وصلت أنجيلا، برفقة الحارس، إلى أعمق وأظلم زاوية في سجن قصر بيلتون. كان الهواء هناك مشبعًا ببرودة جليدية تنبعث من الأرض وكأنها تحاول إخضاع كل من تطأه قدماه.
هذا الجزء من السجن لم يكن يُفتح إلا لمن ارتكبوا أعظم الجرائم، مثل محاولة تسميم سيد القصر، حيث ينتظرون مصيرهم المحتوم بالإعدام.
رأت أنجيلا ماري ملقاة على الأرض، فاقدة الوعي، وكأن الحياة تسربت من جسدها في هذا المكان الموحش. شعرت بغصة عميقة، لكنها تماسكت وأمرت الحارس بنبرة صارمة:
“افتح الباب.”
لكن الحارس هز رأسه، مصرًا على رفض الطلب:
“لا يمكنني ذلك. هناك أوامر مشددة بعدم فتح الزنزانة دون إذن صريح.”
نظرت إليه أنجيلا بعينين متوهجتين، ممتلئتين بالغضب.
“أنا من يعطي الإذن هنا! افتح الباب فورًا!”
رغم حدتها ونيران الغضب التي بدت واضحة في عينيها، ظل الحارس ثابتًا، متمسكًا بأوامره.
“أعتذر، سيدتي. لا يمكنني مخالفة الأوامر مهما كان.”
فهمت أنجيلا أن الأوامر جاءت من شخص واحد فقط. شخص لم يترك مجالًا للرحمة. ضغطت شفتيها بعصبية ودفعت الحارس جانبًا، مغادرة السجن بخطوات غاضبة.
كانت وجهتها واضحة… غرفة إيفون.
“افتح الباب، الآن!”
دفعت الباب بقوة ودخلت الغرفة، لتجد إيفون جالسة على السرير بهدوء. لم تُظهر أي ردة فعل تدل على الذعر أو المفاجأة.
“أطلقي سراح ماري… الآن!”
نظرت إليها إيفون ببرود وهي تتكئ على السرير. لم تحرك ساكنًا، وكأن كلمات أنجيلا لم تصل إليها. بعد لحظة، قامت ببطء وارتدت رداءها الحريري بتأنٍ، متجاهلة تمامًا حالة الغضب التي كانت أنجيلا تعيشها.
اقتربت أنجيلا منها بخطوات غاضبة وقالت بصوت متقطع:
“ألم تخبرك بياتريس أن ما حدث بالأمس كان مجرد سوء تفاهم؟!”
نظرت إيفون إليها وهي تربط شريط الرداء بإحكام. كانت عيناها مليئتين بالهدوء، لكنها كانت تحملان شيئًا من السخرية.
“وإن كان مجرد سوء تفاهم… ما الذي يهم؟”
كان صوتها باردًا، يحمل في طياته برودة قاسية جعلت كلماتها تخترق أعماق أنجيلا.
“هل يغير ذلك شيئًا؟ هل يمحو ما فعلته بنا طوال تلك السنوات؟!”
صوتها ازداد حدة، وكانت كلماتها كالسياط:
“هل ثلاث صفعات على وجهك أصبحت كارثة كبرى؟!”
لم تتمالك أنجيلا نفسها. رفعت يديها بسرعة لتغلق فم إيفون بيديها المرتجفتين، محاولة أن تمنعها من قول المزيد.
“إيفون… لا تفعلي هذا. أرجوكِ.”
كان صوتها مليئًا بالرجاء، وعيونها تكاد تتوسل إليها أن تتوقف. لكنها، بدلًا من ذلك، أبعدت إيفون يدي أنجيلا بعنف وقالت:
“وماذا عنكِ؟! لا تجرؤي على الادعاء أنكِ المظلومة هنا.”
شعرت أنجيلا وكأنها تعيش كابوسًا. هذا لم يكن الشخص الذي عرفته يومًا.
في الماضي، كانت إيفون دائمًا الخاضعة، منقادة لما تمليه عليها غريس.
عندما كانت أنجيلا تبكي رافضة دخول الخزانة المظلمة، كانت إيفون تربت على ظهرها وتقول ببرود:
“إذا لم تدخلي، هل تعتقدين أن علينا معاقبة طفل آخر بدلاً منكِ؟ لا تكوني أنانية.”
ثم تدفعها إلى الداخل بإصرار، حتى وإن كان وجهها يحمل لمحة من الحزن.
