ما زالت نظرات كاليان مركزة على التقرير الذي كان يكتبه دون أن تزيغ عنه لحظة.
“أنت بالكاد تتيح لي رؤيتك بما يكفي. يجب أن أنظر إليك قدر ما أستطيع عندما تتاح الفرصة.”
عندها فقط رفع كاليان رأسه لينظر إلى أنجيلا. كانت كلمات أنجيلا صحيحة؛ لم تتح لهما الكثير من الفرص للنظر إلى بعضهما. وفي الحقيقة، كان كاليان هو من حرمها تلك الفرص. إذ كانت أنجيلا، بالنسبة له، امرأة تُثير غضبه حين ينظر إليها، ولكنها في الوقت نفسه تُثير في قلبه مشاعر عميقة بالحنين، حتى إنه كان يرى أن الأفضل له ألا ينظر إليها أبدًا.
كان هذا اللقاء، حيث لا تصادم بين مشاعرهما، نادرًا للغاية. لذا، لم يُبعد كاليان نظره عن أنجيلا، كما لو كان يتبع نصيحتها وينظر إليها قدر ما يشاء. في المقابل، كانت أنجيلا أيضًا تُمعن النظر فيه وكأنها تحاول أن تملأ عينيها بملامحه.
“كاليان، لقد زرت أماكن بعيدة جدًّا، تتجاوز فايلون، أليس كذلك؟”
شعر كاليان بالفضول لمعرفة ما الذي تنوي قوله. فوضع قلمه جانبًا وأصغى لصوتها. وكأنها تجاوبت معه، أغلقت أنجيلا الكتاب الذي كانت تحمله بشكل زينة، ووضعته على ركبتيها.
“ألم تكن هناك أي امرأة أخرى؟”
رفع كاليان حاجبيه بدهشة، وكأنه لم يصدق ما سمعه. لكن أنجيلا استمرت بالكلام.
“ربما صادفت امرأة واحدة على الأقل نالت إعجابك؟ أميرة من بلد مجاور؟ أو نبيلة من مكان ما؟ أو فتاة عادية أنقذتها؟ ألم يكن هناك أي واحدة؟”
“لم يكن هناك أي واحدة على الإطلاق. لماذا تسألين هذا فجأة؟”
سألها كاليان بينما كان يضم ذراعيه مستندًا بظهره إلى الكرسي.
“سمعت أن هناك الكثير من النساء أُعجبن بك. حتى أن بعضهن أرسل لك رسائل من بلدان بعيدة. لا تقلق، لن أوبخك. كن صريحًا.”
أجابها كاليان بتذمر، إذ كان يفكر في الحديث غير المفيد الذي تبادله الخدم أثناء خدمة الاستحمام.
“ما يشعرن به لا علاقة له بي. هل تحاولين أن تصوريني كرجل يخون خطيبته؟”
“وهل النبلاء الذين يفعلون ذلك قلة؟ والدي نفسه خان والدتي.”
عندما ألقت أنجيلا بهذه الجملة فجأة، مرر كاليان أصابعه على جبينه. كان يأمل على الأقل أن يمنعها هذا اليوم من استحضار أي ذكريات متعلقة بإيفون. بحث كاليان في ذهنه عن موضوع آخر يحوّل مجرى الحديث.
“عندما تقولين إنك لن تعاقبيني، فهذا أمر يصعب تصديقه.”
لم يكن الموضوع الذي اختاره جيدًا، لكنه طرحه رغم ذلك. ومع ذلك، حصل كاليان على إجابة صريحة ومباشرة من أنجيلا، بغض النظر عن ندمه.
“لماذا؟ هل يؤلمك طرد تلك الخادمة في ذلك الحين؟”
“تلك الخادمة”. كانت هي التي طُردت من قصر بيلتون بعد أن ضربتها أنجيلا بعنف حتى تمزق ظاهر يدها، وكان السبب هو أنها تجرأت على الإمساك بكاليان لمنعه من السقوط.
لم يكن سؤال أنجيلا يحمل سخرية، ولم يكن كاليان من بدأ الحديث عن ذلك، لكن ذكرى فعلتها القاسية ظهرت رغمًا عنه. أجاب باقتضاب: “بالطبع لا”. حاول إنهاء الموضوع وأخذ قلمه ليعود إلى الكتابة.
“… هل رأوا جميعًا؟”
صوت أنجيلا، الذي بدا وكأنه قطرة ماء تسقط في صمت الغرفة، انتشر بهدوء.
