في الأرواح.”
أجل، كما توقعت. كتمت أنجيلا أنفاسها الساخنة، وداخل صدرها غليان.
قالت أنيت، وهي تنظر إليها بأسى:
“أخشى أن هذا أمر لا أملك مساعدتك فيه.”
لم تستطع أنجيلا الرد، لكنها عرفت أن كلامها صحيح. فلو كان الإمبراطور يحبّ زوجته الإمبراطورة ربما، لكن… بين أنجيلا وترُوغا لم يكن هناك خيط أمل يُتّكل عليه.
إذن من… من بوسعه أن يخلّص كاليان؟
“يجب أن أذهب. أرجوكِ اعتني بماري.”
“لا تقلقي بشأنها. فكري فقط في مسألة الكونت فلورانس.”
تركت وراءها كلمات العزاء تلك، وسارت مترنحة نحو حيث تنتظر العربة. وجه واحد وحده كان يتوهج في ذهنها.
ذلك الرجل الذي يملك في فيليون ما يوازي سلطان الإمبراطور نفسه. الرجل الذي لم يمنحها ذرة حب، لكنه الوحيد الذي تُدين له بأنها التقت كاليان. نعم، والدها، دومينيك بيلتون. ولو كان الآن في أرض المعركة، لذهبت حتى هناك لتجده.
“تحقيق” يسمونه، لكنه في الحقيقة تعذيب. فالإمبراطور وجنده الخاص لا يتساهلون أبدًا فيما يخص خرق الأوامر الإمبراطورية. لا رحمة هناك.
لينتزعوا أظافري أنا، لا أظافر كاليان. لم تستطع أنجيلا أن تتصور وقوع ذلك به.
ما كاد ينقضي وقت طويل منذ رأت ماري خلف قضبان السجن، وها هو كاليان مهدد بالمصير نفسه. مجرد التفكير أنها ستراه يُعذّب كان يكاد يكسرها.
«كنت أفكر، وأنا أبحث عنك، أن آخر ما بيننا لم يكن صراخًا وسوء فهم… هذا كان لِحسن حظنا. لذلك، لن أخفي مشاعري بعد الآن. سأعبّر عنها كثيرًا.»
«وأنا… سأفعل ذلك أيضًا.»
تذكرت اعترافه الأخير بالحب. شعرت بحرقة في صدرها. كم آذته بكلماتها وأفعالها من قبل! لم تعد تريد إلا أن يتبادلا الحنان، لا الألم. ولن تسمح حتى للإمبراطور أن ينتزع ذلك منهما.
مضت تخطو في الرواق بخطوات متعثرة، خطوات قد يراها الآخرون مثيرة للشفقة، لكنها لم تتوقف. وحين بلغت مدخل القصر حيث تنتظر العربة، دوّى الصوت.
دُك… دُك… دُك…
الأرض كلها اهتزت تحت قدميها. رفعت بصرها.
ثم “فلووب!”، صرير الأعلام وهي تخفق. رأتها—راية فيليون الإمبراطورية ترتفع عالية، تعلو صفوفًا متراصة من الجنود يدخلون القصر. مشيتهم واحدة كأنهم جسد واحد. لم يكن على وجوههم ابتهاج النصر، ولا نشوة العودة. فقط ثبات صارم، وكأنهم جاؤوا بما هو من حقهم لا أكثر.
وفي قلب ذلك الموكب، كان هو. الرجل الذي طالما أرادت أن تراه في هذه اللحظة بالذات.
الوجه الصارم الذي نحتت فيه السنين بعض الخطوط، لكنه لا يزال ينبض بقوة شاب. عيناه القرمزيتان تلمعان كأن شمس الظهيرة قد غُرست فيهما. رداؤه يتمايل مع الريح القاسية، مهيبًا كراية الإمبراطورية نفسها.
دومينيك بيلتون.
رب بيت بيلتون، وأبوها.
حبست أنجيلا أنفاسها وهي تتابع خطواته. للحظة التقت عيناهما في الفراغ.
تصلبت أنجيلا مكانها، بينما هو فعل ما يفعله دائمًا—أدار بصره بعيدًا عنها. تجاهلها كما لو كانت عشبة ضارة على الطريق، أو كما لو لم يكن ثَمّ أحد أصلًا. ومضى داخل القصر.
وقفت هناك طويلاً، عاجزة عن الحركة. رفعت يدها إلى صدرها، إلى الموضع ذاته الذي كاد يقتلها ألمُه من قبل، الموضع الذي أزرق من شدّة الضربات، الموضع الذي آلم كاليان مرارًا.