وعندما كانت أنجيلا تجوع لمدة ثلاثة أيام وتتوسل للحصول على جرعة ماء، كان الرد دائمًا:…
“اصبري ليوم آخر فقط، لا يمكننا ترك بياتريس الصغيرة دون طعام. يمكنكِ التحمل، لقد فعلتِ ذلك من قبل، وستنجحين مرة أخرى.”
كانت إيفون تقول هذه الكلمات بينما تربت بحنان على رأس أنجيلا، وكأنها تمنحها القوة لتحمل المزيد.
وفي الأيام التي كانت تتلقى فيها أنجيلا الضرب بالعصا، كانت إيفون تعتني بجروحها قائلة:
“إذا وضعتِ هذا المرهم، سيلتئم الجرح دون أن يترك ندوبًا. لا تقلقي.”
كانت هذه هي إيفون. الشخص الذي اعتادت أن تكون إلى جانب أنجيلا، تهدئها وتواسيها، حتى في أحلك الظروف. لكن الآن… أنجيلا لم تعد تتعرف على هذا الجانب منها.
“إيفون، أنتِ…”
قبضت أنجيلا يدها بإحكام بعد أن دفعتها إيفون بعيدًا.
“كان عليكِ أن تبقي درعًا. أنتِ من اخترت أن تتحولي إلى سيفٍ يطعننا.”
كلماتها كانت مثل الخنجر. “سيف”…
تذكرت أنجيلا بوضوح اليوم الذي استخدمت فيه العنف لأول مرة ضد بياتريس.
في ذلك اليوم، كانت غريس في حالة عصبية أكثر من المعتاد، والسبب هو بياتريس التي أصبحت تشبه دومينيك أكثر فأكثر مع مرور الوقت. أما أنجيلا، فقد كانت مستنزفة تمامًا، متعبة من إساءات لا تنتهي.
لأول مرة، لم تجبر غريس إيفون على اتخاذ قرار. بدلاً من ذلك، أمسكت بشعر بياتريس الأحمر – الشعر الذي ورثته عن والدها – وبدأت في سحبها بقسوة.
“أحضري لي المقص!” صرخت غريس على خادمتها، مهددة بقص شعر بياتريس كعقاب.
رأت أنجيلا بياتريس الصغيرة تُسحب بعنف، لكنها لم تنبس ببنت شفة. لم تعد تشعر بالشفقة عليها كما في السابق. بل، وللحظة قصيرة، شعرت بالارتياح لأنها لم تكن هي الضحية هذه المرة.
لكن فجأة، قامت إيفون بخطوة غير متوقعة. أمسكَت بشعر أنجيلا الطويل وقالت بصوت واضح:
“سأقص شعر أنجيلا بدلاً من ذلك.”
ساد الصمت في المكان. حتى بياتريس الصغيرة توقفت عن البكاء، متجمدة في مكانها. كانت أنجيلا تحدق في إيفون بوجهٍ فاقد الحياة، غير قادرة على تصديق ما تسمعه.
إيفون لم تعد بحاجة إلى أوامر غريس لاتخاذ القرارات. لقد اختارت بنفسها هذه المرة.
ضحكت غريس بسعادة غامرة، بينما أطلقت شعر بياتريس من قبضتها واقتربت من إيفون.
“حسنًا، افعليها. قصي شعرها الآن!”
سلمت غريس المقص لإيفون، ووقفت تراقب المشهد برضا.
بدأت إيفون بقص شعر أنجيلا الطويل، الخصل الحريرية تتساقط على الأرض واحدة تلو الأخرى، بينما ظلت أنجيلا صامتة، مستسلمة تمامًا.
في ذلك اليوم، أمضت أنجيلا ساعات طويلة جالسة على الأرض، تحدق بصمت في خصل شعرها المقطوعة، وكأنها تحاول استيعاب ما حدث.
غريس لم تسمح لأنجيلا أن تُشيح بنظرها. أرادت منها أن تُدرك جيدًا ما الذي قُطع وأُزيل.
في تلك الليلة، جاءت إيفون إلى أنجيلا تحمل المقص، محاولة إصلاح الفوضى التي تسبب بها قص شعرها. لكن أنجيلا انتزعت المقص من يدها، وخرجت بسرعة في الممرات المظلمة، باحثة عن بياتريس.
لم يستغرق الأمر طويلًا قبل أن تتساقط خصلات شعر بياتريس القرمزي على الأرض، متناثرة بلا وجهة.