“ما حدث منذ قليل، عندما احتضنني سيادة الكونت.”
كان في نبرتها شيء يشبه أداء مسرحي. رفع كاليان عينيه عن القلم ونظر إلى أنجيلا.
“أليس من الأفضل لي أن أكون شريكة الكونت؟ فهو أفضل بكثير من أن يكون لرجل مثل سيادتك يا أنجيلا. شخص مثلكِ لا يناسبه إلا الزواج من شيطان. شخص مثل اللورد بلوبي، أليس كذلك؟ شخص مثل هذا يناسبك تمامًا.”
“…؟”
“هذا ما قيل لي.”
تغيرت ملامح كاليان من نظرة حائرة إلى تعبير غاضب مليء بالاضطراب.
اللورد بلوبي؟ ذلك الذي أُعدم بتهمة الخيانة، والذي كان مجرمًا بشعًا قتل ثماني نساء بين زوجاته وعشيقاته.
كم كان عمر أنجيلا عندما سمعت تلك الكلمات؟ فكر كاليان مليًا، ثم أغلق عينيه وتنهد.
“حقًا، هل قالت تلك الخادمة هذا الكلام؟”
“كاليان، أنت مخطئ للغاية في شيء ما. حتى لو كان الناس يخافونني، فإنهم لا ينحنون لي في الأماكن التي لا أكون فيها موجودة.”
كلمات أنجيلا كانت بالنسبة لكاليان وكأنها تعترف بأن مثل هذه الأمور حدثت مرات عديدة من قبل.
فتح كاليان عينيه ونظر إلى وجه أنجيلا. لم تظهر أي آثار للجرح العاطفي على ملامحها، وكأنها خبأت ألمها في أعماق بعيدة جدًا. لهذا السبب، لم يستطع كاليان أن يبعد نظره عنها؛ شعر أنه إذا أشاح بنظره، فقد تظهر تلك الجروح أخيرًا.
“هل حدث ذلك مرة أخرى؟”
سأل كاليان. بدلاً من الإجابة المباشرة، بدأت أنجيلا تسرد قصة عن أولئك الذين أرسلتهم لاستدعاء كاليان.
قالوا لها إنه لن يأتي، وبدؤوا يسخرون منها:
“ألا تظنين أنه لا يريد رؤيتك لأنه يكرهك؟ ربما إذا كنتِ تنتظرينه عارية، قد يأتي. هل أخبرك كيف يمكنكِ استدعاء رجل يرفضك؟ إن شئت، يمكنني أنا شخصيًا أن أنزع عنك ملابسك.”
ظل كاليان يستمع بصمت، لكن صوت أسنانه وهو يضغط عليها بغضب بدا واضحًا.
بعد ذلك، تحدثت أنجيلا عن الأيام التي تذكرها بدقة، وأخرى كانت فيها الأحداث غائمة في ذاكرتها.
ومع ذلك، واصل كاليان طرح الأسئلة بإصرار شديد، وكأنه يحقق مع مجرم: “متى حدث ذلك؟ من فعل ذلك؟ ماذا قالوا أيضًا؟”
“أنا… آسف.”
فجأة، وكأنه أدرك أن أسئلته كانت تحفر في جروحٍ حاولت أنجيلا إخفاءها، قدم كاليان اعتذاره على نحو غير متوقع. لم يكن صمت أنجيلا نابعًا من رغبتها في إخفاء شيء، بل لأنها شعرت بالشفقة تجاه وجه كاليان الذي بدا وكأنه يحمل أعباء العالم.
أنجيلا عرفت تلك النظرة جيدًا. نظرة أشبه بشخص يغرق في بحر عميق، لا يستطيع الوصول إلى القاع، فينتظر الموت بلا أمل. كانت نفس النظرة التي اعتادت أن تراها في انعكاسها في المرآة.
لذلك، لم تكن تريد التحدث أكثر. كانت تدرك جيدًا كيف يبدو الشعور حين ترتسم تلك الملامح.
نظرت نحو كاليان وأشارت بعينيها إلى الأوراق المبعثرة على مكتبه، تخبره أن يعود إلى عمله وينهي كتابة تقريره. ثم فتحت كتابها مجددًا، محاولةً صرف نفسها عن الأمر.
لكن ما إن وصلت عيناها إلى بداية قصة الأساطير التي لم تكن تبالي بها حتى شعرت بحركة أمامها. لم تكن تعلم متى اقترب كاليان، لكنه كان الآن واقفًا أمامها. أخذ الكتاب من يدها بلطف.
