من المستحيل أن يكون وجه أي قرية في النهار مماثلًا تمامًا لوجهها في الليل. مهما كانت العناية بالأمن، فإن الظلام دائمًا ما يكشف عن القاذورات التي تحاول أن تخفي نفسها، وتخرج الزواحف المقيتة التي تنتمي لعالم الظل.
كانت إحدى هذه الكائنات الحقيرة هي من أوقفت خطوات أنجيلا التي كانت تمضي بلا هدف، تبحث عن أي مكان تضع فيه قدمها. كانت من مخلفات الظلام، بقايا قذرة لفظتها العتمة.
“إلى أين تذهب الآنسة الجميلة بمفردها على هذه العجلة؟”
نظرت أنجيلا إلى الذراع التي قطعت طريقها. كانت ذراعًا كثيفة الشعر وسميكة. رغم أن الأمر قد يكون مجرد انطباع بسبب سلوكهم، إلا أنها بدت كذراع وحش، وحش لا فائدة منه حتى لو أراد أحد أن يبيعه.
“تنحَّ جانبًا إن كنت لا ترغب في الموت.”
كانت تلك الكائنات تافهة لدرجة أن أنجيلا لم تجد مبررًا لإنفاق طاقتها حتى على تعابير وجهها أثناء مخاطبتهم. قالت كلماتها ببرود وجفاء، بلا أدنى تعبير.
لكنها كانت تدرك تمامًا أن الكلام وحده لا يُجدي مع هؤلاء. فلو كانوا يفهمون بالكلام، لما ارتكبوا أفعالهم القذرة هذه.
“من الأفضل أن تلتزمي الهدوء إذا أردتِ العودة إلى منزلك حيّة.”
أشار الرجل الذي وقف أمامها برأسه إلى أحد أصدقائه، ليتقدم ذلك الآخر ويمد يده السميكة نحو أنجيلا.
ضربة!
ردت أنجيلا باستخدام مروحتها، وضربت اليد الوقحة التي لم تأذن لها بالاقتراب.
“هذه المرأة… تعتقد أنها شخص مهم لأننا ناديناها ‘آنسة’؟”
الرجل الذي تلقى الضربة تخلص من ابتسامته الوقحة وتحول وجهه إلى قناع من الغضب.
“ماذا تنتظر؟ أمسكوا بها!”
أخذ الرجل الذي كان يقف أمامها المروحة من يدها عنوة، ثم وضعها بشكل فظ في حزامه وكأنها غنيمة ثمينة.
خلال ذلك، قبض الرجل الآخر على ذراعي أنجيلا، وقيد حركتها تمامًا. لكن أنجيلا، وهي تقاوم وتحاول تحرير نفسها، رفعت قدمها وركلت ذلك الوحش في وسطه بقوة.
“آه!”
صرخ الرجل من شدة الألم وسقط على الأرض متلوّيًا.
استغلت أنجيلا لحظة ارتباك الرجل الذي كان يمسك ذراعيها بعد أن شتت انتباهه، وداسَت على قدمه بكعب حذائها، مما أجبره على تخفيف قبضته. شعرت أنجيلا بأنها على وشك الإفلات، لكن الرجل الآخر صاح غاضبًا:
“أمسكها جيدًا! إذا أفلتت، سأبيعك لسداد ديوني في الحانة!”
بصق الرجل على الأرض بغضب قبل أن يهجم عليها بعنف، وكأن كل ما حدث سابقًا كان مجرد مزاح.
بدأ ينهبها دون خجل. نزع الأساور من معصمها، وانتزع الخواتم والقفازات عن أصابعها دون اكتراث، وحتى بروش الوشاح الذي وضعته لها ماري بابتسامة مشرقة، أصبح الآن في جيبه.
كان لمسهم الملوث يثير اشمئزاز أنجيلا. عضت على أسنانها بقوة وحاولت تحرير نفسها بكل قوتها، لكن إحدى أيدي الرجل وصلت إلى مؤخرة عنقها. حينها، لم تجد أنجيلا سوى خيار واحد: بصقت في وجهه بقوة، تعبيرًا عن احتقارها المطلق.
“أيتها الحقيرة!”
صرخ الرجل بغضب، واندفع ليمسك بعقد أنجيلا بعنف، فانتزع السلسلة من رقبتها، مخلفًا خدشًا رقيقًا على بشرتها. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبقوته الهمجية تمزق جزء من مقدمة ثوبها، كاشفًا عن بشرتها البيضاء الناعمة.