صرخت إيفون واحتضنت بياتريس بقوة، بينما أنجيلا، بعد أن رأت المشهد، ألقت المقص على الأرض وغادرت الغرفة دون أن تنظر إلى الخلف.
كان هذا هو البداية.
الدرع الذي كُسر بعد تلقيه الكثير من الضربات أصبح، دون قصد، حادًا كالسيف. تقول إيفون إنها سيف، لكن الحقيقة أن أنجيلا كانت مجرد شظية مكسورة من نفسها.
كانت أنجيلا تؤمن بأن إيفون تفهم هذا. ولعل هذا ما جعلها تعتقد أن بقاء إيفون بجانبها، حتى بعد رحيل غريس واعتراف بياتريس رسميًا كابنة لدوق بيلتون، كان بسبب تلك الفهم.
لهذا السبب، توقفت أنجيلا عن إيذاء بياتريس، وكأنها تسدد دينًا غير مُعلن.
لكن العودة إلى الأيام الماضية، حيث لم يكن بينهما شيء سوى البساطة، كان أمرًا مستحيلًا.
أنجيلا، بسبب وجود إيفون وبياتريس، أصبحت مكروهة من الجميع في قصر بيلتون، وتعرضت للوم من الشخص الذي أحبته، بل وحتى في أحلامها كانت تواجه الإهانة.
في المقابل، إيفون لن تستطيع نسيان ما فعلته أنجيلا ببياتريس مهما حدث.
ورغم ذلك، كانت أنجيلا تملك، في أعماقها، أملًا هشًا. أملًا بأن تجمع تلك القطع المحطمة معًا يومًا ما، وتتصرف وكأنها لم تنكسر أبدًا.
لكن إيفون حطمت هذا الأمل بلا رحمة.
“إذا أردتِ رؤية تلك الخادمة مرة أخرى، فلتنحني على ركبتيكِ. اعتذري بصدق.”
إيفون، بكلماتها، سحقت ما تبقى من الشظايا تحت قدميها، محولة إياها إلى غبار.
تحت وطأة هذا الانهيار، انحنت أنجيلا على ركبتيها أمام إيفون، وكأن كتفيها يحملان عبء سنوات من الانكسار.
لم يعد بالإمكان أن تكون بينهما أي رابطة.
عندما أدركت ذلك، أصبحت تصرفاتها أسهل.
أنجيلا، التي عاشت طويلًا مع دوقة بيلتون، تعلمت جيدًا كيف تتعامل.
حتى أمام هذا التحكم البارد بكلماتها، ظلت أنجيلا متماسكة.
“لقد تجرأت وأذيت بياتريس. ضربتها، وسببت لها الألم، وجعلتها تبكي.”
لم تكن سوى لعبة سهلة التحكم، تُدار كيفما شاؤوا.
“لن أكرر ذلك أبدًا. لقد كنت مخطئة.”
كتمت شموخها المزعوم، وخفضت جسدها أكثر.
“أرجوكِ، سامحيني.”
كانت تنطق بكل ما يريدون سماعه.
لقد كانت جميع هذه الأمور مألوفة لها، فقد مرت بها سابقًا. لم يكن في ذلك أي شيء صعب.
“حسنًا.”
إيفون جلست على مستوى أنجيلا، كما لو كانت تهدئ طفلاً صغيراً، ثم مدت يدها لتربت بلطف على رأسها وكأنها تثني على تصرفها.
“أحسنتِ.”
أنجيلا أغمضت عينيها قليلًا، تخفي ما كان يشتعل فيهما من غضبٍ ونقمةٍ خلف رموشها التي انخفضت لتغطي نظراتها.
“والآن، توجهي إلى بياتريس واطلبي منها المغفرة.”
حتى عندما جاءتها إيفون بمطلبٍ مذلٍّ كهذا، بقيت أنجيلا متماسكة، صامدة دون أن تنبس بكلمة.
“إذا قررت بياتريس أن تغفر لكِ، سأسمح بإطلاق سراح خادمتك.”
هذه اللحظة لم تكن أصعب مما واجهته أنجيلا في ماضيها. بل على العكس، فقد مرّت بمواقف أكثر إذلالًا وأشد قسوة عندما كانت أصغر سنًا. لذا، فإن احتمال هذا الموقف كان أمرًا اعتادت عليه.
“هيا، توجهي إليها الآن واطلبي المغفرة.”
رغم كل الإهانة، استجمعت أنجيلا قواها. كان هذا مجرد امتحان آخر عليها اجتيازه، مثل كل ما سبق.