ثم، وكأن الزمن تباطأ، انخفض على إحدى ركبتيه أمامها، حتى كاد طرف ردائه يلامس فستانها. أمسك بيديها برقة، وكأنهما كنز لا يجب لمسه.
رفض كاليان أن يغفر لنفسه، وبقي يحدق فيها، كأنه ينتظر الحكم.
في تلك اللحظة، شعرت أنجيلا بشيء غريب. وجهه لم يكن يحمل أي عيب، كان طاهرًا لدرجة أنها لم تشعر برغبة في معاقبته، بل في تقبيله.
انحنت أنجيلا نحوه ببطء، والمسافة التي فصلتهما تقل شيئًا فشيئًا. شعرت أن اللحظة طويلة، لكنها لم تمانع. كان كل شيء يتجه نحو قبلة تجمعهما.
ثم جاء الصوت.
“طرق، طرق.”
صوت طرق الباب أعاد أنجيلا إلى الواقع. تراجعت بسرعة، وكأنها أرنب فزع. كانت اللحظة التي اقتربا فيها بطيئة، لكن انسحابها كان سريعًا كخاطف.
“سيدي، إنه إيميت.”
كان صوت إيميت يأتي من خلف الباب. تمالكت أنجيلا نفسها، وأطلقت سعالًا مترددًا لتخفي حرجها.
“آه، يبدو أنني أزعجتكم.”
دخل إيميت بعد أن أذن له كاليان. كانت ملامحه مليئة بالأسف وكأنه ارتكب خطأ فادحًا.
بحلول ذلك الوقت، كان كاليان قد عاد إلى مكتبه، جالسًا وكأنه لم يحدث شيء، بينما تظاهرت أنجيلا بالتجاهل وأوقفت سعالها. ومع ذلك، شعرت بحرارة تملأ وجهها.
“أظن أنني سأعود الآن.”
قالت أنجيلا وهي تتجه نحو الباب بحذر، تتجنب ملامسة الأكوام الورقية التي بدت كأنها قد تنهار في أي لحظة.
“سأرافقك إلى غرفتك.”
أمسك كاليان بيد أنجيلا، طالبًا منها الانتظار، لكنها لم تلتفت نحوه ولو للحظة، بل واصلت طريقها نحو الباب.
“هل تخشى أنني قد أضيع الطريق الذي جئت منه؟ يبدو أنك مشغول، لذا اهتم بشؤونك.”
غادرت أنجيلا المكتب بخطواتٍ مسرعة، لكن سرعان ما انهارت فجأةً وسط الممر، جالسةً على الأرض.
“دق، دق، دق.”
شعرت أن أحدهم يستخدم قلبها كآلة قرع، يدق بقوة وبلا توقف. فكرت وهي تضع يديها على وجنتيها الملتهبتين: “ربما أموت من خفقان القلب قبل أن أموت بسبب أي شيء آخر. هذا الشعور لا يطاق.” حتى أن ارتعاشًا خفيفًا كان يلمس خديها وهي تحاول تهدئة نفسها.
“علي الذهاب إلى القصر الإمبراطوري.”
كانت هذه كلمات كاليان حين جاء إلى غرفة أنجيلا في وقت مبكر من الصباح ليعلمها برحيله. كان مستعدًا لمغادرة القصر ومعه التقرير الذي عمل عليه طوال الليل.
“لن يستغرق الأمر وقتًا طويلاً.”
رغم قوله هذا، كانت أنجيلا تعرف أن الأمر قد يطول. إذا قرر الإمبراطور إطالة اللقاء أو دعاه إلى وجبة الإفطار، فلن يكون بمقدور كاليان الرفض.
بدلاً من البقاء في سريرها وانتظار عودته، قررت أنجيلا استغلال الوقت، فطلبت من هيلدا أن تصحبها إلى مكتبة القصر.
استجابت هيلدا بحماس، حيث بدا أن كاليان قد أعطى تعليماته مسبقًا بالسماح لأنجيلا بالتجول في المكتبة بحرية.
عندما وصلت إلى المكتبة، أتى أمين المكتبة، وهو رجل في منتصف العمر، وشرح لها المناطق التي يسمح للزوار باستخدامها والتي تُعتبر محظورة.
“ولكن يبدو أن كل المناطق مسموح بها بالنسبة لكِ يا آنسة.”