“ها، يبدو أن الجواهر الحقيقية كانت مخفية في مكان آخر.”
قال الرجل وهو يتفحص الفجوة التي انكشفت، ثم ابتلع ريقه بشهية واضحة. ومن خلفه، سُمع صوت لعاب يُبلع من آخرين كانوا يشاهدون المشهد بشغف مقيت.
“نعم، نعم. عادةً ما تكون الأشياء الثمينة والجميلة مخفية بعناية بعيدًا عن الأنظار.”
تحدّق أنجيلا بحدة في اليد التي تقترب منها، وقد اشتعل في قلبها شعور قاتم واحد:
سأقتلكم. حتى لو انفجر قلبي، سأقتلكم جميعًا.
كان كاليان ورجاله قد اخترقوا مسار الجبال بسرعة جنونية، غير مبالين بخطورة الطريق، ووصلوا إلى القرية التي غطتها ظلمة الليل. بدأوا بتفتيش كل زاوية وشارع، من الطرق الرئيسية إلى الأزقة الضيقة، وكأنهم ينقبون عن كنز مدفون.
استمر البحث المحموم لما يقارب ثلاثين دقيقة، حتى انطلق صوت أحد الجنود صائحًا:
“لقد وجدنا الآنسة بيلتون!”
قفز الجندي عن حصانه، ووجه بصره نحو الأعلى وهو يصفر بصوت عالٍ في الهواء. لم تمض لحظات حتى تردد صدى صوت الصافرة في أرجاء القرية، لتتسارع خطوات حوافر الخيول في اتجاه الصوت.
كان الجنود الآخرون يقتربون، وعلى الجندي الذي اكتشف أنجيلا أن يحسم الوضع قبل وصولهم. لكنه توقف، مذهولًا أمام المشهد الذي رآه.
كانت المهمة واضحة: العثور على الآنسة أنجيلا، التي افترضوا أنها تائهة في هذا الليل الخطير بلا حماية. لكن المفاجأة كانت أن الرجلين اللذين كان يُفترض أنهما مصدر الخطر هما الآن في حالة يُرثى لها.
كان أحدهما ملقى على الأرض، ينازع بين الحياة والموت، وجسمه مطعون بأداة غريبة بدت كأنها زينة نسائية كان يُفترض أن تُعلق على رأس امرأة. أما الآخر، فكان جالسًا على الأرض، يرتجف، وعيناه تحدقان في أنجيلا التي تمسك زينة أخرى في يدها، وكأنها تستعد لغرسها في عنقه.
نظر الجندي إلى أنجيلا. كانت تقف بثبات، أنفاسها تتسارع، ويديها مغطاتين بالدماء. شعرها كان خاليًا من أي زينة، مما أوحى بأن ما في يدها كان في الأصل ملكًا لها.
أما الرجل الجالس، فقد بدت عليه علامات الرعب، وكأنه أيقن أن الموت بات قريبًا منه.
شعر الجندي بالارتباك. كان من المفترض أن يكون هنا لإنقاذ السيدة، ولكن المشهد أمامه جعله يشك في المهمة برمتها. ابتلع ريقه بصعوبة، محاولًا استيعاب ما يحدث.
هل عليّ التدخل؟ أم أتركها؟
كان في خضم هذه التساؤلات عندما وصل بقية الجنود إلى المكان.
“يا إلهي…”
“ماذا نفعل الآن؟”
ولكن بدلًا من تقديم حل، وقفوا جميعًا مذهولين أمام المشهد، غير قادرين على اتخاذ خطوة. تضاعف عدد الحائرين، لكن المشكلة بقيت كما هي: ماذا نفعل الآن؟
رغم كل ما يحدث، كانت خطوات أنجيلا تتقدم بثبات نحو الرجل، وكأنها مصممة على غرز آخر زينة شعر تحملها في يدها السائرة نحو عنقه السميك. بدا الأمر وكأنها لن تشعر بالراحة حتى تُتم هذا الفعل.
وفي اللحظة التي رفعت فيها أنجيلا يدها عالية ممسكة بالزينة اللامعة استعدادًا للغرز، ظهر كاليان.
“أغمضي عينيك.”
قال كاليان بصوت هادئ، وهو يمسك يدها المرتفعة برفق. كان حضوره يشبه الظلام الدامس الذي يطغى على كل شيء، وقبل أن يدرك الآخرون الأمر، وقف كاليان أمام أنجيلا وكأن العالم من حوله لم يعد يعنيه شيئًا.