—
حين عادت أنجيلا إلى قصر بيلتون، بعد زمن طويل من الغياب، بدا الخدم وكأنهم رأوا شبحًا.
ضايقها رد فعلهم، لكنها لم تملك الطاقة لتوبخ أو تعلق. تجاوزتهم بخطوات مثقلة، متجهة إلى جناحها.
بدأت تصعد الدرج بعرجها المؤلم. لم تكن تدرك مدى صعوبة الأمر حتى الآن، لأن كاليان كان يحملها دائمًا. لو كانت ماري هنا، لكانت تصرّ أن تحملني على ظهرها، تلك الصغيرة المتهورة.
وهي غارقة في خواطرها، سمعت صوتًا متردّدًا بجوارها:
“آنستي… هل أساعدكِ؟”
التفتت، لتجدها—ريتا.
“أتفعلين؟”
غريبة… أهي بسبب علاج أبيها الذي دفعت تكاليفه؟ أم ماذا؟ لم تعلم، لكن المساعدة كانت ضرورية. فوافقت.
ارتبكت ريتا أكثر مما توقعت:
“ن-نعم! بالطبع!”
كانت خرقاء، لكن كتفها سندها بما يكفي لتخفيف عبء الصعود. رفضت أن تواصل مرافقتها حتى الغرفة. عندها، كمن اجتاحها دافع غريب، قالت ريتا من خلفها:
“إن احتجتِ شيئًا، ابحثي عني.”
لم ترد أنجيلا، واكتفت بمواصلة السير. لكنها توقفت فجأة عند عتبة غرفتها.
لأن ثمة من لم يكن ينبغي أن يوجد هناك—وكان موجودًا.
“ماذا تفعلين في غرفة ليست لكِ؟”
جلست إيفون على حافة السرير، وحين فوجئت بدخول أنجيلا، تجمّدت ملامحها ثم نهضت مذعورة.
قالتها إيفون وكأنها تفعل ذلك كل يوم، وكأنها بالفعل اعتادت أن تبدّل أغطية سريرها الغائب. لكن أنجيلا لم تصدقها.
“لم أعلم أنكِ بارعة إلى هذا الحد في الكذب.”
نطقت أنجيلا بحسم. أرادت إيفون أن ترد، فتحت فمها… ثم أطبقته من جديد. كان هذا رد الفعل الصحيح. فهي التي مزقت علاقتها بكاليان بالأكاذيب، فلا يحق لها أن تحتج الآن على كلمة “كذب.”
“اخرجي.”
قالتها ببرود، متجهة نحو الأريكة. التفتت إيفون بارتباك، مدت يدًا ثم سحبتها، كأنها لا تعرف ماذا تفعل.
عادت أنجيلا تنظر إليها:
“ما الأمر؟ هل تفاجأتِ بعودتي حية، حتى صرتِ… سعيدة برؤيتي؟”
ارتبكت ملامح إيفون، واحمر وجهها. ذلك الارتباك أثار في أنجيلا بدورها رجفة غريبة. كم هو سخيف… بعد أن حسمتُ أن لا شيء يمكن أن يكون بيننا بعد الآن.
“اخرجي. أريد أن أبقى وحدي.”
تعمّدت أنجيلا أن تقولها ببرود قاطع. لم تجد إيفون بُدًّا من الخروج، فغادرت الغرفة، ولمّا أُغلق الباب خلفها استطاعت أنجيلا أخيرًا أن تستسلم للجلوس على الأريكة.
لكن الأريكة لم تمنحها الراحة؛ إذ تسرّب منها عطر لطيف لم تدعها رائحته تستكين. لا شك أنه من صنع إيفون. إلى أي غرض ترمي؟ تمتمت ساخطًة وهي تنقر بلسانها، ثم دفعت بنفسها بصعوبة إلى إبعاد الفكرة عن ذهنها.
ما يهمّ الآن أن كاليان في السجن. أمّا إيفون… فما شأنها بها؟
قررت أن تنتظر عودة دومينيك. متى رجع، ستفتح معه أمر كاليان. أجل، حتى وإن كان يتصرّف معها كما لو كانت محض شبح، إلا أنّها تعلم أنّه أحبّ كاليان على نحو خاص. بل بلغها أنّه في لحظات قليلة سمح لنفسه أن يتمنى لو كان كاليان وريثه. إن كان الأمر متعلقًا به، فلربما مدّ له يد العون. وربما يكون قد سمع الخبر في القصر، وبدأ بالفعل في اتخاذ التدابير.