في حديقة المنزل الباردة، التي كانت الرياح القاسية تُنبئ فيها بقرب حلول الشتاء، كانت بياتريس تتجول. بدا على ملامحها بعض الكآبة وهي تسير بخطوات متثاقلة بين الأزهار الذابلة. فجأة، ظهرت أنجيلا وهي تمشي بخطوات سريعة نحوها، وكأنها في مهمة لا تحتمل التأخير.
رؤية هذه الخطوات المندفعة أثارت قلق وصيفة بياتريس العجوز، التي أسرعت لتقف حائلًا بين أنجيلا وبياتريس، وكأنها تحمي سيدتها من مهاجمة وشيكة.
بياتريس نفسها، وقد أخذها الخوف، تراجعت بضع خطوات إلى الخلف، وظهرت على ملامحها علامات الذعر، ربما معتقدة أن أنجيلا جاءت لتكرر ما فعلته في اليوم السابق عندما صفعتها.
لكن كل التوقعات انهارت حين جثت أنجيلا فجأة على ركبتيها أمام بياتريس. بياتريس والوصيفة العجوز تجمدتا في مكانيهما، غير قادرتين على التصديق.
زحفت أنجيلا خطوة أخرى على ركبتيها نحو بياتريس، في مشهد بدا وكأنه استجداء مذل، جعل الوصيفة العجوز تصعق وتضع يدها على فمها بدهشة.
أنجيلا تجاهلت تلك النظرات، ورفعت رأسها قليلًا لتلتقي بعيني بياتريس.
كانت الدموع تتراقص في عيني بياتريس الشابة، وكأنها على وشك الانفجار بالبكاء. لكن أنجيلا، التي كانت تعلم أن إثارة دموعها الآن سيكون خطأً فادحًا، سارعت إلى الانحناء أكثر وأخذت الكلام.
“بياتريس، كنت مخطئة. لقد أخطأت بحقك.”
كان الصمت الذي أعقب كلماتها عميقًا ومخيفًا. بدا وكأن العالم توقف عن الحركة، حتى الرياح الباردة التي كانت تجتاح الحديقة خفتت وكأنها تتنصت. واصلت أنجيلا حديثها وكأنها تعترف بأخطائها أمام قاضٍ في محكمة.
“أعتذر عن إيذائك. أعتذر عن كل لحظة جعلتكِ تبكين. أعتذر عن الجروح التي سببتها، وعن الضرب الذي نالك مني. أعدكِ بأن هذا لن يحدث مجددًا. أعلم أن الأمر قد يبدو غير قابل للتصديق، ولكن صدقيني، لن أؤذيكِ بعد الآن. أرجوكِ، سامحيني يا بياتريس. هذه هي فرصتي الأخيرة، أتوسل إليكِ.”
كانت رأس أنجيلا منخفضة بشدة، وشعرها الطويل قد تفرق على الأرض، في مشهد يوحي بالانكسار التام. كانت تحاول بكل طريقة أن تبدو وكأنها أقل تهديدًا، وأن تظهر لبياتريس أنها أصبحت كائنًا لا حول له ولا قوة.
لكن بياتريس، التي كانت تنظر إليها بصمت، لم تبدِ أي رد فعل.
شعور الفضول تملك أنجيلا؛ أرادت أن ترفع رأسها لترى تعابير وجه بياتريس، لتعرف ما إذا كانت كلماتها قد أحدثت تأثيرًا. لكن الخوف من أن تظهر اعتذارها على أنه غير صادق منعها من ذلك.
في الوقت ذاته، كانت أنجيلا متأكدة أن إيفون تراقب المشهد من نافذتها، تطل عليها من علو كالسيدة المسيطرة، تتربص بأي حركة غير متقنة تقوم بها أنجيلا.
عادت أنجيلا بذاكرتها إلى صورة ماري الصغيرة وهي ملقاة وحيدة في الزنزانة الباردة. استجمعت شجاعتها وارتفع صوتها مجددًا، مليئًا بالرجاء واليأس.
“أرجوكِ، بياتريس. سامحيني.”
أخذت نفسًا عميقًا، محاولة كبح دموعها التي كادت تغلبها. كانت تدرك أن ماري الصغيرة، تلك الخادمة البريئة التي لطالما جعلتها تشعر بالضعف والرغبة في حمايتها، هي السبب الوحيد الذي يدفعها لتحمل كل هذا الإذلال الآن.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "027"