شعره الأسود انساب كستار ليحجب أنجيلا عن العالم، وفي تلك اللحظة، تلاشت القوة التي جعلت يدها ترتجف من فرط شدتها. سقطت الزينة من يدها على الأرض، وفي سقوطها، بدا أنها مجرد زينة عادية، لا أكثر.
الجند الذين ترددوا أمام جنون أنجيلا شعروا بالخجل، وخفضوا رؤوسهم في صمت.
“كاليان…؟”
قالت أنجيلا بصوت لا يكاد يُسمع، وكأنها لا تصدق ما تراه أمامها. نظرتها كانت ضائعة، كأنها تعيش في حلم.
أجاب بثقة، وفي الوقت نفسه، أغلق عينيها بيديه بلطف.
“أغمضي عينيك، انتظري قليلًا فقط، لن يستغرق الأمر وقتًا طويلًا.”
ضغط بأصابعه على جفنيها بخفة، طالبًا منها الطمأنينة والهدوء.
في تلك اللحظة، الرجل الذي شعر بالراحة لرؤية الزينة تسقط من يدها، أصيب بصدمة كبيرة وهو ينظر إلى معصمه الذي قُطع فجأة. لم يشعر بالألم حتى أدرك أن يده المقطوعة قد سقطت على الأرض. حدق في يده المقطوعة، وكأن عقله يرفض تصديق الواقع، ثم أطلق صرخة مفزعة:
“آآآه! ككك…!”
كان يتلوى على الأرض، ممسكًا بمعصمه النازف بشدة، وكأن حياته كلها انهارت في لحظة.
أما رفيقه، الذي كان يحاول الوقوف والهرب بعد أن أدرك أن البقاء يعني فقدان أطرافه، فقد انتزع الزينة المغروسة في عنقه بعنف، غير مكترث بالدماء التي تدفقت بغزارة. لكنه لم يبتعد كثيرًا؛ فقد تعثر وسقط على الأرض فجأة.
حاول معرفة ما حدث، يحدق في جسده المرتبك، إلى أن رأى السبب بوضوح.
“آآآه! لاااا!”
كانت هناك سيف طويل اخترق فخذه، والدماء تتدفق بغزارة من حوله. صرخ بأعلى صوته، لكن صرخاته لم تحرك مشاعر كاليان الذي وقف بثبات وأمر رجاله ببرود:
“جهزوا عربة للسيدة بيلتون.”
“أمرُكَ، سيدي.”
“ثم ألقوا بهم في زنزانة القبو داخل القصر. سأتولى تعذيبهم.”
“…حاضر، مفهوم.”
كلمة “تعذيب” جعلت الفرسان يترددون للحظة قبل أن يردوا على أمر كاليان. لقد كان ذلك تصريحًا صادمًا بالنسبة لهم.
كاليان، الذي عاش طفولته كمحارب مرتزق في ميادين الحروب وشهد شتى ألوان القسوة، كان معروفًا بازدرائه لفكرة تعذيب الأسرى. كان يؤمن بأن الطريقة الأكثر شرفًا للتعامل مع الأعداء هي قتلهم بضربة واحدة تُنهي معاناتهم فورًا، وكان يعلم فرسانه ذلك.
رغم أنه كان يقوم بأعمال القتل بحجة الدفاع أو تنفيذ الواجب، إلا أن كاليان كان يُقدر الحياة أكثر من أي شخص آخر. ومع ذلك، أن تصل الأمور إلى حد جعله ينطق بكلمة “تعذيب” كان إشارة إلى حجم الجنون الذي ارتكبه هؤلاء الحمقى الذين تجرأوا على إيذاء أنجيلا.
بينما انصرف الفرسان لتنفيذ الأمر، كانوا يلقون نظرات جانبية على كاليان، الذي كان يتجه نحو أنجيلا وكأنها مركز الكون في تلك اللحظة.
“لا يبدو أنك تستمعين لما يُقال.”
بعد أن أصدر أوامره وعاد، وجد كاليان أنجيلا وقد فتحت عينيها رغم طلبه منها أن تُبقيهما مغمضتين. عاتبها بنبرة جمعت بين الجدية والسخرية.
“أردت أن أرى.”