ما إن غادر أمين المكتبة إلى مكتبه حتى اقتربت هيلدا من أنجيلا وهمست مبتسمة: “قال كاليان بكل وضوح: اسمحي لها بفعل ما تشاء، أي شيء.“
“آه…”
اتسعت عينا أنجيلا قليلًا من الدهشة، قبل أن تتحول دهشتها إلى مزيج من الحرج والتوتر. بسرعة، أدارت وجهها نحو رفوف الكتب، متظاهرة بفحصها عن كثب حتى لا تبدو وكأنها تأثرت بما قالته هيلدا.
قضت وقتًا طويلًا تتنقل بين الرفوف، تبحث بلا هدف، حتى التقطت أخيرًا كتابًا واحدًا. سألت أمين المكتبة عما إذا كان بإمكانها أخذ الكتاب معها خارج المكتبة، وبعد أن حصلت على الموافقة، غادرت المكان.
حتى أثناء خروجها، لم تتوقف هيلدا عن التذكير بعبارة كاليان: “قال: أي شيء، كل ما تشائين.“
كانت أنجيلا تمسك الكتاب بقوة، تسير بخطى مثقلة بالدهشة والسعادة التي ملأت قلبها. وبينما كانت تقترب من غرفتها، كانت تفكر: “كم من الصفحات سأقرأ قبل أن يعود؟”
ولكن ما إن اقتربت من باب غرفتها حتى قطع أفكارها أحد خدم قصر فلورنس، الذي ظهر أمامها بوجهٍ يحمل مزيجًا من الكآبة والقلق.
انحنى الخادم أمامها وقال بصوتٍ مضطرب: “آنسة… لدي أمر يجب أن أخبرك به.”
هذا الخادم كان من أرسله كاليان لإحضار ماري من قصر بيلتون. وعلى الفور، تبددت كل المشاعر الجميلة التي كانت تغمر أنجيلا، وحل محلها توتر غريب. قبضت على الكتاب الذي بين يديها بقوة وهي تستمع.
“ذهبتُ لإحضار الخادمة ماري… لكن، للأسف، الخادمة الآن مسجونة في قبو القصر.”
“ماذا؟!”
“لست متأكدًا تمامًا من السبب، لكن هذا ما قيل لي.”
ظلت أنجيلا تحدق بعينين متسعتين، وكأنها لا تستطيع استيعاب ما سمعت للتو. أجفلت عيناها، كأن عاصفة قد هبت داخلهما، محاولةً فهم ما يجري.
سقط الكتاب من بين يديها دون أن تشعر، وقبل أن تتفوه بكلمة أخرى، بدأت تركض نحو الخارج وهي تهتف بأنها ستعود إلى القصر على الفور. لم تفكر حتى بتوديع كاليان، لأن الشعور بالقلق على ماري كان يتملكها تمامًا.
رغم محاولات هيلدا تهدئتها، وقولها بأنها ستجهز عربة على الفور، لم تتوقف أنجيلا عن الركض. فقط عندما صرخت هيلدا: “العربة ستكون أسرع!” توقفت أنجيلا، تلهث بشدة، قبل أن تأمر بالإسراع في تجهيزها.
لم يكن الأمر أمرًا بقدر ما كان استغاثة. كلماتها خرجت بشكل متقطع ومضطرب، لكنها وحدها لم تكن تدرك ذلك.
بفضل مساعدة خدم قصر فلورنس، تمكنت أنجيلا من العودة إلى قصر بيلتون. لكن كل ما كان يشغل تفكيرها لم يكن الشعور بالكراهية تجاه هذا المكان المروع، بل فكرة واحدة تسيطر عليها: “أين ماري؟”
“أين ماري؟!”
“عفواً؟!”
“سألتُك: أين خادمتي؟ إذا أعطيتني إجابة غبية أخرى، فسوف أقطع لسانك عديم الفائدة!”
عندما وصلت أنجيلا إلى سجن القصر، كانت الغضب يكسو وجهها، وصوتها يحمل تهديدًا واضحًا. لم يكن هناك مجال للنقاش أو التباطؤ.
شعرت بألم خانق في صدرها، وكأن قلبها يصرخ من شدة الانفعال. لكنها لم تهتم. كان كل ما تريده هو رؤية ماري، والخوف الذي يعتري الحراس جعلهم يدركون أن أنجيلا مستعدة لفعل أي شيء إذا لم يتحركوا على الفور.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "026"