تمنّت من قلبها أن يكون الأمر كذلك، وظلّت تنظر بلهفة إلى النافذة، مترقبة مرور الساعات.
عاد دومينيك إلى قصر بيلتون بعد منتصف الليل بقليل، لعلّه تأخر بسبب مأدبة في القصر. تفاجأ الخدم بقدومه المفاجئ، فسارعوا لترتيب استقباله. لكنه أشار لهم أن ينصرفوا إلى غرفهم ليستريحوا، بحجة أنّهم منهكون.
في مثل هذه اللحظات كان يبدو وكأنه ليس قاسيًا تمامًا… لكن معها هي بالذات؟ لا، معها وحدها لا يعرف غير الجفاء.
ابتلعت أنجيلا ريقها وهي تراه يصعد الدرج، فحيّته. كالعادة، تظاهر دومينيك بأنه لم يرها ومضى.
“أبي.”
نادت بسرعة، فكان ذلك كافيًا ليوقف خطاه، وليرفع عينيه نحوها.
أيُحدّق في خصومه هكذا؟ نظرته إليها كانت كسيف مسلول على وشك أن يغرس في صدر عدو. تماسكت أنجيلا تحت حدّ بصره، وقالت بهدوء:
“عندي ما أودّ قوله.”
“أنا متعب.”
كانت كلمة أخرى لـ لا أريد سماعك.
ومع ذلك، لم تستسلم. تقدمت مترنحة خطوة نحوه. رأت في طرف عينه ظلّ ابتسامة ساخرة من عرجها، كأنه يسخر خفية من ضعفها. فليضحك كما يشاء، ما دام يسمعني.
“لا بد أن يكون الآن. الأمر مهم.”
زفر دومينيك، وتفشى من فمه عبق الخمر، ثم أدار ظهره وقال:
“اتبعيني.”
سار بخطواته الطويلة بلا التفات، وهي تتبعه. لم يكن هذا غريبًا؛ كم من مرة، وهي طفلة، حاولت الهروب إليه من قسوة غريس، فيصدّها ببصر قاسٍ، ويتركها خلفه بخطوات أوسع من أن يلحقها بها جسد صغير.
تابع نحو الطابق الثالث، وأنجيلا تسحب ساقها المثقلة وراءه. ارتجفت ركبتها من الإجهاد، لكنها لم تسمح لنفسها بالتخلّف. وصلت أخيرًا إلى مكتبه.
لم يكن المكتب يُستعمل كثيرًا؛ دومينيك يقضي جلّ وقته خارج القصر. لكن الخدم ظلّوا يعتنون به، فكان لامعًا، كأنه مأهول كل يوم.
جلس دومينيك خلف مكتبه من دون أن يشير لها بالجلوس، تاركًا لها أن تفهم أنها يجب أن تبقى واقفة أمامه. وقفت، بينما ارتجاف ساقها يزداد ثِقلاً.
قال ببرود، صوته مشوب بغلظة العائد من ساحة المعركة:
“هيا. ما الأمر الخطير الذي يحرم رجلاً خرج من الحرب لتوّه من راحته؟”
أجابت بسؤال مضاد:
“أما سمعتَ ما جرى لكاليان في القصر؟”
“سمعت أنه أُودع السجن لأنه خالف الأمر الإمبراطوري.”
كأنها لا تعني شيئًا، نُطقت الكلمات بلامبالاة. انقبض صدر أنجيلا، وتشبثت بآخر خيط أمل.
“أتتركه هكذا؟”
قال بنبرة حاسمة:
“من يرتكب جرمًا ينل عقابه. الفارس الذي يترك ساحة مهمته بغير إذن يرتكب خيانة عظمى. أهذا ما استوقفْتني من أجله؟”
أهذا ما استوقفْتني من أجله…
كلمة “تافه” التصقت بأذنها.
قالت بصوت مرتجف:
“لكنك تحبّه.”
ضحك ضحكة خافتة، تخرج منه كأنها زفرة تسخر من رجائها. وفي سمع أنجيلا، بدا صوته أشبه بارتطام آخر أمل يُكسر.
“الذي أحببته هو كاليان الذي يحمل للإمبراطورية بشائر النصر، لا الأحمق الذي أغوته امرأة ففرّط حتى في طاعة الأوامر.”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 42"