ردت أنجيلا بابتسامة خفيفة، وكأنها في لحظة نادرة من الصفاء. بدا أنها نسيت كل شيء للحظة، حتى منزل بيلتون وحتى إيفون التي تركتها لتعتني ببياتريس.
“أردتِ أن تري يدي وهي تقطع أيدي الآخرين؟”
قال كاليان بينما كان يُصلح وضع العباءة التي ألقاها عليها حتى لا تنزلق.
“بالطبع لا، ليس هذا ما أردت رؤيته.”
ضحكت أنجيلا بخفة وكأنها تراه يمزح.
“كنت أريد أن أرى كاليان وهو يغضب من أجلي.”
“…”
“سمعت أنك غضبت على رايموند بسببي. شعرت بالأسف لأنني لم أكن هناك لأراه.”
“تأسفين على أشياء غريبة.”
“أنت دائمًا تغضب مني وحدي.”
“هذا ليس صحيحًا…”
توقف كاليان فجأة عن الحديث، وشُد فكه بقوة حتى بدت العروق واضحة على عنقه. كان يعرف في داخله أن لديه تاريخًا في ذلك، ولم يستطع إنكار الأمر بسهولة.
تذكر على الفور ما سمعه من ميري مرتين على الأقل. ربما كانت هناك لحظات أخرى في الماضي لم تعرفها ميري. ربما كان هناك وقت غضب فيه على أنجيلا دون أن يدرك كيف آلمها ذلك. وربما كانت هناك ليالٍ جلست فيها وحدها تنظر من نافذتها، تتساءل عما فعلته لاستحقاق هذا.
كان من المفترض أن يقدم كاليان اعتذاره منذ وقت طويل، ولكنه تأخر بسبب الحالة التي كانت فيها أنجيلا، حيث لم تكن تستيقظ. ومع ذلك، كان هذا الاعتذار يجب أن يُقال لها منذ البداية.
لكن رد فعل أنجيلا بدا غريبًا. على الرغم من أنها قد تلقت الرسالة التي أرسلها كاليان يخبرها فيها بأن لديه اعتذارًا ليقدمه، إلا أن ملامحها الآن كانت أشبه بمن سمع شيئًا لم يكن يتوقع سماعه.
تم تجهيز العربة بسرعة. كانت عربة تعود لعائلة فلورنس، فخمة ولكنها أقرب إلى الجلال من البهرجة، ما جعلها تجذب الأنظار. بمساعدة كاليان، صعدت أنجيلا إلى العربة.
وبعد أن تأكد كاليان من أنها جلست في مكانها، صعد هو الآخر إلى العربة وجلس بجانبها.
أنجيلا، التي كانت تظن أنه سيرسلها وحدها ويغادر، نظرت إليه بدهشة وهي تستوعب تصرفه غير المتوقع.
“سنذهب إلى قصر بيلتون.”
أصدر كاليان التعليمات بصوت حازم من نافذة العربة.
وبينما كانت أنجيلا تحدق في ملامحه الجانبية الوسيمة، شعرت بشجاعة مفاجئة تتسلل إلى قلبها. كان هذا هو الوقت المثالي؛ فقد جلس كاليان بجانبها رغم أنه عادة ما كان يرفض القرب الجسدي بسبب طبيعة شخصيته المتحفظة.
مدت يدها بحذر، وأمسكت بيد كاليان التي كانت موضوعة بجانبها. وكما توقعت، انتفض قليلًا في البداية ولكنه أكمل إعطاء أوامره، ولم يسحب يده من يدها حتى بعد أن انطلقت العربة.
“لقد كان يومًا شاقًا، لكنه يستحق كل هذا العناء من أجل هذه اللحظة”، فكرت أنجيلا، وهي تنتظر بصبر أن تصل العربة إلى قصر بيلتون.
“يدك ترتجف.”
قال كاليان بصوت منخفض، مشيرًا إلى الارتعاش الذي شعر به في يدها، ثم أمسك يدها بقوة أكبر.
“لست أنا من يرتجف، بل أنت.”
ردت أنجيلا بنفس الثقة، وأحكمت قبضتها على يده بدورها.
تمنت لو أن الطريق إلى قصر بيلتون كان أطول مما هو عليه. أرادت أن تستمر هذه اللحظات المشتركة بينهما قليلاً.
“ما هذا؟”
قطع صوت كاليان الحازم والمفاجئ أفكارها، وكأنه قد لاحظ شيئًا غير مقبول.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "023"